الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها
فدلالة اللفظ فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى أو جزأه أو لازمه.
ذكر ابن سينا فيها مذهبين: أحدهما هذا. والآخر أنها كون اللفظ بحيث إذا أطلق دل.
حجة الأول: أنه إذا دار اللفظ بين المتخاطبين فإن فهم منه شيء قيل دل عليه، وإن لم يفهم منه شيء قيل لم يدل عليه؛ فدار إطلاق لفظ الدلالة مع وجود (1) الفهم وجوداً وعدماً؛ فدل على أنه مسماه، كما دار لفظ الإنسان مع الحيوان الناطق وجميع المسميات مع أسمائها.
حجة الفريق الآخر: أن الدلالة صفة اللفظ لأنا نقول لفظ دال، والفهم صفة للسامع فأين أحدهما من الآخر؟! أجاب الأولون بأن الدلالة كالصياغة والنجارة والخياطة يجمعها وزن فعالة بكسر الفاء؛ فكما تقول للشخص إنه صائغ وتاجر وخائط، مع أن الصياغة في المصوغ والنجارة في الخشبة والخياطة في الثوب. فكذلك هنا اللفظ دال والدلالة في السامع؛ ولأن ما ذكرتموه تسمية للشيء باعتبار ما هو قابل له، وما ذكرناه تسمية باعتبار ما هو واقع بالفعل، فيكون ما ذكرناه حقيقة وما ذكرتموه مجازاً، والحقيقة أولى. والذي أختاره أن دلالة اللفظ إفهام السامع لا فهم السامع، فيسلم من المجاز ومن كون صفة الشيء في غيره.
وأما قولهم الصياغة في المصوغ فذلك من باب تسمية المفعول بالمصدر والصياغة ونحوها فعل الصائغ، وفعله ليس في المصوغ بل أثره في المصوغ، وأما تلك
(1) الأولى حذف لفظة وجود.
الحركات التي هي المصدر ففنيت من حينها وليست في المصوغ، وكذلك بقية النظائر.
ولها ثلاثة أنواع: دلالة المطابقة، وهي فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى. ودلالة التضمن وهي فهم السامع من كلام المتكلم (1) جزء المسمى، ودلالة الالتزام وهي فهم السامع من كلام المتكلم لازم المسمى البين وهو اللازم له في الذهن، فالأول كفهم مجموع الخمستين من لفظ العشرة. والثاني كفهم الخمسة وحدها من اللفظ. الثالث كفهم الزوجية من اللفظ.
الحقائق أربعة أقسام متلازمة في الخارج وفي الذهن كالسرير والارتفاع من الأرض، فإذا وقع في الخارج وقع مع الارتفاع، وإن تُصور تصور مع الارتفاع، وغير متلازمة فيهما كزيد والسرير فقد يوجد في الخارج بغير زيد وقد يتصوره العقل بغير زيد ويذهل عن زيد. ومتلازمة في الخارج فقط كالسرير والإمكان فإن الإمكان لا ينفك عن السرير فيا لخارج أما في الذهن فقد يذهل عن الإمكان إذا تصورنا السرير فلا يكون ملازماً في الذهن؛ لأنا نعني باللازم ما لا يفارق، ومتلازمة في الذهن فقط كالسرير إذا أخذ زيد معه بقيد كونه نجاراً للسرير، فإنَّ تصوره من هذه الجهة يستلزم تصور السرير قطعاً في الذهن، وإن لم تكن بينهما
ملازمة في الخارج، وكذلك السواد إذا تصورناه من حيث إنه ضد البياض يجب حضور البياض معه في الذهن جزماً. أما لو تصورناه من حيث هو السواد، أو زيد لا من جهة أنه نجار السرير لا يجب حضورهما، فالملازمة إنما حصلت من جهة هذه النسبة ولا تلازم بينهما في الخارج، بل السواد ينافي البياض. وقد مثلت الأربعة بالسرير للتيسير على المتعلم.
فنعني باللازم البين ما كان لازماً في الذهن فيندرج فيه قسمان: المتلازمان
(1) في الأصول: فهم السامع كلام المتكلم بدون (من) والصحيح ما أثبتناه.
فيهما والمتلازمان في الذهن فقط، ويخرج عنه قسمان: المتلازمان في الخارج فقط واللذان لا تلازم بينهما.
وسر اشتراط اللزوم فيا لذهن أن اللفظ إذا أفاد مسماه واستلزم مسماه لازمه في الذهن كان حضور ذلك اللازم في الذهن والشعور به منسوباً لذلك اللفظ، فقيل اللفظ دل عليه بالالتزام، أما إذا لم يلزم حضوره في الذهن من مجرد النطق بذلك اللفظ وحضور مسماه في الذهن كان حضوره في الذهن منسوباً لسبب آخر؛ إذ لا بد في حضوره من سبب؛ فإفادته منسوبة لذلك السبب لا اللفظ، فلا يقال إنه فهم من دلالة الألفاظ التي نطق بها، فلفظ السقف يدل بالمطابقة على مجموع الخشب والجريد مثلا مطابقة، وعلى الخشب وحده تضمناً لأنه جزء السقف وعلى الحائط التزاماً؛ لأن الحائط لازم للسقف.
فإن قلت هل يشترط في اللزوم أن يكون قطعياً؟
قلت لا، بل يكفي الظن وأدنى ملازمة في بعض الصور؛ فلو أنك أول مرة رأيت فيها زيداً كان عمرو معه ثم جاءك زيد بعد ذلك وحده انتقل ذهنك إلى عمرو بمجرد اقترانه به في تلك الحالة، وكذلك ينتقل الذهن عند سماع لفظ زيد لعمرو وجميع ما قارنه في تلك الحالة، وكذلك ذكر لفظ البلاد والغزوات وغيرها يوجب انتقال ذهن السامع لما قارنها عند مباشرته لها، فالقطع ليس بشرط.
فإن قلت: قولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فالعالم حادث. مجموع لفظ هذا البرهان دل على حدوث العلم وليس بالمطابقة لأنه لم يوضع بإزائه ولا بالتضمن لأن العالم ليس جزء مسمى هذا اللفظ، ولا بالتزام لأن حدوث العالم ليس لازماً لمسمى هذا اللفظ، بل هذا اللفظ لم يوضح مجموعه لشيء البتة حتى يكون لذلك لمسمى جزء ولازم.
قلت: دلالة هذا اللفظ على حدوث العالم بالعقل لا باللفظ، ونحن إنما حصرنا دلالة اللفظ من حيث الوضع وبقية الدلالات لم نتعرض لها، وكذلك اللفظ
المهمل إذا نطق به مراراً دل على حياة المتكلم به بالعادة لا بالوضع، وليس مندرجاً في هذه الدلالات الثلاث، ولم أتعرض إلا للحصر في الدلالة الوضعية خاصة.
فإن قلت: فصيغة العموم مساهماً كلية، ودلالتا على فرد منها خارجة عن الثلاث وهي وضعية؛ فإن صيغة المشركين تدل على زيد المشرك، وليس بالمطابقة؛ لأنه ليس كمال مسمى اللفظ ولا بالتضمن لأن التضمين دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يقابله الكل ومسمى صيغة العموم ليس كلاً، وإلا لتعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النفي أو النهي، فإنه لا يلزم من نفي المجموع نفي جزئه ولا من النهي عن المجموع النهي عن جزئه بخلاف الأمر لثبوت، وخبر الثبوت، فحينئذ مسمى العام كلية لا كل، والذي يقابل الكلية الجزئية لا الجزء لكنهم قالوا في دلالة التضمين هي دلالة اللفظ على جزء مسماه وهذا ليس جزءاَ فلا يدل اللفظ عليه تضمناً ولا التزاماً؛ لأن الفرد إذا كان لازم المسمى وبقية الأفراد مثله، فأين المسمى حينئذ؟! فلا يدل اللفظ عليه التزاماً؛ فبطلت الدلالات الثلاث، مع أن الصيغة تدل بالوضع فما انحصرت دلالات الوضع في الثلاث.
قلت: هذا سؤال صعب وقد أورده في شرح المحصول وأجبت عنه بشيء فيه نكادة وفي النفس منه شيء.
والدلالة باللفظ هي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة أو غير موضعه وهو المجاز. والفرق بينهما أن هذه صفة للمتكلم والفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وتلك صفة للسامع وعلم أو ظن قائم بالقلب، ولهذه نوعان وهما الحقيقة والمجاز لا يعرضان لتلك، وأنواع تلك ثلاثة لا تعرض لهذه.
الباء في الدلالة باللفظ للاستعانة، لأن المتكلم يستعين بنطقه على إفهام السامع ما في نفسه فهي كالباء في كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم، والتفرقة بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من مهمات مباحث الألفاظ، وقد ذكرت منها الفرق بينهما من ثلاثة أوجه، وفي شرح المحصول ذكرت خمسة عشر وجهاً، وهذه الثلاثة تكفي في هذا المختصر. وقولي أو في غير موضوعه وهو المجاز، يتعين أن يزاد فيه لعلاقة بينهما، فإن بدونهما لا مجاز، ووجه تنويع دلالة اللفظ إلى العلم أو الظن أن الإنسان إذا فهم من كلام إنسان معنى قد يقطع به وقد يظن من غير قطع، وهو كثير في الكلام.