الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في حكمه
وهو عند الكافة حجة خلافاً للنظام والشيعة والخوارج، لقوله تعالى:«ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً» (1) وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة، وقوله عليه السلام «لا تجتمع أمتي على خطأ» يدل على ذلك.
وكذا أيضاً قوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» (2) قال أئمة اللغة والمفسرون: الوسط الخيار سمي الخيار وسطاً لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، وإنما يحسن هذا المدح إذا كانوا على الصواب، وقوله تعالى:«كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (3) وجه التمسك به ذكرهم في سياق المدح يدل على أنهم على الصواب، والصواب يجب اتباعه، فيجب اتباعهم، ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (4) ، واللام للعموم، فيأمرون بكل معروف فلا يفوتهم حق لأنه من جملة
المعروف، ولقوله تعالى:«وينهون عن المنكر» والمنكر باللام يفيد أنهم ينهون عن كلّ منكر فلا يقع الخطأ بينهم ويوافقوا عليه لأنه منكر.
والعمدة الكبرى: أن كلّ نص من هذه النصوص مضموم للاستقراء التام من
(1) 115 النساء.
(2)
143 البقرة.
(3)
110 آل عمران.
(4)
جملة «وينهون عن المنكر» هنا زائدة في الأصول وليس ذلك مكانها وإنما مكانها يأتي في السطر التالي.
نصوص القرآن والسنة وأحوال الصحابة وذلك يفيد القطع عند المطَّلع عليه، وأن هذه الأمة معصومة من الخطأ وأن الحق لا يفوتها فيما بينته شرعاً، فالحق واجب الاتباع، فقولهم واجب الاتباع، احتجوا بأن اتفاق الجمع العظيم على الكلمة الواحدة في الزمان الواحد محال في مجاري العادة، كما أن اتفاقهم على الميل إلى الطعام الواحد في الزمان الواحد محال، ولأن الله تعالى نهاهم عن المنكر بقوله تعالى:«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» (1)«ولا تقربوا الزنا» (2) ، «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق» (3) وغير ذلك من النصوص، ولولا أنهم قابلون للمعاصي لما صح نهيهم عن هذه المناكر.
والجواب عن الأوّل: اتفاقهم في زمن الصحابة ممكن ولا يكاد يوجد إجماع اليوم إلاّ وهو واقع في عصر الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم حينئذ ممكن لعدم انتشار الإسلام في أقطار الأرض، ولأن مقصودنا أنه حجة إذا وقع ولم يتعرض للوقوع، فإن لم يقع فلا كلام، وإن وقع كان حجة. هذا هو المقصود، وعن الثاني: أن الصيغ العامة موضوعة في لسان العرب لكل واحد واحد، لا المجموع؛ فيكون كلّ واحد منهم غير معصوم، ولا نزاع في ذلك، إنّما النزاع في مجموعهم لا في آحادهم، وقد تقدم بسط هذا في باب العموم.
وأما إمام الحرمين في البرهان فسلك طريقاً آخر، وهو أن إجماعهم على دليل قاطع أوجب لهم الاجتماع، فيكون قولهم حجة قطعاً لذلك القاطع، لا لقولهم والجمهور تقول بل النصوص شهدت لهم بالعصمة، فلا يقولون إلاّ حقاً، استندوا لعلم أو ظن، كما أن الرسول عليه السلام معصوم لا ينطق عن الهوى. وما يقوله في التبليغ يجب اعتقاد أنه حق، كان مستنده ظناً أو علماً، فالقطع نشأ عن العصمة لا عن المستند.
(1) 188 البقرة.
(2)
32 الإسراء.
(3)
151 الأنعام.
وعلى منع القول الثالث:
قال الإمام فخر الدين في المحصول إحداث القول الثالث غير جائز عند الأكثرين.
والحق أنه إن لزم منه الخروج عما أجمعوا عليه امتنع وإلا جاز فتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفصيل.
احتج المانعون بأن الأمة أجمعت قبل الثالث على الأخذ بهذا القول، أو بهذا القول،
فالأخذ بالثالث خارق للإجماع، ولأن الحق لا يفوت الأمة، فلا يكون الثالث حقاً، وإلا لما فاتهم، فيكون باطلاً قطعاً وهو المطلوب.
ويرد على الأوّل أن الإجماع الأوّل مشروط بأن لا يجمعوا على أحدهما وقد أجمعوا ففات الشرط (1) .
فإن قلت، يلزمك ذلك في القول الواحد إذا أجمعوا عليه، فجاز أن يقال امتنع مخالفته بشرط أن لا يذهب أحد إلى خلافه.
قلت: لو كان الأوّل مشروطاً لما كان هذا مشروطاً، بسبب أن القول الواحد تعينت فيه المصلحة، فلا معنى للشرطية، بخلاف القولين لم يتعين المصلحة في أحدهما عيناً، ولم يقل بكل واحد منهما إلاّ بعض الأمة وبعض الأمة غير معصوم. وعن الثاني: لا نسلم تعيين الحق في قول الأمة إلاّ إذا اتفقت كلها على قول، أما مع الاختلاف فممنوع، فظهر بهذه الأجوبة حجة الجواز.
مثال التفصيل: اختلفت الأمة على قولين: هذا الجد يقاسم الأخوة أو يكون المال كله له؟ فالقول الثالث بأن الأخوة يحوزون المال كله خلاف الإجماع، فالقول الثالث مبطل لما أجمعوا عليه، فيكون باطلاً، لأن الحق لا يفوتهم، هذا قول الإمام فخر الدين وتمثيله.
وقال ابن حزم في المحلى: إن بعضهم قال المال كله للأخوة تغليباً للبنوة على الأبوة فلا يصح على هذا ما قاله الإمام من الإجماع.
(1) في نسخة: مشروط بأن لم يقولوا بأنه ثابت وقد قالوا به ففات الشرط.
وعدم الفصل فيما جمعوه فإن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعيين الحق في جهتهم.
قال الإمام فخر الدين: إن قالوا لا نفصل بين المسألتين لم يجز الفصل، وكذلك إن علم أن طريقة الحكم واحدة في المسألتين، فإن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق، وإلا كان من وافق الشافعي في مسألة لدليل أن يوافقه في الكل، إنّما لم يجز الفصل لأنهم صرحوا بعدمه فيكون عدمه هو الحق، والفصل باطلاً فيمتنع، ومثاله: ذوو الأرحام اتفقوا على عدم الفصل بينهم، فمن ورث العمة ورث الخالة بموجب القرابة ولارحم، ومن لم يورث العمة لم يورث الخالة لضعف القرابة عن التوريث، فلا يجوز لأحد أن يورث العامة دون الخالة، ولا الخالة دون العمة، فالطريقة واحدة في المسألتين، وإن كان المدرك مختلفاً، بأن يقول أحد الفريقين لا أورث الخالة لأنها تدلي بالأم، ويقول الآخر لا أورث
العمة لبعدها من الأب، جاز الفصل بسبب أن اختلاف المدارك يسوغ ذلك، لأنه إذا قال قائل أورث العمة لشائبة الإدلاء بالأب ولا أورث الخالة لإدرائها بالأم، وجهة الأمومة ضعيفة فهذا قد قال بالتوريث في العمة، وقد قاله بعض الأمة، فلم يخرق الإجماع وقال بعدم التوريث في الخالة. وهو قول بعض الأمة فلم يخرق الإجماع، وكذلك قال باعتبار ما اعتبره من العلة بعض الأمة، فلم يخالف الإجماع. أما لو كانت الطريقة واحدة كما في التمثيل الأوّل كان خارقاً للإجماع باعتبار المدرك، لأن كلّ من قال باعتبار أحد المدركين قال باعتباره في الجميع، وانعقد الإجماع على أنه إذا ألغى إحدى العلتين بقيت الأخرى، فالقول بإلغائها في البعض دون اعتبار الآخر خلاف الإجماع.
من هنا حسن التنظير بالشافعي رضي الله عنه، فإن الإنسان إذا وافقه في مسألة لمدرك فقد اعتقد صحة ذلك المدرك، فيلزمه أن يتبعه في فروع ذلك المدرك كلها. أما إذا كانت مدارك الشافعي مختلفة كما هو الواقع فلا يلزم من موافقته في مسألة موافقته في جميع المسائل؛ لأن مدرك تلك المسائل غير مدرك تلك المسألة، فكذلك
الأمة توافق بعضها في بعض مدارك، ولا توافق في البعض الآخر، فلا جرم صح التفريق فيما قالوا فيه بعدم الفصل إذا اختلفت المدارك.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إن عينوا الحكم وقالوا لا نفصل حرم الفصل، وإن لم يعينوا ولكن أجمعوا عليه مجملاً فلا يعلم تفصيله إلاّ بدليل غير الإجماع، فإن دل الدليل على أنهم أرادوا معيناً تعين أو أرادوا العموم تعين العموم، وإن لم يدل دليل حصل العموم أيضاً، فإن ترك البيان مع الإجمال دليل على العموم، ومتى كان مدرك أحد الصنفين مختلفاً أو جاز أن يكون مختلفاً جاز التفصيل بين المسألتين.
وإذا اختلف العصر الأوّل على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر، وفصل الإمام فقال إن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع وإلا فلا، كما قيل للجد كلّ المال، وقيل يقاسم الأخ، فالقول يجعل المال كله للأخ مناقض للأول، وإذا أجمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما.
هذه هي التي تقدمت، وقد تقدم بسطها غير أني قدمتها في أول الكلام مجملة، ثم ذكرتها مفصلة، والفرق بين قولهم لا يجوز إحداث القول الثالث، وبين قولهم لا يجوز الفصل بين مسألتين، أن القول الثالث يكون في الفعل الواحد، كما تقول في سباع الوحوش قال بعضهم هي حرام، وقال بعضهم ليس بحرام، فالقول بأن بعض السابع حرام وبعضها
ليس بحرام خارق للإجماع فيكون باطلاً، وعدم الفصل في مسألتين مثل توريث ذوي الأرحام كما تقدم في تقريره.
ويجوز حصول الاتفاق بين الاختلاف في العصر الواحد خلافاً للصيرفي وفي العصر الثاني لنا والشافعية، والحنفية في قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق فيمتنع الاتفاق أو هو مشروط بعدم الاتفاق وهو الصحيح.
لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في أمر الإمامة ثم اتفقوا عليها، فدل على ما قلناه، وأما المسألة الثانية فصُورتها أن يكو لأهل العصر الأوّل قولان ثم اتفق أهل العصر الثاني على أحد القولين، لنا أن هذا القول قد صار قول كلّ الأمة، لأن أهل العصر الثاني هم كلّ الأمة، فالصواب لا يفوتهم فيتعين قولهم، هذا حقاً وما عداه باطلاً.
حجة المخالف أن أهل العصر الأوّل قد اتفقوا على جواز الأخذ بكل واحد من القولين بدلاً عن الآخر، فالقول بحصر الحق في هذا القول خلاف الإجماع، ولقوله تعالى:«فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» (1) ، وهذا حكم وقع فيه النزاع في العصر الأوّل فوجب رده إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ولا تحسم مادة النظر فيه لظاهر الآية ولقوله عليه السلام:«أصحابه كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وهذا عام سواء حصل بعدم إجماع أولا، ووجب إذا قال قائل بذلك القول المتروك أن يكون حقاً لظاهر الحديث.
والجواب عن الأوّل: أن تجويز الأخذ بكلا القولين مشروط بأن لا يحدث إجماع.
فإن قلت: يلزمك ذلك في الإجماع على القول الواحد أن يكون مشروطاً بعدم طريان الخلاف.
قلت: قد تقدم الجواب عنه.
وعن الثاني: أن موجب الرد هو التنازع، وقد ذهب بحصول الاتفاق فينتفي الرد.
وعن الثالث: لا نسلم أن قوله باقٍ في العصر الثاني بعد الاتفاق حتى يحسن الاقتداء به.
(1) 59 النساء.
وانقراض العصر ليس شرطاً خلافاً لقوم من الفقهاء والمتكلمين لتجدد الولادة كلّ يوم فيتعذر الإجماع.
لنا: النصوص الدالة على كون الإجماع حجة، ولأن التابعين يولدون في زمن الصحابة ويصير منهم فقهاء قبل انقراض عصرهم، فيلزم أن لا ينعقد إجماع الصحابة دونهم، ثم عصر التابعين أيضاً كذلك فتتداخل الأعصار في بعضها، ولا ينعقد الإجماع.
احتجوا بأن الناس ما داموا أحياء فهم في مهلة النظر فلا يستقر الرأي فلا ينعقد الإجماع، ولأن الله تعالى يقول:«لتكونوا شهداء على الناس» (1) وأنتم تجعلونهم شهداء على أنفسهم.
والجواب عن الأوّل: أن اتفاق الآراء الآن دل على صحتها عملاً بأدلة الإجماع، فيكون ما عداها باطلاً فلا يفيد الانتقال إليه. وعن الثاني: أن كون الإنسان شاهداً على غيره لا يمنع من قبول قوله على نفسه، قال الله تعالى:«ولو على أنفسكم» (2) ثم المراد بهذه الآية الدار الآخرة، والشهادة على الأمم يوم القيامة، فلا تعلق لها بما نحن فيه.
وإذا حكم بعض الأمة وسكت الباقون فعند الشافعي والإمام ليس بحجة ولا إجماع، وعند الجبائي إجماع وحجة بعد انقراض العصر، وعند أبي هاشم ليس بإجماع، وهو حجة، وعند أبي علي بن أبي هريرة إن كان القائل حاكماً لم يكن إجماعاً ولا حجة، وإن كان غيره فهو إجماع وحجة.
حجة الأوّل: أن السكوت قد يكون لأنه في مهلة النظر، أو يعتقد أن قول خصمه مِمّا يمكن أن يذهب إليه ذاهب، أو يعتقد أن كلّ مجتهد مصيب، أو عنده منكر ولكن يعتقد أن غيره قام بالإنكار عنه، أو يعتقد أن إنكاره لا يفيد.
(1) 143 البقرة.
(2)
135 النساء.
ومع هذه الاحتمالات لا يقال للساكت موافق للقائل، وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه:«لا ينسب إلى ساكت قول» وإذا لم يكن إجماعاً لا يكون حجة، لأن قول بعض الأمة ليس بحجة.
حجة الجبائي أن السكوت ظاهر في الرضا لاسيما مع طول المدة، ولذلك قال عليه السلام في البكر «وإذنها صماتها» وإذا كان الساكت موافقاً كان إجماعاً وحجة، عملاً بالأدلة الدالة على كون الإجماع حجة.
حجة أبي هاشم: أنه ليس إجماعاً لاحتمال السكوت ما تقدم من غير الموافقة، وأما أنه حجة فإنه يفيد الظن والظن حجة لقوله عليه السلام:«أمرت أن أقضي بالظاهر» وقياساً على المدارك الظنية.
حجة أبي علي: أن الحاكم يتبع أحكامه ما يطلع عليه من أمور رعيته فربما علم في حقهم ما يقتضي عدم سماع دعواه لأمر باطن يعلمه، وظهاره الحال يقتضي أنه مخالف للإجماع، فكذلك في تحليفه وإقراره، وغير ذلك مِمّا انعقد الإجماع على قبوله، وأما المفتي فإنما يفتي بناء على المدارك الشرعية وهي معلومة عند غيره، فإذا رآه خالفها نبهه، وأما أمور الرعية وخواص أحوالهم فلا يطلع عليها إلاّ من ولي عليهم، فتلجئه الضرورة للكشف عنهم فلا يشاركه غيره في ذلك، فلا يحسن الإنكار عليه، ثم إنه قد يرى المذهب
المرجوح في حق هذا الخصم، هو الراجح المتعين في حق هذا الخصم لأمر اطلع عليه، ولا يمكن الاعتراض عليه لهذه الاحتمالات.
فإن قال بعض الصحابة قولاً ولم يعرف له مخالف، قال الإمام إن كان مِمّا نعم به البلوى ولم ينتشر ذلك القول فيهم، وفيهم فقيه مخالف لم يظهر (1) فيجري مجرى قول البعض وسكوت البعض، وإن كان مِمّا لا تعم به البلوى فليس بإجماع ولا حجة.
(1) في نسخة: ولم ينتشر ذلك القول فيهم فيحتمل أن يكون فيهم مخالف لم يظهر.
إذا كانت الفتوى مِمّا تعم بها البلوى بأن كان سببها عاماً كدم البراغيث وطين المطر والفصادة وكونها تنقض الطهارة ونحو ذلك. فشأن هذه الفتوى أن تنتشر بينهم لعموم سببها أو شموله لهم، وإذا لم تنتشر فبعضهم عنده علم تلك الفتوى لوجود سببها في حقه وهو إما موافق لما ظهر أو مخالف له، وقولي فيه مخالف غير هذه العبارة أجود، بل يقول فيه قائل: أما المخالف فلا يتعين لاحتمال أنه موافق، وأما إذا لم تعم به البلوى فيتخرج على الإجماع السكوتي، هل هو إجماع وحجة أم لا؟ وهذا الذي نقلته هو قول الإمام فخر الدين في المحصول، ولما كان مذهبه في الإجماع السكوتي أنه ليس إجماعاً ولا حجة، قال هنا كذلك، وهو يتخرج على الخلاف المتقدم.
وإذا جوزنا الإجماع السكوتي وكثير ممن لم يعتبر انقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي.
سبب الفرق أن الإجماع القولي قد صرح كلّ واحد بما في نفسه فلا معنى للانتظار، وفي السكوتي في احتمال أن يكون الساكت في مهلة النظر، فينتظر حتى ينقرض العصر، فإذا مات علمنا رضاه. قال الإمام فخر الدين: وهذا ضعيف؛ لأن السكوت إذا دل على الرضا دل في الحياة أو لا يدل، فلا يدل عند الممات.
والإجماع المروي بأخبار الآحاد المظنونة حجة خلافاً لأكثر الناس، لأن هذه الإجماعات وإن لم تفد العلم فهي تفيد الظن، والظن معتبر في الأحكام كالقياس وخبر الواحد، غير أنا لا نكفر مخالفها، قاله الإمام.
ولأنه حجة شرعية فيصح التمسك بمظنونه كما يصح بمقطوعه كالنصوص والقياس. حجة المنع: أن خبر الواحد إنّما يكون حجة في السنة وهذا ليس منها، ثم الفرق أن إجما عالأمة من الوقائع العظيمة فتتوفر الدواعي على نقلها، بخلاف وقائع أخبار الآحاد، فحيث نقل بأخبار الآحاد كان ذلك ريبة في ذلك النقل.
فإن قلت: الصحيح قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى، مع أنه مِمّا يتوفر الدواعي على نقله، فما الفرق؟
قلت: الفرق أن عموم البلوى أقل من الكل قطعاً.
وإذا استدل العصر الأوّل بدليل وذكروا تأويلاً واستدل العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلاً آخر، فلا يجوز إبطال الأويل القديم، وأما الجديد فإن لزم منه إبطال القديم بطل وإلا فلا.
مثاله اللفظ المشترك يحمله أهل العصر الأوّل على أحد معنييه، ثم في العصر الثاني يعتبرون المعنى الآخر الذي لم يعتبره العصر الأوّل.
قال الإمام فخرا لدين المشترك لا يستعمل في مفهوميه وأحدهما مراد والآخر ليس بمراد، فلا يستقيم اعتبار التأويلين.
ويرد عليه: أن مذهب الشافعي ومالك والقاضي وجماعة كثيرة جوازه فجاز أن يعتبر العصر الأوّل أحد المعنيين لحضور سببه ولا يخطر الآخر ببالهم لعدم حضور سببه، ثم في العصر الثاني يحضر سببه فيعتبرونه دون الأوّل، والأمة لا يلزمها علم ما تحتاجه وعلم ما لا تحتاجه بل ما تحتاجه فقط.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إذا استدل الإجمال بدليل على حكم هل يجوز أن يستدل بدليل آخر على ذلك الحكم؟ منعه قوم لأن استدلال الأولين يقتضي أن ما عداه خطأ. قال: والحق إن فهم عنهم أن ما عداه ليس بدليل على ذلك الحكم امتنع الاستدلال بغيره، وإلا فلا يمتنع، لأنه لا يجب عليهم ذكر كلّ ما يصلح الاستدلال به.
وهل يصح في كلّ دليل كليّ أن يجمعوا أنه ليس بدليل، أو يفصل في ذلك فيقال: كلّ ما يقبل النسخ أو التخصيص صح إجماعهم على عدم دلالته وإلا لم يجز إجماعهم لأنه حينئذ خطأ؛ لأنه لا يصح أن يخرج عن كونه دليلاً.
وإذا قلنا بجواز الاستدلال بغير ما استدلوا به فهل يجوز الاستدلال بعدة أدلة وإن كانوا هم لم يستدلوا إلاّ بدليل واحد وهل يستدل بغير جنس دليلهم ولا فرق في الجنس الواحد والجنسين. هذا في الأدلة.
وإن عللوا بعلة هل لنا أن نعلل بغيرها؟ لا يخلو إما أن يكون الحكم عقلياً أو شرعياً، فإن كان عقلياً لم يجز بغير علتهم على أصولنا في أن الحكم العقلي لا يعلل بعلتين، بخلاف الاستدلال عليه بعلتين، ومن جوزه جوزه هنا.
وأما الشرعي: فإن فرعنا على أنه لا يجوز تعليله امتنع، وإلا جاز بشرط أن
لا تنافي
علتنا علتهم إلاّ أن يجمعوا على عدم التعليل بغير علتهم فيمتنع مطلقاً.
وإجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف حجة خلافاً للجميع.
لنا قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على خطأ، ومفهومه أن بعض الأمة يجوز عليه الخطأ، وأهل المدينة بعض الأمة.
وجوابه: أن منطوق الحديث المثبت أقوى من مفهوم الحديث الثاني.
ومن الناس من اعتبر إجماع أهل الكوفة.
سببه أن علياً رضي الله عنه وجمعا كثيراً من الصحابة العلماء كانوا بها فكان ذلك دليل على أن الحق لا يفوتهم.
وإجماع العترة عند الإمامية (1) .
لقوله تعالى: «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت» (2) والخطأ رجس، فوجب نفيه.
وجوابه: أن الرجس ظاهر في المعصية، والاجتهاد الخطأ ليس بمعصية، ولأن صيغة الحصر متعذرة في ذلك، لأن إرادة الله تعالى شاملة لجميع أجزاء العالم، فيتعين إبطال الحقيقة، ووجوه المجاز غير منحصرة، فيبقى مجملاً، فسقط الاستدلال به.
(1) الإمامية: إحدى شعبتي الشيعة الكبيرتين، تقابل الزيدية، سميت كذلك لأنها تمتد بالإمامة وتجعلها صلب مذهبها، قصرتها على علي وأبنائه من فاطمة بالتعيين واحداً بعد واحد، والأئمة في رأي أتباعهم معصومون مقدسون، أركان الأرض وحجة الله البالغة، لهم صلة روحية بالله كالأنبياء والرسل، تعرض عليهم أعمال العباد يوم القيامة. تنقسم الإمامية إلى شعبتين اثني عشرية وإسماعيلية، لا يزال لها أتباع إلى اليوم في آسيا وأفريقيا وخاصة في فارس والهند والعراق.
(2)
33 الأحزاب
وإجماع الخلفاء الأربعة حجة عند أبي حازم، ولم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام.
مستنده في قوله عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ» وهذه صيغة تحضيض (1) تفيد الأمر باتباعهم وهو المطلوب.
والجواب: أنه محمول على اتباعهم للسنن والكتاب العزيز، ونحن نفعل ذلك.
قال الإمام: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة، خلافاً لقوم.
لأن التابعين إذا حصل لهم أهلية الاجتهاد في زمن الصحابة بقي الصحابة بعض الأمة، وقول بعض الأمة ليس بحجة.
قال القاضي عبد الوهاب: الحق التفصيل إن حدثت الواقعة قبل أن يصير التابعي مجتهداً، وأجمعوا على أن الفتيا فيها فلا عبرة بقوله، وإن اختلفوا امتنع عليه إذا صار مجتهداً إحداث قول ثالث، وإن توقفوا فله أن يفتي بما يراه. فهذه ثلاثة أحوال، وإن حدثت بعد أن صار من أهل الاجتهاد فهو كأحدهم، فصار للمسألة حالتان في إحداهما ثلاث حالات.
حجة المخالف قوله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» (2) ولو لم يكونوا عدولاً ما رضي عنهم، ولقوله عليه السلام:«لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه» .
والجواب عن الأوّل: أن الآية تقضي عدم المعصية، وحصول الطاعة في البيعة ولا تعلق لذلك بالإجماع. وعن الثاني: أنه يقتضي أن يكون قولهم كلّ واحد حجة، وأنتم لا تقولون به.
قال ومخالفة من خالفنا في الأصول إن كفرناهم لم نعتبرهم ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا، لأنه فرع تكفيرهم، وإن لم نكفرهم اعتبرناهم.
لا نعتبر الكفار في الإجماع، لأن العصمة تثبت لهذه الأمة وليس من جملتها
(1) في الأصول: وهذه صيغة تخصيص.
(2)
18 الفتح.
الكفار، لأن المقصود بالعصمة من اتصف بالإيمان، لا من بعث له عليه السلام، وأهل البدع اختلف العلماء في تكفيرهم نظراً لما يلزم من مذهبهم من الكفر الصريح، فمن اعتبر ذلك وجعل لازم المذهب مذهباً كفَّرهم، ومن لم يجعل لازم المذهب مذهباً لم يكفرهم. وهذه القاعدة لمالك والشافعي وأبي حنيفة والأشعري، وللقاضي في تكفيرهم قولان، فحيث بنينا على أنهم كفار ينبغي أن يثبت ذلك بدليل غير إجماعنا، فإن إجماعنا لا يكون حجة على تكفيرهم، إلاّ إذا كنا نحن كلّ الأمة، ولا نكون نحن كلّ الأمة حتى يكون غيرنا كافراً، فيتوقف كون إجماعنا حجة على كونهم كفاراً، ويتوقف كونهم كفاراً على إجماعنا، فتوقف كلّ واحد منهما على الآخر فيلزم الدور.
ويعتبر عند أصحاب مالك مخالفة الواحد في إبطال الإجماع خلافاً لقوم.
قال القاضي عبد الوهاب: إذا خالف الواحد والاثنان ومن قصر عن عدد التواتر فلا
إجماع حينئذ. وقال قوم لا يضر الواحد والاثنان. وحكى عن بعض أصحابنا وعن المعتزلة. لا يضر من قصر عن عدد التواتر، وقاله أبو الحسين الخياط من المعتزلة. وقال ابن الحشاد لا يضر الواحد والاثنان في أصول الدين وما يتعلق بالتأثيم والتضليل، بخلاف مسائل الفروع.
حجة الجواز: قوله عليه السلام: «عليكم بالسواد الأعظم» ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون على الواحد والاثنين المخالفة لشذوذهم، ولأن اسم الأمة لا ينخرم بهم كالثور الأسود فيه شعرات بيض لا يخرج عن كونه أسود؛ ولأنه إذا كان الإجماع حجة وجب أن يكون معه من يجب عليه الانقياد له.
وجوابهم عن الأوّل: أن ذلك يفيد غالبة الظن أن الحق مع الأكثر، وأما الإجماع والقطع بحصول العصمة فذلك لا يفيده. وعن الثاني: أن الإنكار وقع منهم لمخالفة الدليل الذي عليه الجمهور لا لخرق الإجماع. وعن الثالث: أن اسم الأسود حينئذ إنّما يصدق مجازاً، بل الأسود بعضهه، فكذلك الأمة لا يصدق على بعضها إلاّ مجازاً. وعن الرابع: أن المنقاد للإجماع من بعدهم ومن عصرهم من ليس له أهلية النظر، والنزاع هنا فيمن له أهلية النظر.
حجة المنع: أن الأدلة إنّما شهدت بالعصمة لمجموع الأمة، والمجموع ليس بحاصل فلا تحصل العصمة.
حجة الفرق: أن أصول الديانات مداركها نظرية، والعقول قد تعرض لها الشبهات، فلا يقدح ذلك في الحق الواقع للجمهور، ومدرك الفروع سمعي واجب للنقل والتعلم، وحصوله واجب على كلّ مجتهد، فما خالف الاثنان إلاّ لمدرك صحيح.
وجوابه: كما تعرض الشبهة في العقليات تعرض في السمعيات، من جهة دلالتها ومن جهة سندها ومن جهة ما يعارضها بنسخها وغيره، فالكل سواء.
وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس.
لأن الكتاب يقبل النسخ والتأويل وكذلك السنة، والقياس يحتمل قيام الفارق وخفاءه الذي مع وجوده يبطل القياس وفوات شرط من شروطه، والإجماع معصوم قطعي ليس فيه احتمال، وهذا الإجماع المراد به هنا هو الإجماع القطعي اللفظي المشاهد، أو المنقول بالتواتر، وأما أنواع الإجماعات الظنية كالسكوتي ونحوه، فإن الكتاب قد يقدم عليه.
واختلف في تكفير مخالفه بناءً على أنه قطعي وهو الصحيح، ولذلك يقدم على الكتاب والسنة، وقيل ظني.
تكفير المخالف له وإن قلنا به فهو مشروط بأن يكون المجمع عليه ضرورياً من الدين، أما من جحد ما أجمع عليه من الأمور الخفية في الجنايات وغيرها من الأمور التي لا يطلع عليها إلاّ المتبحرون في الفقه فهذا لا نكفره، إذا عذر بعدم الاطلاع على الإجماع.
سؤال: كيف تكفرون مخالف الإجماع، وأنتم لا تكفرون جاحد أصل الإجماع كالنَّظّام (1) والشيعة وغيرهم، وهم أولى بالتكفير لأن جحدهم يشمل
(1) أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ: البلخي، المتوفى سنة 835م عرف بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز بسوق البصرة. متكلم مسلم، تلميذ لأبي الهذيل العلاف، واحد من أكابر المعتزلة في البصرة، مناظر ذكي وفصيح، واسع الثقافة. حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها. وقف على الاتجاهات الفكرية ورد على كلّ من يخالف مذهبه وملخص هذا المذهب «أن الله لا يقدر على فعل الشر ولا يفعل إلاّ ما هو الأصلح للعباد وأن الإنسان يعرف الله عن طريق العقل وأن إعجاز القرآن هو أن الله صرف الإنس والجن على أن يأتوا بمثله.
كلّ إجماع، بخلاف جاحد إجماع خاص لا يتعدى جحده ذلك الإجماع في مخالفة حكمه.
جوابه: أن الجاحد لأصل الإجماع لم يستقر عنده حصول الأدلة السمعية الدالة على وجوب متابعة الإجماع، فلم يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة، ونحن إنّما نكفر من جحد حكماً مجمعاً عليه ضرورياً من الدين، بحيث يكون الجاحد ممن يتقرر عنده أن خطاب الشارع ورد بوجوب متابعة الإجماع، فالجاحد على هذا التقرير يكون مكذباً لتلك النصوص، والمكذب كفرناه، فظهر الفرق.
وأما وجه كونه قطعاً عند الجمهور، فهو ما حصل من العلم الضروري من استقراء نصوص الشريعة بأنه حجة وأنه معصوم، والقائل بأنه ظني يلاحظ ما يستدل به العلماء من ظواهر الآيات والأحاديث التي لا تفيد غلا الظن، وما أصله الظن أولى أن يكون ظنياً.
ووجه الجواب أن الواقع في الكتب ليس هو المقصود، فإنا نذكر آية خاصة أو خبراً خاصاً وذلك لا يفيد إلاّ لظن قطعاً، قال التبريزي (1) في كتابه المسمى بالتنقيح في اختصار المحصول: وليس هذا مقصود العلماء، بل هذا الخبر مضاف إلى الاستقراء التام الحاصل من تتبع موارد الشريعة أو مصادرها، فيحصل
(1) أبو زكريا يحيى 1030-1109م عالم بفقه اللغة درس في صور ودمشق ونزح إلى القاهرة، ورحل إلى بغداد حيث ولي القضاء. تشهد مؤلفاته بروحه العلمية: منها شروح لديوان ولديوان المتنبي، كما فسر القرآن.