الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للنفس فتحكم عليها، وتقول كل ما كان كذا فهو كذا، وقيل بل الحواس طاقات والنفس كملك في بيت له خمس طاقات قبالة كل طاقة مشاهدات ليست قبالة الأخرى، والنفس التي هي الملك تنظر من كل طاقة لقبيل من المدركات لا توجد إلا هنالك، ويدل على الأول أن البهائم لا عقل لها وهي تدرك بحواسها، فدل ذلك على أن الحواس مستقلة بالإدراك دون النفس، ويدل على المذهب الثاني أن الإنسان إذا نام وفتحت عيناه لا يدرك شيئاً مع وجود العين بجملتها: السبع طبقات وثلاث رطوبات والعصب الأجوف والروح الباصرة، ولا يزال كذلك غير مدرك حتى يستيقظ فيأتي شيء للبصر وجميع الحواس، وحينئذ يحصل الإدراك، فدل على أن الحواس طاقات للنفس.
الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه
الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، فالقديم احتراز من نصوص أدلة الأحكام فإنها خطاب الله تعالى وليست حكماً وإلا اتحد الدليل والمدلول، وهي محدثة، والمكلفين احتراز من المتعلق بالجماد وغيره، والاقتضاء احتراز عن الخبر وقولنا أو التخيير ليندرج المباح.
إني اتبعت في هذا الحد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى مع أني غيرت بالزيادة في قولي القديم، ومع ذلك فلفظ الخطاب، والمخاطبة إنما يكون لغة بين اثنين وحكم الله تعالى قديم فلا يصح فيه الخطاب، وإنما يكون ذلك في الحادث، والصحيح أن يقال كلام الله القديم، فالكلام لفظ مشترك بين القديم واللساني الحادث كما تقدم فيه حكاية ثلاثة أقوال، وقولي القديم ليخرج الحادث من الألفاظ التي هي أدلة الحكم فإنها كلام الله تعالى وهو متعلق بأفعال المكلفين نحو قوله تعالى
«أقيموا الصلاة» (1) فلو كانت حكماً لا تحد الدليل والمدلول، وقولي المكلفين احتراز عن المتعلق بالجماد مثاله قوله تعالى «ويوم نسير الجبال» (2) فإنه كلام متعلق بالجبال وهو جماد ونحو هذا، فإذا قلنا المتعلق بأفعال المكلفين خرج هذا النوع وقولي بالاقتضاء احتراز من الخبر فإن قوله تعالى «وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس» (3) كلام متعلق بأفعال المكلفين وليس حكماً بل هو خبر عن تكليف تقدم.
ويدخل في الاقتضاء أربعة أحكام اقتضاء الوجود بالوجوب: أو الندب واقتضاء العدم بالتحريم، أو الكراهة، فتبقى الإباحة لم تندرج، فقلت أو التخيير لتندرج الإباحة وتكمل الأحكام الخمسة تحت الحد فيكون جامعاً، وقبل ذلك لم يجمع؛ فإن قلت أو للشك وهو لا يصلح في الحد قلت (أو، وأما) لها خمسة معان الإباحة والتخيير نحو أصحاب العلماء أو الزهاد فلك الجمع بينهما، وخذ الثواب أو الدينار (4) فليس لك الجمع بينهما، والشك نحو جاءني زيد أو عمرو وأنت لا تدري الآتي منهما، والإبهام نحو جاءني زيد أو عمرو وأنت تعلم الآتي منهما، وإنما قصدت الإبهام على السامع خشية مفسدة في التعيين، والتنويع نحو العدد إما زوج أو فردي أي العدد متنوع لهذين النوعين فأو هنا للتنويع أي الحكم الشرعي متنوع لهذين النوعين بلا شك وقد قال بعض الفضلاء في مثل هذا السؤال هذا حكم بالترديد لا ترديد في الحكم، والثاني هو الشك دون الأول لأنه جزم لا شك.
فإن قلت إذا سلمنا أن (أو) لها خمسة معان فالمشتركات لا تصلح في الحدود لإجمالها.
قلت: قد تقدم في أول الكتاب في الكلام عن الحد أن المجاز والاشتراك يجوز دخولهما في الحد إذا دل السياق أو القرائن على تعيين المجاز أو المشترك.
(1) 43 البقرة.
(2)
47 الكهف.
(3)
34 البقرة.
(4)
كان الأولى أن يمثل بهذا المثال: تزوج هند أو أختها، فإنه لا يصح الجمع بينهما. وهذا هو معنى التخيير.
وعلى الحد بعد هذا كله أسئلة أحدها أن تفسير الحكم بالكلام القديم لا يستقيم، لأنه صفة فعل العبد تقول: فعل واجب وفعل حرام، وصفة الحادث أولى أن تكون حادثة. وثانيها أنه يعلل بالحوادث فيقال حلت المرأة بالعقد وحرمت بالطلاق، والمعلل بالحوادث حادث. وثالثها: أنه يوصف بأنه مسبوق بالعدم فيقال حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالاً، والمسبوق بالعدم حادث. ورابعها أنه قد تعلق بفعل غير المكلفين فلا يكون جامعاً كإيجاب الضمان على الصبيان والمجانين في أموالهم. وخامسها أنه غير جامع لخروج أحكام الوضع عنه وهي نصب الأسباب كالزوال لوجوب الظهر، والشروط، كالحول شرط للزكاة، والموانع، كالحيض يمنع من الصلاة، والتقديرات الشرعية وهي إعطاء المعدوم حكم الموجود كتقدير الملك للمعتق عنه في الكفارة حتى يبرأ من الكفارة ويثبت الولاء له وتقدير تقدم الملك للعتق عنه في الكفارة حتى يبرأ من الكفارة ويثبت له الولاء له وتقدير تقدم الملك في الدية للمقتول خطأ قبل موته بالزمن الفرد حتى يصح أن يؤرث عنه، وإعطاء الموجود حكم المعدوم كتقدير نفي الإباحة السابقة في الأمة بردها
بالعيب، وتقدير عدم الطلاق في حق المطلق في المرض عند مالك رحمه الله تعالى حتى ترث مع البينونة وهو كثير في الشرع، وقد بينت في كتاب الأمنية أنه لا يخلو باب من الفقه عنه.
والجواب عن الأول: أن الشيء قد يوصف بما ليس قائماً به، كقولنا في قيام الساعة أنه مذكور ومعلوم بذكر قام بنا وعلم قام بنا، ووصف الفعل بالأحكام من هذا القبيل، وإنما يلزم الحدوث من الصفة في الحادث إذا كانت تقوم به كالسواد والبياض، والأقوال المتعلقة بالأفعال لا تكون صفات لها وإلا لكان القول صفة للمعدوم والمستحيل، فإنا نخبر عنه، وإذا قال السيد لعبده أسرج الدابة فقد أوجب عليه الإسراج، والإسراج واجب عليه إيجاب قام بالسيد دون الإسراج، وكذلك إذا أباحه له وعن الثاني أن علل الأحكام معرفات لا مؤثرات والمعروف يجوز أن يتأخر عن المعرف كما عرف الله تعالى بصنعته، وعن الثالث أن معنى قولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالاً أنها وجدت الحالة التي تعلق بها الحل في الأزل وهي حالة اجتماع الشرائط وانتفاء الموانع؛ فإن التعلق في الأزل إنما كان متعلقاً بهذه الحالة، فالحدوث في المتعلق لا في المتعلق بكسرها
ولا في التعلق خلافاً لمن قال إن التعلق حادث، وقد صرح بذلك تاج الدين في الحاصل وغيره، فإن الذي يحيل حصول علم في الأزل بلا معلوم يحيل حصول أمر في الأزل بلا مأمور، وإذا كان له مأمور فله به اختصاص، وذلك الاختصاص هو التعلق، والتعلق قديم. وعن الرابع أن الوجوب في تلك الحالة إنما هو على الولي أن يخرج من مال المحجور، أما المحجور عليه فلا وجوب عليه ولا حكم. وعن الخامس أنه سؤال صحيح والحد ليس جامعاً لكل ما هو حكم شرعي بل أحد نوعيه خاصة وهو أحكام التكليف، أما الوضع فلا، وهو أحكام لا تعلم إلا من قبل الشرع تعبدنا الله تعالى باتباعها؛ فالإيجاب بعد الزوال قيد في الوجوب وهو غير الوجوب المطلق وسببه الزوال حكم شرعي، وتختلف فيه الشرائع.
فالحق أن نقول في الحد الحكم الشرعي هو كلام الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير أو ما يوجب ثبوت الحكم أو انتفائه، فما يوجب ثبوت الحكم هو الأسباب وما يوجب انتفاءه هو الشرط بعدمه أو المانع بوجوده، فيجتمع في الحد (أو) ثلاث مرات، وحينئذ يستقيم ويجمع جميع الأحكام الشرعية، وهذا هو الذي أختاره، ولم أر أحداً ركَّب الحد هذا التركيب.
واختلف في أقسامه فقيل خمسة: الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة، وقيل أربعة والمباح ليس من الشرع، وقيل اثنان التحريم والإباحة وفسرت بجواز الإقدام الذي سشمل الوجوب والندب والكراهة والإباحة، وعليه يتخرج قوله عليه الصلاة والسلام «أبغض المباح إلى الله تعالى الطلاق» فإن البغضة تقتضي رجحان الترك والرجحان مع التساوي محال.
والأول هو المشهور (1) ومنشأ الخلاف في أن المباح هل هو من الشرع أم لا لاختلافهم في تفسير المباح، فمن فسره بنفي الحرج ونفي الحرج ثابت قبل الشرع، أفلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج، والإعلام به إنما يعلم من قبل الشرع فيكون شرعاً، وتفسير الإباحة بنفي الحرج مطلقاً حتى يندرج فيها
(1) يقصد بالأول هنا: ألقول الأول الذي أدخل الإباحة.
الوجوب والمكروه هو اصطلاح المتقدمين وبه وردت السنة في الحديث المتقدم؛ وتفسيرها باستواء الطرفين هو اصطلاح المتأخرين، فإذا اندرج فيها المكروه، ويكون الطلاق من أشد المكروهات فيفهم الحديث حينئذ، وإلا يتعذر فهمه، لأن (أفعل) في لسان العرب لا يضاف إلا لجنسه، فلا تقول زيد أفضل الحمير. (وأبغض) صيغة تفضيل وقد أضيفت إلى المباح المستوي الطرفين فيكون المبغوض بل الأبغض مستوي الطرفين وهو محال.
فالواجب ما ذم تاركه شرعاً والمحرم ما ذم فاعله شرعاً، وقيد الشرع احتراز عن العرف، والمندوب ما رجح فعله على تركه شرعاً من غير ذم، والمكروه ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذم، والمباح ما استوى طرفاه في نظر الشرع.
تنبيه: ليس كل واجب يثاب على فعله ولا كل حرام يثاب على تركه أما الأول فكنفقات الزوجات والأقارب والدواب ورد المغصوب والودائع والديون والعواري فإنها واجبة، فإذا فعلها الإنسان غافلاً عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة مجزئة مبرئة للذمة ولا ثواب حينئذ. وأما الثاني فلأن المحرمات يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها، فلا ثواب حينئذ، نعم متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب.
قوله ما ذم فاعله عليه إشكال من جهة أنه قد لا يفعل فلا يوجد فاعله ولا الذم المترتب عليه، وكذلك قولهم تاركه قد لا يوجد تاركه بأن يفعل الواجب وهو كثير، فتخرج هذه الصور كلها من الحد فلا يكون جامعاً.
وجوابه: أن التحديد قد يقع بذوات الأوصاف، كقولنا ما رجح فعله على تركه وقد
يقع بحيثيات الأوصاف نحو هذا ومعناه هو الذي بحيث إذا ترك ترتب الذم عليه، وهذه الحيثية ثابتة له فعل أو ترك؛ فتنبه لهذه القاعدة فهي غريبة وقد بسطتها في شرح المحصول.