الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع في أقل الجمع
قال القاضي أبو بكر رحمه الله مذهب مالك أقل الجمع اثنان ووافقه القاضي أبو بكر على ذلك والأستاذ أبو إسحق وعبد الملك بن الماجشون من أصحابه، وعند الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ثلاثة وحكاه عبد الوهاب عن مالك، وعندي أن محل النزاع مشكل لأنه إن كان الخلاف في صيغة الجمع التي هي الجيم والميم والعين لم يكن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ، وقد اتفقوا على ذلك، وإن كان في غيرها من صيغ الجموع فهي على قسمين، جمع قلة وهو جمع السلامة مذكراً أو مؤنثاً ومن جمع التكسير القلة ما في قول الشاعر:
بأفْعُلٍ وأفعالٍ وأفعِلة وفِعْلة
…
يعرف الأدنى من العدد
وجمع كثرة (1)
وهو ماعدا ذلك فجموع القلة المعشرة فما دون ذلك، وجموع الكثرة للأحد عشر فأكثر؛ هذا هو نقل العلماء، ثم قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر مجازاً، والخلاف في هذه المسألة إنّما هو في الحقيقة اللغوية، فإن كان الخلاف في جموع الكثرة فأقلها أحد عشر فلا معنى للقول بالاثنين والثلاثة وإن كان في جموع القلة فهو يستقيم، لكنهم لما أثبتوا الأحكام والاستدلال في جموع الكثرة علمنا أنهم غير مقتصرين عليها وأن محل الخلاف ما هو أعم منها لا هي.
مثال جمع السلامة ما جمع بالواو والنون أو الياء والنون نحو مسلمون ومسلمين، أو بالألف والتاء وهو المؤنث، نحو مسلمات وعرفات، ومثال أفعل أفلس،
(1) جمع بعضهم جموع الكثرة شرعاً فقال:
في السفن الشهب البغاة صور
…
مرضى القلوب والبحار عبر
غلمانهم للأشقياء فَعلة
…
قطاع قضبان لأجل الفيلة
والعقلاء شُرَّد ومنتهى
…
جموعهم في السبع والعشر انتهى
ومثال أفعال أجمال وأحمال، ومثال أفعلة أرغفة وفعلة نحو صبية وغِلمة، فهذه هي جموع القلة إذا كانت منكرة يكون للعشرة فدونها إلى الاثنين أو الثلاثة على الخلاف، وإن كانت معرفة صارت لما لا يتناهى وهو العموم، ولا يبقى لمسماها أقل ولا أكثر، بل رتبة واحدة وهي العموم بخلاف المنكر، فإن مسماه، وهو كونه جمعاً متردد بين مراتب مختلفة، وكل تلك
المراتب يصدق عليها أنها جمع فألف رجل جمع، ورجال وثلاثة جمع.
قال صاحب المفصل قد يستعار لفظ الجمع الموضوع للقلة للكثرة، والموضوع للكثرة للقلة، وقوله قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر يدل على أنه ليس موضوعاً له فإن المستعار مجاز إجماعاً، وكذلك قال ابن الأنباري قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر بسبب اشتراكهما في معنى الجمع، فإبداؤه للعلاقة المصححة للمجاز دليل المجاز، وكذلك قال غيرهما.
واستشكل جماعة من المفسرين والنحاة قوله تعالى: «ثلاثة قروء» (1) فقالوا ثلاثة دون العشرة، فكان المنطبق عليها أقراء الذي هو أفعال لأنه من صيغ جموع القلة أما قروء [الذي على وزن (2) ] فعول فهو من جموع الكثرة فلم يعبر به عن الثلاثة، مع إمكان التعبير بما ينطبق على الثلاثة، وهذا كله يقتضي أن جمع الكثرة لم يتناول ما دون العشرة إلاّ مجازاً ولا يتناوله حقيقة، ويشكل جعل أقل مسماه ثلاثة بل أحد عشر، وهذا موضع صعب وأجاب عنه بعض الفضلاء.
قال: الجواب عنه أن الكلام في هذه المسألة إنّما هو في الحقيقة العرفية دون اللغوية والعرف سوى بين القسمين القلة والكثرة، فلذلك أطلقت الفتيا في القسمين.
وهو جواب لا يصح لأن بحث العلماء في أصول الفقه المهم منه الحقيقة اللغوية دون غيرها وهي المراد بقولنا الأمر للوجوب، والأمر للتكرار، والصيغة العموم، والأمر للفور، والنهي للتحريم، وغير ذلك من المباحث إنّما يريدون الحقيقة اللغوية وهي المهمة في أصول الفقه، حتى إذا تقررت حمل عليها الكتاب والسنة.
وثانيها: إذا سلم له أن بحثهم في الحقيقة العرفية فلم لا ذكروا اللغوية، وكيف يليق أن يعتقد فيهم أنهم تركوا المهم أبداً ولم يذكروا إلاّ غير المهم؟!
(1) 228 البقرة.
(2)
ساقطة من النسخ، وأثبتناها لينتظم المعنى.
وثالثها: أن الكلام لو كان في الحقيقة العرفية لكان استدلالهم بالعرفيات، وكانوا يقولون: لأن أهل العرف يقولون، وهم لا يقولون ذلك، بل يقولون في استدلالهم: فرقت العرب بين ضمير المفرد وضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا اضرب ضرباً ضربوا، وقالوا رجلان ورجل، ففرقوا بين التثنية والجمع، ويستدلون بآيات الكتاب العزيز، وذلك كله يقتضي أنهم لا يريدون العرف، فإن من ادعى العرف غير اللغة لا يمكنه التمسك بالقرآن؛ فإنه لم ينزل بالعرف بل باللغة، وهذا واضح وحينئذ يتعين أنهم يريدون الحقيقة اللغوية وهي مشكلة كما تقدم.
بل الذي تقتضيه القواعد أن يقولوا أقل مسمى الجمع المنكر من جموع القلة اثنان أو ثلاثة وأقل جموع الكثرة المنكرة أحد عشر، هذا متجه لا خفاء فيه. أما التعميم فمشكل جداً.
ومقتضى القواعد أن القائل إذا قال لله عليّ صوم شهور، أن يلزمه أحد عشر شهراً لأنه جمع كثرة، أو صوم أيام أن يلزمه ثلاثة لأنه جمع قلة، أو قال عليّ له دراهم أو دنانير أن يلزمه أحد عشر لأنه جمع كثرة، وتتقرر الفتاوى وأقضية الحكام على هذه الصورة حتى يثبت لهذه القواعد ناسخ عرفي أو شرعي. فهذه وجه الإشكال.
وأنا الآن أجري على عادتهم في الحجاج فأقول حجة القول بالثلاثة ما تقدم من تفرقة العرب بين التثنية والجمع ضميراً وظاهراً والأصل في الاستعمال الحقيقة ولأنه المتبادر للفهم عرفاً فوجب أن يكون لغة كذلك، لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فمن قال معي دراهم لا يفهم السامع إلاّ ثلاثة فأكثر، حجة الاثنين قوله تعالى:«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» (1) فأطلق ضمير الجمع الذي هو الواو على الطائفتين وهو تثنية، وقوله تعالى:«وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين» (2) فقوله لحكمهم ضمير جمع عائد على داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، فدل على أن الاثنين يصدق عليهما الجمع. وقوله تعالى:«وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب» إلى قوله: «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة» (3) فقوله إن هذا أخي يقتضي أنهما كانا اثنين مع ذلك فقال تعالى:
(1) 9 الحجرات.
(2)
78 الأنبياء.
(3)
21 - 23 (ص) .
«إذ تسوروا المحراب» وهو ضمير جمع، وكذلك قوله تعالى:«قالوا لا تخف» (1) يدل على أن الاثنين يصدق عليهما لفظ الجمع.
والجواب عن الأوّل أن الطائفة جماعة والجماعتان جمع بالضرورة، فلذلك عاد عليه ضمير الواو.
وقوله تعالى: «لحكمهم» عائد على الحكمين والمحكوم له والمحكوم عليه فهم أربعة والمصدر كما يضاف للفاعل يضاف للمفعول فأضيف للجمع (2) .
وعن الثالث أن الخصم في اللغة يصدق على الفرد والمثنى والجمع تقولا لعرب رجل خصم ورجلان خصم ورجال خصم، كما تقول رجل ضيف ورجلان ضيف ورجال ضيف فلما كان الخصم يطلق واحده على الجمع أطلق تثنيته على الجمع كما تقدم في التثنية
وربما استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «والاثنيان فما فوقهما جماعة» فسمى الاثنين جماعة وبأن معنى الجمع حاصل في الاثنين فوجب صدق الجمع عليهما.
والجواب عن الأوّل أن معناه فضيلة الجماعة تحصل للاثنين فالمراد الحكم الشرعي لا اللغوي فإنه عليه الصلاة والسلام إنّما بعث لبيان الشرعيات.
وعن الثاني أن معنى الضم والاجتماع صادق على التثنية والاثنين إجماعاً إنّما الكلام في ألفاظ الجموع هل تصدق على الاثنين حقيقة أم لا فأين أحدهما من الآخر؟!
فائدة: على ما تقدم نم لفظ جمع القلة والكثرة يكون ضابط جمع القلة هو اللفظ الموضوع للاثنين فأكثر، أو الثلاثة فأكثر على الخلاف بقيد كونه لا يتعدى العشرة فهو موضوع للقدر المشترك بين هذه الرتب الحاصلة من الثلاثة إلى العشرة وجمع الكثرة هو اللفظ الموضوع للأحد عشر فأكثر من غير حصر، فهو للقدر المشترك بين هذه الرتب التي لا نهاية لها بقيد كونها لا تنقص عن الأحد عشر فسماها غير محصور، بخلاف مسمى جموع القلة.
فائدة: معنى قول العلماء أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، معناه أن مسمى الجمع مشترك فيه (3) بين رتب كثيرة وأقل مرتبة يصدق فيها المسمى هي الاثنان فيصير معنى الكلام أقل مراتب مسمى الجمع اثنان أو ثلاثة.
(1) 22 (ص)
(2)
وهذا هو الجواب عن الثاني فتأمل.
(3)
في نسخة سقطت لفظة (فيه) .