الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس في أسماء الألفاظ
المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر كالعين. وقولنا كل واحد احتراز من أسماع العدد فإنها لمجموع المعاني لا لكل واحد، ولا حاجة لقولنا مختلفين فإن الوضع يستحيل للمثلين فإن التعيين إن اعتبر في التسمية كانا مختلفين وإن لم يعتبر كانا واحداً، والواحد ليس بمثلين.
جرت عادة المصنفين أن يقولوا هو اللفظ الموضوع لمعنيين مختلفين فيندرج في لفظهم أسماء الأعداد، فإن لفظ الاثنين يصدق عليه أنه وضع لمعنيين وهما الوحدتان اللتان تركب منهما مفهوم الاثنين، ولفظ الثلاثة يصدق عليه أنه وضع لأكثر من معنيين، وكذلك بقية أسماء العدد، مع أنها كلها غير مشتركة فيكون الحد غير مانع، فقلت أنا: لكل واحد لتخرج أسماء الأعداد لأنها للمجموعات لا لكل واحد، ويقولون: إن مختلفين يحترز به عن الأسماء المتواطئة، كلفظ الإنسان فإنه يتناول جميع الأناسي وهي متماثلة من حيث إنها أناسي؛ مع أن اللفظ غير مشترك وهذا لا يحتاج غليه؛ فإن لفظ الإنسان وغيره من أسماء الأنواع والأجناس إنما وضع للقد المشترك بينها لا لها، والمشترك مفهوم واحد، فما وضع اللفظ إلا لواحد، وقد خرج هذا بقولي لمعنيين؛ فلا حاجة إلى إخراجه بقيد آخر لأنه حشو في الحد بغير فائدة، والوضع للمتماثلين مستحيل لما ذكرته من البرهان في الأصل.
وقولي فصاعداً لأن الاشتراك قد يقع بين أكثر من اثنين كالعين وغيره من الألفاظ، وبين معنيين كالقرء والحيض والطهر (1) والجون للأبيض والأسود.
(1) أنظر صحيفة وهامش 21 من هذا الكتاب.
فائدة: ينبغي أن يفرق بين اللفظ المشترك وبين اللفظ الموضوع للمشترك لأن اللفظ الأول مشترك والثاني لمعنى واحد مشترك، واللفظ ليس بمشترك. والأول مجمل والثاني ليس بمجمل لاتحاد مسماه.
والمتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستوفي محاله كالرجل. والمشكك هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله إما بالكثرة وبالقلة كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس، أو بإمكان التغير واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن، أو بالاستغناء والافتقار كالموجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض.
المتواطئ مشتق من التواطؤ الذي هو التوافق يقال تواطأ القوم على الأمر إذا اتفقوا عليه، ولما توافقت محال مسمى هذا اللفظ في مسماه سمي متواطئاً. والمشكك من الشك لأنه يشكك الناظر فيه هل هو مشترك أو متواطئ فإن نظر إلى إطلاقه على المختلفات قال هو مشترك كالقراء أو إلى أن مسماه واحد قال هو متواطئ، والمشترك مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعنى فيها بالدار المشتركة بين الشركاء، والمترادفة من الردف، شبه اجتماع اللفظين على معنى واحد باجتماع الراكبين على ردف الدابة وظهرها، والمتباينة من البين الذي هو الافتراق والبعد، شبه افتراق المسميات في حقائقها بافتراق الحقائق في بقاعها.
وأصل القسمة فيها رباعية وهي أن اللفظ والمعنى إما أن يتكثرا معاً وهي المتباينة، أو يتحدا معاً كزيد والإنسان وهي المتواطئة، أو يتكثر اللفظ فقط وهي المترادفة، أو المعنى فقط وهي المشتركة. وقولنا في المتواطئة الموضوعة لمعنى كلي احترازاً عن العلم فإنه لجزئي، وقولنا مستوفي محاله احترازاً عن مشكك فإنه مختلف في محاله، وقولي في المشكك مختلف في محاله احترازاً عن المتواطئ فإنه مستوفي محاله فلا فارق بينهما إلا التساوي والاختلاف في المحال، ثم الاختلاف قد يقع بكثرة الأفراد وقلتها كالنور فإن أفراد النور في الشمس أكثر وفي السراج أقل، وقد يكون بامتناع التغير وقبوله كالوجود فإن الوجود الواجب لا يقبل التغير
ولا الفناء ولا العدم ولا الزوال، والوجود الممكن يخلاف ذلك، فصار وجوب الوجود وامتناع التغير كالكثرة في الشمس وقبول ذلك كالقلة في السراج، وقد يكون بالاستغناء كالجوهر مستغن عن محل يقوم به، والعرض مفتقر لمحل يقوم به، فكان الاستغناء كالكثرة في الشمس والافتقار كالقلة في السراج. فهذه أسباب التشكيك وهي ثلاثة وأصلها الأول.
سؤال قوي: وهو أن الرتبة العليا والدنيا قد اشتركتا في مقدار من المسمى وامتازت العليا بزيادة والدنيا بنقص، فنقول: اللفظ إذا كان موضوعاً للمشترك فقط فهذا المشترك مستوي محاله، إنما صحبه زيادة في محل ونقص في محل آخر، وإذا كان مستوياً كان متواطئاً لا مشككاً؛ فحصول الاستواء في المحال والاختلاف بغير المسمى لا يقدح، بدليل أن المتواطئ لا بد أن تختلف مسمياته بأمور خارجة عن المسمى؛ فإن مفهوم الرجل قد اختلف بغير الرجولية من الطول والقصر والعلم والجهل وغير ذلك، حتى عد الرجل الواحد بالألف من الرجال، وذلك لا يقدح في كونه متواطئاً، وإن كان اللفظ المشكك موضوعاً للمشترك بين محاله بقيد الزيادة في أحد المحلين والنقص في الآخر فهو موضوع لمختلفين فهو مشترك لا مشكك، فلا حقيقة حينئذ للمشكك، بل هو إما متواطئ وإما مشترك.
جوابه: أن ما وقع به الاختلاف إن كان من جنس المسمى فهو المشكك فإن زيادة النور نور، أو من غير جنسه فهو المتواطئ فإن العلم والشجاعة وغير ذلك أجناس أخر مباينة للرجولية وليست منها، فوقع الاصطلاح على أن المختلف بجنسه هو المشكك والمختلف بغير جنسه هو المتواطئ، واللفظ لم يوضع في القسمين إلا المشترك مع قطع النظر عن الزيادة والنقص، فإن قلت: فيتعين عليك أن تزيد في الحد في المشكك، فتقول: مختلف في محاله بجنسه حتى يخرج المتواطئ الذي اختلافه من غير جنسه وإلا فحدك باطل لعدم المنع لدخول المتواطئ فيه، قلت: نعم ذلك حق.
والمترادفة هي الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد كالقمح والبر والحنطة،
والمتباينة هي الألفاظ الموضوع كل واحد منها لمعنى كالإنسان والفرس والطير، ولو كانت للذات والصفة وصفة الصفة، تحو: زيد متكلم فصيح.
متى اختلف المفهومان، أعني (1) المسميين فاللفظان متباينان وإن كانا في الخارج متحدين، كاللون والسواد متحدان في الخارج ولفظاهما متباينان لتغاير المفهومين عند العقل، وقد يكون متعددين في الخارج كالإنسان والفرس.
والمرتجل هو اللفظ الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر.
المرتجل مشتق من الرجل ومنه أنشد ارتجالاً أي أنشد من غير روية وفكرة؛ لأن شأن الواقف على رجل يشتغل بسقوطه عن فكرته، فشبه الذي لم يسبق بوضع بالذي لم يسبق بفكر، هذا هو اصطلاح الأدباء. ذكره صاحب المفصل وغره، فجعفر في النهر
الصغير مرتجل وفي الشخص علماً ليس بمرتجل لتقدم وضعه للنهر الصغير، وكذلك زيد مرتجل بالنسبة إلى المصدر الذي نقول فيه زاد يزيد زيداً، وغير مرتجل بالنسبة لجعله علماً على شخص معين، وقال الإمام فخر الدين هو المنقول عن مسماه لغير علاقة، ولم أر أحداً غيره قاله فيكون باطلاً لأنه مفسر لاصطلاح الناس، فإذا لم يوجد لغيره لم يكن اصطلاحاً لغيره، فعلى رأيه يكون جعفر وزيد في الشخصين المعينين مرتجلين لأنهما نقلا لا لعلاقة.
والعلم: هو الموضوع لجزئي كزيد.
هذا هو علم الشخص ويكون في الأناسي كزيد، والملائكة كجبريل، وقل في اسم الله تعالى: إنه علم، قاله صاحب الكشاف لجريان النعوت عليه، فيقال الله الملك، القدوس. وتجري الأعلام في الحيوان البهيمي نحو داحس والغبراء (2)
(1) في الأصل: بين المسميين والصحيح ما أثبتناه.
(2)
داحس والغرباء اسما فرسين لقيس بن زهير بن خذيمة العبسي. ومنه حرب داحس: وذلك أن قيساً هذا وحذيفة بن بدر الذبياني ثم الفزاري تراهنا على سبق عشرين بعيراً وجعلا الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين ليلة، والمجرى من ذات الإصاد، فأجرى قيس داحساً والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء، فوضعت بنو فزارة كميناً على الطريق، فردوا الغبراء وللطموها، فهاجت الحرب بين عبس وذبيان أربعين سنة.
للخيل، والبلاد كمكة، والجبال كأحد، والأنهار كالنيل، والبقاع كنجد وتهامة. وأما علم الجنس كأسامة وثعالة فإنه موضوع لكلي بقيد تشخصه في الذهن، فيصدق أسامة على كل أسد في العالم وثعالة على الثعلب أين وجد، وكذلك جميع أعلام الأجناس. وقد ذكر منها صاحب المفصل جملاً كثيرة.
وتحرير الفرق بين علم الأجناس وعلم الشخص، وعلم الجنس واسم الجنس وهو من نفائس المباحث ومشكلات المطالب، وكان الخسروشاهي يقرره ولم أسمعه من أحد إلا منه، وكان يقول ما في البلاد المصرية من يعرفه وهو: أن الوضع فرع التصور فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها فتلك الصورة الكائنة ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن هذه الصورة واقعة في [نفس الواضع وفي (1) ] هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد، فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث عمومها وخصوصها تنطبق على كل أسد في العالم، بسبب أنا إنما أخذنا ما في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على
الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد واسامة على جميع الأسود لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنيةن والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص أن علم الشخص موضوع الحقيقة بقيد التشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية بقيد التشخص الذهني.
المضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره إلى لفظ منفصل عنه إن كان غائباً أو قرينة تكلم أو خطاب؛ فقولنا إلى لفظ احترازاً من ألفاظ الإشارة، وقولنا منفصل عنه احترازاً من الموصولات، وقولنا قرينة تكلم أو خطاب ليدخل فيه ضمير المتكلم والمخاطب.
المضمر مأخوذ من الضمور لأنه مختصر قليل الحروف بالنسبة إلى الظاهر،
(1) ساقطة من النسخ المطبوعة.
أو من الضمير لأنه كناية عما في الضمير وهو الاسم الظاهر أو مسماه، ولا بد له من مفسر، فقد يكون لفظاً منفصلاً عنه نحو زيد مررت به، وهذا هو الأصل، ثم يقوم مقامه أمور أخر تصيِّره معلوماً كقوله تعالى «إنا أنزلناه في ليلة القدر» (1) ولم يتقدم للقرآن الكريم ذكر بل كان معلوماً بالمحاورات المتقدمة، وكقوله تعالى «كل من عليها فان» (2) ولم يتقدم الأرض ذكر لكنها معلومة بالسياق، وكقوله تعالى «حتى توارت بالحجاب» (3) ولم يتقدم للشمس ذكر. أما الموصلات فلا بد أن تتصل صلاتها بها نحو مررت بالذي قام وبمن قام أو بما قام، وأسماء الإشارة هذا وتلك وهؤلاء وأولاء لا بد معها من مفسر، وأصله أن يكون فعلاً من إشارات الأعضاء أو غيرها، والمضمرات ثلاثة أقسام للمتكلم والمخاطب والغائب، فالمحتاج لما تقدم إنما هو ضمير الغائب نحو: هو وهي ونما وهم وهن، وأما المخاطب نحو أنت وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، والمتكلم نحو: أنا ونحن فلا يحتاج شيء من هذين القسمين إلى معرفة (4) لفظ ظاهر، بل من قال لك: أنا، عرفته وإن لم تعرف اسمه، وكذلك من قلت له أنت، انتظم الكلام بينكما وإن لم تعرف اسمه، بل قرينة التكلم والخطاب كافية في ذلك، فلذلك نوعت المحتاج إليه في بيان المضمر إلى لفظ أو قرينة.
فائدة جليلة: اختلف الفضلاء في مسمى لفظ المضمر حيث وجد، هل هو جزئي أو كلي؟ فرأيت الأكثرين على أن مسماه جزئي، واحتجوا على ذلك بوجهين الأول: أن النحاة
أجمعوا على أن المضمر معرفة والصحيح أنه أعرف المعارف، فلو كان مسماه كلياً لكان نكرة، فإن النكرة إنما كانت نكرة لأن مسماها كلي مشترك فيه بين أفراد غير متناهية لا يختص به واحد منها دون الآخر، والمضمر ليس كذلك، فلا يكون نكرة. الثاني: أن مسمى المضمر إذا كان كلياً كان دالاً على ما هو أعم من الشخص المعين، والقاعدة العقلية أن الدال على الأعم غير دال على الأخص، فيلزم أن لا يدل المضمر على شخص خاص البتة وليس كذلك، بل
(1) 1 القدر.
(2)
26 الرحمن.
(3)
22 سورة ص.
(4)
في واحدة من المخطوطات تقدم بدل معرفة.
كل من قال: أنا، فهمناه دون غيره، وكذلك إذا قلت لزيد: أنت قائم، لا يفهم إلا نفسه.
والصحيح خلاف هذا المذهب وعليه الأقلون، وهو الذي أجزم بصحته وهو أن مسماه كلي، والدليل عليه أنه لو كان مسماه جزئياً لما صدق على شخص آخر غلا بوضع آخر كالأعلام؛ فإنها لما كان مسماها جزئياً لم تصدق على غير من وضعت له إلا بوضع ثان، فإذا قال قائل: أنا، فإن كان اللفظ موضوعاً بإزاء خصوصه من حيث هو هو، وخصوصه ليس موجوداً في غيره، فيلزم أن لا يصدق على غيره إلا بوضع آخر، وإن كان موضوعاً لمفهوم المتكلم بها وهو قدر مشترك بينه وبين غيره والمشترك كلي فيكون لفظ أنا حقيقة في كل ممن قال أنا؛ لأنه متكلم بها الذي هو مسمى اللفظ فينطبق ذلك على الواقع، وأما قولهم في الوجهين: فالجواب عنه واحد، وهو أن دلالة اللفظ على الشخص المعين لها سببان: أحدهما وضع اللفظ بإزاء خصوصه فيفهم الشخص حينئذ الوضع بإزاء الخصوص وهذا كالعلم. وثانيهما: أن يوضع اللفظ بإزاء معنى عام ويدل الواقع على أن مسمى اللفظ محصور في شخص معين فيدل اللفظ عليه؛ لانحصار مسماه فيه لا للوضع بإزائه، ومن ذلك المضمرات، وضعت العرب لفظ أنا مثلاً لمفهوم المتكلم بها فإذا قال القائل: أنا، فهم هو؛ لأن الواقع أنه لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو، ففهمناه لانحصار المسمى فيه لا للوضع بإزائه، وكذلك بقية المضمرات. وهذا كما تقول رأيت قاضي مكة أو المدينة، فيفهم المتولي في ذلك الوقت لهذه المدينة لن الواقع أنه هو المتولي، وفي وقت آخر يفهم المتولي الآخر على حسب ما يحصر الواقع المسمى في شخص معين، فكذلك المضمرات، حتى لو فرضنا جماعة قالوا أنا في وقت واحد وأصوات متشابهة بحيث لا يميز الواقع واحداً منهم عن واحد لم يفهم منهم واحد، وكذلك إذا قلت الجماعة بين يديك أنت أخاطب واستوت نسبتك في الخطاب معهم ومواجهتك إليهم وإشارتك، لم يفهم أحد منهم نفسه بخصوصه، وإنما يفهمها إذا حصر الواقع المخاطبة فيه، فلما كان الغالب حصر الواقع مسمى اللفظ في شخص معين فيفهم.
قال النحاة: هي معارف، فإن فهم
الجزئي لا يكاد ينفك عنها، وبه حصل الجواب عن
القاعدة العقلية: أن اللفظ الموضوع لمعنى أعم لا يدل على ما هو أخص منه؛ فإن الدلالة لم تأت من اللفظ وإنما أتت من جهة حصر الواقع المسمى في ذلك الأخص.
إذا تقرر الجواب عن حجم وظهر بالبرهان أن مسماها كلي لا جزئي فأعين مسمياتها، فأقول: مسمى مضمرات المتكلم وهي أنا ونحن وإياي وإيانا وقمت وقمنا وأكرمني وأكرمنا وعملي ولي: مفهوم المتكلم بها كائناً من كان، ومسمى ضمائر المخاطب وهي نحو: قمتَ وأنتَ وأنتِ مفهوم المخاطب بها كائناً من كان، ومسمى مضمرات الغائب وهي: هو وهي ونحوها مفهوم الغائب كائناً من كان.
فإن قلت فهل تقول: إن لفظ الغائب ولفظ المضمرات الموضوعة للغيبة لمعنى واحد فيكونان مترادفين، أو تقول هما لمعنيين فيكونان متباينين؟ .
قلت: بل أقول إنهما لمعنيين وإنهما متباينان؛ لأن لفظ الغائب موضوع لمعلوم موصوف بالغيبة، والمضمرات الخاصة موضوعة لمعلوم موصوف بالغيبة يقيد الاختصار والإيجاز في التعبير عنه، وبهذا القيد صار مسمى المضمر أخص من مسمى لفظ الغائب فهما متباينان لا مترادفان، ولذلك يجوز استعمال لفظ الغائب ابتداءً من غير أن يكون للعقل بمسماه شعور، ولا يجوز في المضمر حتى يكون للذهن به شعور بتقدم لفظ أو سياق أو غيرهما، ولا يجوز مع لفظ المضمر النعت ويجوز مع لفظ غائب، إلى غير ذلك من الأحكام الدالة على التباين.
والنص فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعاً ولا يحتمل غيره قطعاً كأسماء الأعداد، وقيل: ما دل على معنى قطعاً وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعاً وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء.
النص أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه قوله في الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص» أي رفع السير
إلى غايته، ومنه منصة العروس لأنها ترفع إلى غايتها اللائقة بالعروس، ومنه نصت الظبية جيدها إذا رفعته. فمن لاحظ هذا المعنى سمى به القسم الأول فإن دلالته أقوى الدلالات، ومن لاحظ أصل الظهور والارتفاع سمى به المعنى الثالث، ومن توسط بينهما سمى به القسم المتوسط، والقسم الأول هو أولى بهذا الاشتقاق لوجود ارتفاع الدلالة إلى غايتها وهو الذي يجعل قبالة الظاهر.
فإذا قلنا اللفظ إما نص أو ظاهر فمرادنا القسم الأول، وأما الثالث فهو غالب الألفاظ
وهو غالب استعمال الفقهاء، يقولون: نص مالك على كذا أولنا في المسألة النص والمعنى، ويقولون: نصوص الشريعة متظافرة بذلك. وأما القسم الثاني فهو كقوله تعالى: «اقتلوا المشركين (1) » ، فإنه يقتضي قتل اثنين جزماً فهو نص في ذلك مع احتماله لقتل جميع المشركين.
والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر هو في أحدهما أرجح، والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء، ثم التردد قد يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماة نحو قوله تعالى:«وآتوا حقه يوم حصاده (2) » فهو ظاهر بالنسبة إلى الحق مجمل بالنسبة إلى مقاديره.
الظاهر من الظهور وهو العلن، فاللفظ متى رجح في احتمال من الاحتمالات قلت أو كثرت سمي ذلك اللفظ ظاهراً بالنسبة إلى ذلك المعنى، كالعموم بالنسبة إلى الاستغراق، فإن اللفظ ظاهر فيه دون الخوض، وكذلك كل لفظ ظاهر في حقيقته دون مجازاته، والمجمل مأخوذ من الجّمْل وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام «لعن الله اليهود حُرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها» أي خلطوها بالسبك. ومنه العلم الإجمالي إذا اختلط فيه المعلوم بغير المعلوم، واللفظ
(1) 5 التوبة.
(2)
141 الأنعام.
المجمل اختلط فيه المراد بغير المراد فسمي مجملاً، فإذا وضعت العرب اللفظ مشتركاً لزم الاشتراك الإجمال، كما تقول الفرس الآن لا إجمال فيه بل يتبادر الذهن إلى الحيوان الصاهل، فل ووضعوه لحيوان آخر صار مجملاً، فعلمنا أن الإجمال نشأ عن الاشتراك، وأما إذا قلنا في الدار رجل فإنا نجوِّز أن يكون زيداً وعمراً أو جميع رجال الدنيا على البدل، وذلك بطريق التجويز العقلي لا بمن الوضع اللغوي، بل ما اقتضى الوضع إلا القدر المشترك بين جميع الرجال، وهو مفهوم الرجل، وهو من هذا الوجه ظاهر لا مجمل، وإنما جاء الإجمال من جهة التجويز العقلي، فعلمنا أن الإجمال له سببان: الوضع اللغوي والتجويز العقلي. ومثلا لرجل في ذلك كل نكرة ينطق بها، وأما لفظ الآية فإن المقدار لم يتعرض له فلذلك احتمل العشر وغيره على السواء فكان اللفظ مجملاً بالنسبة إلى المقادير. وظاهر في المشترك الذي هو الحق من حيث الجملة.
والمبين ما أفاد معناه إما بسبب الوضع أو بضميمة بيان أليه.
المبين من البيان وهو الإيضاح، فإذا قال له عندي عشرة قلنا هذا اللفظ مبين بالوضع أي بينه الواضع والمستعمل، فإن كان اللفظ أولاً مجملاً نحو القرء ثم بينه بعد ذلك قلنا صار مبيناً، فصدق المبين على القسمين، وكذلك المفسر يصدق على القسمين في الاصطلاح واللغة.
والعام هو الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في خاله نحو المشركين.
المراد بالتتبع في المحال أي بالحكم كان وجوباً أو تحريماً أو إباحة أو خبراً أو استفهاماً أي شيء كان الحكم، وسبب هذه العبارة والاحتياج إليها إشكال كبير عادتي أورده ولم أر أحداً قط أجاب عنه وهو، أن صيغة العموم بين أفرادها قدر مشترك ولها خصوصيات؛ فاللفظ إما أن يكون موضوعاً للمشترك كمطلق المشترك في المشركين أو الخصوصات أو المجموع المركب منهما والكل باطل فلا يتحقق مسمى العموم ولا وضعه، بيانه: أن اللفظ إن كان وضع للمشترك فقط يلزم أن يكون مطلقاً والمطلق ليس بعام، وإن وضع للخصوصات وهي مختلفة فيلزم أن
يكون لفظ العموم مشتركاً مجملاً لوضعه بين مختلفات، وصيغة العموم مسماها واحد ولا إجمال فيها، ولأن الخصوصات غير متناهية، ووضع لفظ مشترك بين أمور غير متناهية محال، لأن الوضع فرع التصور، وتصور ما لا يتناهى على التفصيل محال. وإن كان موضوعاً للمجموع المركب من كل خصوصية مع المشترك في كل فرد فرد على حياله لزم الاشتراك بين ما لا تناهى وهو محال لما تقدم، أو لمجموع الأفراد بحيث يكون المسمى واحداً وهو المجموع من حيث هو مجموع، فيصير نسبته إلى مسماه كنسبة لفظ لعشرة لمسماها، فحينئذ يتعذر الاستدلال بصيغة العموم على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النهي أو النفي، لأنه لا يلزم من النهي عن المجموع، أو الإخبار عن نفيه، نفي أجزائيه، ولا اجتناب جميع أجزائي، لأن المجموع يكفي في صدق اجتنابه ترك جزء. وكذلك يصدق نفيه بنفي جزء؛ لكن لفظ العموم هو الذي يحسن الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد حالة النفي أو النهي؛ فلا يكون لفظ العموم للعموم على هذا التقدير، فهذا هو الإشكال.
وأجاب بعضهم بأن موضوع المشترك بقيد العدد فلا يكون مطلقاً لحصول العدد ولا مشتركاً لأن مسماه واحد وهو المشترك ومفهوم العدد.
فقلت له: مفهوم العدد كلي والمشترك كلي، والكلي إذا أضيف إلى الكلي صار المجموع كلياً، والموضوع للكلي مطلق فلا يكون عاماً بل يكتفى بما يصدق فيه المشترك والعدد، وذلك يصدق بثلاثة، فعلى هذا إذا قلنا هو اللفظ الموضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في محاله بحكمه اندفعت الأسئلة؛ لأن قيد التتبع في جميع المحال ينفي الإطلاق فإن المطلق لا يتتبع بل يقتصر به على فرد ويكون مجموع للقيدين هو المسمى، وهما المشترك وقيد التتبع، فيكون المسمى واحداً فلا يكون مشتركاً، فحصل العموم من غير إشكال، فهذا هو الملجئ لهذا الحد الغريب.
والمطلق هو اللفظ الموضوع لمعنى كل نحو رجل، والمقيد هو اللفظ الذي أضيف إلى مسماه معنى زائد عليه نحو رجل صالح.
التقييد والإطلاق أمران إضافيان، فرب مطلق مقيد بالنسبة، ورب مقيد
مطلق، فإذا قلت حيوان ناطق فهذا مقيد، وإذا عبرت عنه بإنسان صار مطلقاً، وإذا قلت إنسان ذكر كان مقيداً، وإذا عبرت عنه برجل صار مطلقاً، وكذلك ما من مطلق إلا ويمكن جعله مقيداً بتفصيل مسماه والتعبير عن الجزأين بلفظين، وما من مقيد إلا ويمكن أن يعبر عنه بلفظ واحد فيصير مطلقاً إلا ما يندر جداً كالبسائط.
والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً على سبيل الاستعلاء نحو: قم، والنهي هو الموضوع للفظين فأكثر أسن مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق للفظين فأكثر أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق والتكذيب لذاته نحو زيد قائم.
جعل هذا الباب كله من باب اللفظ الموضوع يتخرج على أحد المذاهب الثلاثة؛ وهي أن الكلام وجميع ما يتعلق به وبأنواعه وعوارضه من الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتكذيب والتصديق وغيرها هل هي كلها موضوعة للكلام اللساني مجاز في النفساني لأنه المتبادر عرفاً أو للنفساني مجاز في اللسان كقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جُعل اللسان على الفؤاد دليل
أو الألفاظ كلها مشتركة بين اللساني والنفساني جمعاً بين المدركين؟ ثلاثة مذاهب فوق التحديد في هذا مبنياً على المذهب الأول، مع أن الثالث هو المشهور عند العلماء، كذلك حكاه إمام الحرمين والإمام فخر الدين، فقولي فيا لأمر لطلب الفعل احترازاً من طلب الترك الذي هو النهي، ومن الاستفهام لأنه لطلب الحقائق دون الأفعال، وقولي طلباً جازماً احترازاً من الندب، وقولي على سبيل الاستعلاء هو مذهب أبي الحسين البصري والإمام فخر الدين، ومنهم من اشترط العلو دون الاستعلاء، والجمهور من المتكلمين على عدم اشتراطهما، بل الصيغة من حيث هي صيغة تسمى أمراً كانت من أعلى أو أدنى مع استعلاء أو تواضع كالخبر، وسيأتي في الأمر تقرير ذلك إن شاء الله تعالى، ولم أر لهم مثل هذا الخلاف في النهي فتركته، وتلزمهم التسوية بين البابين، والاحترازات في الأمر هي بعينها في النهي فلا أعيدها.
قال العلماء: فرقت العرب بين قولنا ما الزوج وبين قولنا أفهمني ما الزوج؟ فالأول طلب الحقيقة والثاني طلب فعل يصدر من الخاطب، فإذا قال السيد لعبده من بالباب؟ فقال غير ذلك العبد: زيد بالباب، حصل مقصود السيد ولا عُتب على العبد الأول،
فإن المقصود إنما هو تحصيل فهم من بالباب، وإذا قال لعبده اسقني ماء فسقاه غير ذلك العبد المأمور توجه العُتب على الأول لكون صيغة الأمر موضوعة للتكليف والإلزام الذي من شأنه العتب على تقدير الترك، هكذا نقله الأئمة عن اللغة في الفرق بين الاستفهام والأمر، نقله فخر الدين وغيره، فلذلك قيل في حد الاستفهام طلب حقيقة الشيء.
وقولي في الخبر للفظين فأكثر، فإن أقل الخبر لفظان نحو زيد قائم، وقد يخبر بأكثر نحو: أكرم أخوك أباك يوم الجمعة متكئاً في الدور إلا دار زيد إجلالاً له وخالداً، فهذا كله خبر واحد هو ومتعلقاته وخالداً مفعول معه وإجلالاً مفعول لأجله (1) .
وقولي: أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر احتراز من قولنا زيد عمرو في الكلام غير المنتظم.
وقولي: يقبل التصديق والتكذيب احتراز من الإسناد بالإضافة نحو غلام زيد، أو الصفة نحو الرجل الصالح، وقولي: لذاته احتراز من تعذر قبوله لأحدهما لعارض من جهة المخبر أو المخبر عنه، فالأول خبر الله تعالى لا يقبل إلا الصدق، والثاني نحو قولنا الواحد نصف الاثنين لا يقبل إلا الصدق، والواحد نصف العشرة لا يقبل إلا الكذب، فلم يقبلها في هذه الأحوال، لكن هذه الأخبار بالنظر إليها من حيث إنها خبر تقبلهما إذا قطعنا النظر عن المخبر والمخبر عنه، وإنما جاء الامتناع لا من ذات الخبر فله من ذاته قبولهما (2) .
(1) وباقي إعراب المثال: أكرم فعل ماض. وأخوك فاعل. وأباك مفعول به، ويوم ظرف. والجمعة: مضاف إليه. ومتكئاً حال وفي الدور جار ومجرور. وإلا أداة استثناء. ودار مستثنى وزيد مضاف إليه. والمعروف أن أغلب ألفاظ المثال هي مكملات للجملة الرئيسية.
(2)
وهذه ما يعبرون عنه في علم البلاغة: أنا خبر ما يقبل الصدق والكذب لذاته.