الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شفاف مخلوق من نور معصوم عن الرذائل مطبوع على الطهارة والطاعة؛ فيحصل في ذهن السامع هيئة صورية هي المعرفة، ولا
أجد الحدود والرسوم وتبديل اللفظ يفيد غير هذين القسمين، وكلاهما تعريف بالخارج، فلنقتصر بالبحث عليه والجواب عنه.
فنقول: إن الوصف الخارجي قد نعلم أنه من خصائص حقيقة بعينها دون غيرها بالضرورة من غير ما ذكره من استقراء ما لا يتناهى، كما نعلم أن الزوج والفرد من خصائص العدد لا يوجدان في غيره البتة، وكذلك الكشف من خصائص العلم لا يوجد في غيره بالضرورة، ومن خصائص الحياة تصحيح محلها لأنواع الإدراك وأن ذلك لا يوجد في غيرها، ومن خصائص الإرادة ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير احتياج إلى مرجح آخر ولا يوجد ذلك في غيرها، وهو كثير. فبمثل هذا يقع التعريف بأن يكون معلوماً، وما وضع لفظ المحدد له غير معلوم، فلا دور ولا استقراء غير متناه، فاندفع السؤال وأمكن اكتساب التصورات.
الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه
فاصل الشيء ما منه الشيء لغة ورجحانه أو دليله اصطلاحاً فمن الأول أصل السنبلة البرة. ومن الثاني الأصل براءة الذمة، والأصل عدم المجاز والأصل بقاء ما كان على ما كان. ومن الثالث أصول الفقه أي أدلته.
ورد على التفسير اللغوي أن لفظة (من) لفظ مشترك وكذلك لفظ (ما) أيضاً، والمشترك لا يقع في الحدود لإجماله، وأيضاً فإن معاني (من) كلها لا تصح هنا؛ لأن النخلة ليست بعض النواة إذ النخلة أضعافها، ولا ابتداء الغاية ولا انتهاءها لأن من شأن المغيا أن يتكرر قبل الغاية والنخلة لم تتكرر، ويلزم أن كل ما فهي ابتداء غاية أن يكون أصلاً، فقولنا سرت من النيل إلى مكة أن يكون النيل أصل السير لغة وليس كذلك. ولا بيان الجنس، فإن النخلة ليست أعم من النواة حتى تتبين بالنواة فهذه ثلاثة أسئلة.
الجواب أنه قد تقدم أن الاشتراك والمجاز يصح دخولهما في الحدود إذا كان السياق مرشداً للمراد، والمراد (بما) هنا الموصولة، وبمن مجاز ابتداء الغاية وهو شبهة به من حيث النشأة من النواة وابتداؤها كما يبتدأ السير: أو تقول المراد مجاز التبعيض لا حقيقته، فإن النخلة بعضها من النواة لا كلها فجعلناها كلها جزءاً من النواة توسعاً من باب إطلاق لفظ الجزء على الكل (1) ، وكذلك قولنا أصل الإنسان نطفة وأصل السنبلة برة،
ولهذه الأسئلة اختار سيف الدين قوله: «أصل الشيء ما يستند وجوده إليه من غير تأثير، احترازاً من استناد الممكن للصانع المؤثر» ، فذكرت في هذا الكتاب في الأصل ثلاثة معان: منها واحد لغوي واثنان اصطلاحيان وبقي واحد لم أذكره هنا وذكرته في شرح المحصول وهو ما يقاس عليه، فإن من جملة ما يسمى أصلاً في الاصطلاح الأصل الذي يقاس عليه: كالحنطة يقاس عليها الأرز في تحريم الربا، فيصير الأصل أربعة معان.
والفقه هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف.
كذلك نقله المازري في شرح البرهان، وتقول العرب رجل طب إذا كان عالماً. وقال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
خبير بأدواء النساء طبيب
أي عارف، وشعر بكذا إذا فهمه ومنه قوله تعالى:«وهم لا يشعرون» (2) ، أي لا يفهمون، ثم بعد ذلك اختص الطب بمعرفة مزاج الإنسان، والشعر بمعرفة الأوزان، والفقه بمعرفة الأحكام.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «الفقه في اللغة إدراك الأشياء الخفية فلذلك
(1) في نسخة مخطوطة: إطلاق لفظ الكل على الجزء.
(2)
آيات كثيرة من القرآن فيها: وهم لا يشعرون. «فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون» (9 الأعراف) ، «وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون» (15 يوسف) . . الخ.
نقول فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض» وعلى هذا النقل لا يكون لفظ الفقه مرادفاً لهذه الألفاظ وعلى نقل المازري يكون مرادفاً، والثاني هو الذي يظهر لي، ولذلك خصص الفقهاء اسم الفقه بالعلوم النظرية، وأخرجت شعائر الإسلام من لفظ الفقه وحده.
والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال.
فقولنا بالأحكام احترازاً من الذوات كالأجسام والصفات نحو الأعراض والعاني كلها، وقولي الشرعية احترازاً عن العقلية والحسية كأحكام الحساب نحو ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وغير الحساب كالهندسة والموسيقى وغيرهما.
وقول: العملية احترازاً عن الأحكام الشرعية العلمية كالأحكام في أصول الفقه وأصولا لدين فإنها شرعية؛ لأن الله تعالى أوجب علينا تعلم أصول الفقه لنبني عليها الفقه، وتعلم ما يجب الله تعالى وما يستحيل عليه، وما يجوز وغير ذلك من أصول الدين.
وقولي بالاستدلال احترازاً عن المقلد، وعن شعائر الإسلام كوجوب الصلاة والصيام
والزكاة وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة من غير استدلال، فالعلم بها لا يسمى فقهاً اصطلاحاً لحصوله للعوالم والنساء والبله.
ويرد عليه أسئلة.
أحدها: أن أكثر الفقه ظن لا علم فإنه مستنبط من الأقيسة وأخبار الآحاد والعمومات، فيخرج أكثر الفقه من حد الفقه.
وثانيها: أن العملية إن أريد بها عمل الجوارح فقط خرج عنها الأحكام المتعلقة بالقلوب مما هو فقه في الاصطلاح: كوجوب النيات والإخلاص وتحريم الربا وغير ذلك، وإن أريد العملية كيف كانت دخلت أعمال القلوب فيندرج علم الأصول.
وثالثها: أن الحاصل للمقلد إن لم يكن علماً فقد خرج بقولنا أول الحد العلم بالأحكام، وإن كان علماً فهو بالاستدلال؛ لأن الفتاوى ليست بديهة غنية عن النظر فتكون استدلالية فلا يخرج بقيد الاستدلال.
ورابعها: أن لام التعريف في الأحكام إن أريد بها الاستغراق لزم أن لا يكون فقيهاً حتى يعلم جميع الأحكام، أو للعهد فلا معهود بيننا، لأنه لو خرج مجتهد وظهرت له تصانيف وأتباع سمي مذهبه فقهاً وأتباعه فقهاء؛ وليس ذلك من المعهود.
والجواب عن الأول: أن كل حكم شرعي معلوم؛ لأن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع، وكل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم، فكل حكم شرعي معلوم،
وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع لأن الأحكام على قسمين منها ما هو متفق عليه فهو ثابت بالإجماع ومنها ما هو مختلف فيه، فقد انعقد الإجماع على أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكم شرعي فهو حكم الله في حقه وحق من قلده إذا حصل له سببه، فقد صارت الأحكام في مواقع الخلاف ثابتة بالإجماع عند الظنون؛ فكل حكم شرعي ثابت بالإجماع.
وقولنا فهو حكم الله في حقه خير من قول من يقول: فقد وجب عليه العمل بمقتضى ظنه، لأن الاجتهاد قد يقع في المباح فلا يجب العمل به، وكذلك في المحرم والمكروه والمندوب، وإذا قلنا فهو حكم الله في حقه اندرج الجميع. وقولنا إذا حصل له سببه، احترازاً من اجتهاده في الزكاة ولا مال له، أو الجنايات ولا جناية عليه ولا منه، أو في الحيض أو العِدد وليس هو امرأة حتى يثبت ذلك في حقه، لكنه في الجميع بحيث لو فرض حصول سبب ذلك في حقه كان حكم الله ذلك عليه وفي حقه. وأما إن كل ما هو ثابت بالإجماع فهو معلوم فبناءً على أن الإجماع معصوم على ما
تقرر في موضعه، ولأن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين، وكل ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم/ فكل حكم شرعي معلوم.
وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين لأنا نفرض الكلام في حكم ونقرر فيه تقريراً ونجزم باطراده في جميع الأحكام. فنقول: وجوب التدليك في الطهارة مظنون لمالك قطعاً عملاً بالوجدان وكل ما ظنه مالك فهو حكم الله قطعاً عملاً بالإجماع؛ فوجوب التدليك حكم الله قطعاً. وهذا التقرير يطرد في جميع صور الخلاف فتكون كلها ثابتة بمقدمتين قطعيتين، وأما إن كال ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم فلأن النتيجة تابعة للمقدمات، فثبت بهاتين الطريقتين أن كل حكم شرعي معلوم.
وعن الثاني: أنا نلتزم صحة السؤال ونقول: الحق ما ذكره سيف الدين الآمدي وهو العلم بالأحكام الشرعية الفروعية الخ، ولا نقول العملية؛ فإن الفروعية تشمل ما يتعلق به الفقه. . كان في الجوارح أو القلب.
وعن الثالث: أن بعض المقلدين المطلع على انعقاد الإجماع في وجوب اتباع المقلد للمفتى هو المقصود هنا بالخروج، والعلم حاصل له بمقدمتين قطعيتين، إحداهما هذا أفتاني به المفتي عملاً بالسماع، وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله عملاً بالإجماع، فهذا حكم الله. وهذا الاستدلال يطرد له في جميع موارد التقليد فيكون العلم حاصلاً له، غير أن هذا الدليل عام في جميع صور التقليد، وأدله الفقه خاصة بأنواعه؛ فدليل الزكاة غير دليل الصيام فلا فرق بينهما إلا باختصاص الأدلة بالأنواع، وأما في أعيان المسائل فاشترك الفريقان في عدم الدليل عليها؛ فينبغي أن يزاد في الحد: بأدلة مختصة بالأنواع.
وعن الرابع أن اللام للعهد، وتقريره أن الخاصة والعامة مجمعون على سلب الفقه عن جماعة في العالم وإثبات الفقه لجماعة في العالم، فلولا تصور ما لأجله يسلبون ويثبتون وإلا لتعذر منهم ذلك. فتلك الصورة الذهنية هي المشار إليها بلام العهد وهي جملة غالبة معلومة عندهم، ولا تختص بكتاب ولا مذهب معين.