الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ
زيادة صلاة على الصلوات أو عبادة على العبادات ليست نسخاً وفاقاً، وإنما جعل أهل العراق الوتر ناسخاً لما فيه من رفع قوله تعالى:«حافظوا على الصلوات والصلاة والسطى» (1) فإن المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى.
زيادة الحج على العبادات في آخر الإسلام ليس نسخاً لما تقدمه من العبادات، فعدم المنافاة، ومن شرط النسخ التنافي، وأما زيادة الوتر لما اعتقد الحنفية أنه واجب صار الصلوات عندهم ستاً، وكان عدد زوج لا توسط فيه، إنّما يمكن التوسط في عدد فرد، فالخمسة اثنان واثنان وواحد بينهما، وأما الستة ثلاثة وثلاثة لا يبقى شيء ستوسط بينهما، فارتفع الطلب المتعلق بالوسطى لزوال الوصف، والطلب لذلك حكم شرعي، فقد ارتفع حكم شرعي، فيكون نسخاً وهذا البحث مبني على أنها سميت وسطى لتوسطها بين عددين، وقيل لتوسطها بين الليل والنهار وهي الصبح، وقيل لتوسطها بين الأعداد الثنائية والرباعية، فتتوسط الثلاثية، فتكون المغرب. على القول الأوّل تكن العصر، لأنها قبلها الصبح والظهر، وبعدها المغرب والعشاء.
والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخاً عند مالك وعند أكثر أصحابه والشافعي، خلافاً للحنفية، وقيل إن نفت الزيادة ما دل عليه المفهوم الذي هو على الخطاب أو الشرط كانت نسخاً وإلا فلا، وقيل إن لم يجز الأصل بعدها فهي نسخ وغلا فلا، فعلى مذهبنا زيادة التغريب على الجلد ليست نسخاً، وكذلك تقييد الرقبة بالأيمان وإباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين الواجب وغيره، لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي، وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق.
(1) 238 البقرة.
حجتنا أن الله تعالى إذا أوجب الصلاة ركعتين ركعتين ثم جعلها أربعاً فإن هذه الزيادة لم تبطل وجوب الركعتين الأوليين ولا تنافيهما، وما لا ينافي لا يكون نسخاً.
فإن قلت: التشهد يجب عقيب ركعتين والسلام بآخر ذلك، فبطل ذلك وصار في موضع آخر وهو بعد الأربع، فقد بطل حكم شرعي فيكون نسخاً.
قلت: لا نسلم أن الله تعالى أوجب السلام عقيب الركعتين لكونهما ركعتين بل أوجبه آخر الصلاة كيف كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، ولا مدخل للعدد في إيجاب السلام، بل كونه آخر الصلاة فقط، وكون السلام آخر الصلاة لم يبطل، بل هو على حاله فهو لا نسخ.
وهذا السؤال هو مدرك الحنفية، واحتجوا أيضاً بأن الركعتين كانتا مجزئتين والآن هما غير مجزئتين، والإجزاء حكم شرعي فيكون نسخاً، ولأن إباحة الأفعال بعد الركعتين كانت حاصلة مع الزيادة بطلت هذه الإباحة، والإباحة حكم شرعي ارتفع فيكون نسخاً.
والجواب عن الأوّل: أن معنى قولنا هما مجزئتان أنه لم يبق شيء آخر يجب على المكلف، وقولنا لم يجب عليه شيء إشارة إلى عدم التكليف، وعدم التكليف حكم عقلي لا شرعي والحكم العقلي رفعه ليس نسخاً إجماعاً. وعن الثاني: أن إباحة الأفعال بعد الركعتين تابع لكونه ما وجب عليه شيء آخر، وقولنا ما وجب عليه، إشارة إلى نفي الحكم الشرعي، وبراءة الذمة التي هي حكم عقلي، والتابع للعقلي عقلين فلا يكون رفعه نسخاً.
ومثال نفي الزيادة بالشرط أن يقوم صاحب الشرع: إن كانت الغنم سائمة ففيها الزكاة، ثم يقول في الغنم مطلقاً الزكاة، فإن هذا العموم ينفيه مفهوم الشرط المتقدم.
ومثال المفهوم أن يقول: في الغنم السائمة الزكاة، ثم يقول في الغنم الزكاة،
فإن هذا العموم رافع للمفهوم المتقدم فيكون نسخاً، فإنه ما هو ثابت بدليل شرعي وهو الشرط أو المفهوم، وهذا التفريق مبني على أن النفي الأصلي قد تقرر بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وأن تقرير النفي الأصلي حكم شرعي، وليس كذلك، لأن الله تعالى لو
قال لا أشرع لكم في هذه السنة حكماً ولا أكلفكم بشيء، لم يكن لله تعالى فيه هذه السنة شريعة عملاً بتنصيصه تعالى على ذلك، مع أنه تعالى قد قرر النفي الأصلي، وكذلك لما قرر رفع التكليف عن المجنون والنائم وغيرهما لم يكن ذلك حكماً شرعياً بل إخبار عن عدم الحكم. والجنوح إلى مفهوم الصفة هو قول القاضي عبد الجبار، وهو مع تدقيقه قد فاته هذا الموضع.
ومثال ما لا يجزئ بعد الزيادة أن الصلاة فرضت مثنى مثنى كما جاء في الحديث، فلما زيد في صلاة الحضر ركعتان، بقيت الركعتان الأوليان لا يجزئان بدون هذه الزيادة، ومثال ما يجزئ منفرداً بعد الزيادة زيادة التغريب بعد الجلد؛ فإن الإمام لو اقتصر على الجلد واستفتى بعد ذلك، فقيل له لا بد من التغريب، فإنه لا يحتاج إلى إعادة الجلد مرة أخرى، بخلاف المصلي يحتاج إلى إعادة الجميع، ووجه الفرق على هذا المذهب أن الأصل إذا لم يجز بعد الزيادة اشتد التغيير فكان نسخاً، بخلاف القسم الآخر، التغيير فيه قليل.
وأما عن أصلنا فهذه الصور كلها ليست نسخاً، أما التغريب فلأنه رافع لعدم وجوبه، وعدم الوجوب حكم عقلي، ورافع الحكم العقلي ليس نسخاً. وتقييد الرقبة بالإيمان رافع لعدم لزوم تحصيل الإيمان فيها، وذلك حكم عقلي، وإباحة قطع السارق في الثانية ليست نسخاً، لأنه رافع لعدم الإباحة وهو حكم عقلي فلا يكون نسخاً.
فإن قلت: الآدمي أجزاؤه محرمة مطلقاً، وهذا التحريم حكم شرعي فيكون نسخاً لما رفع.
قلت: لنا هنا مقامان أحدهما أن ندعي أن الأصل في الآدمي وغيره عدم الحكم لا تحريم ولا إباحة؛ لأن الأصل في أجزاء العالم كلها عدم الحكم حتى وردت الشرائع، كما تقرر أنه لا حكم للأشياء قبل الشرائع، فعلى هذا الإباحة
رافعة لعدم الحكم لا للتحريم فلا يكون نسخاً، أو نسلم التحريم، ونقول حكم التحريم بمقتضى آدميته وشرفه من غير نظر إلى الجنايات، وهذا التحريم باق، ولا تنافي بين التحريم له من حيث هو هو، وإباحته من جهة الجنايات، كما أن إباحة الميتة من جهة الاضطرار لا يكون نسخاً للتحريم الثابت لها من حيث هي هي، وإنما يحصل التنافي أن لو أبحناه من حيث هو هو، أو أبحنا الميتة من حيث هي ميتة، وإذا لم يحصل التناقض لا يكون نسخاً فلا يكون إباحة يده مع الجناية نسخاً بل رفعاً لعدم الحكم، فإن أحكام الجناية لم تكن مترتبة، بل صارت مترتبة، وكذلك التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخاً لأنه إن قيل لك لمَ لا تتخير بين صلاة الظهر وصدقة درهم؟
نقول لأن البدل لم يشرع، فيشير إلى عدم المشروعية، وعدم المشروعية حكم عقلي، فمتى خير بين واجب وغيره، فقد رفع عدم مشروعية ذلك البدل فقط، ووجوب الصوم إلى الشفق يرفع عدم الوجوب من المغرب إلى الشفق، فهو حكم عقلي، ولهذه التقيرات يتضح لك ما هو نسخ مِمّا ليس بنسخ فتأملها!.
ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف، وإن توقف قال القاضي عبد الجبار هو نسخ في الجزء دون الشرط، واخترا فخر الدين والكرخي عدم النسخ.
مثال نسخ ما لا يتوقف عليه العبادة نسخ الزكاة بالنسبة إلى الصلاة، فإنه لا يكون نسخاً، مثال الجزء ركعة من الصلاة، مثال الشرط الطهارة مع الصلاة.
لنا أن إيجاب ذلك كله يجري مجرى إثبات الحكم للعموم، وكما أن إخراج بعض صور العموم لا يقدح، فكذلك هنا.
احتجوا بأن نسخ هذه الركعة مثلاً يقتضي نفي عدم إجزاء الركعة الباقية، فإنَّها كانت لا تجزئ صارت تجزئ، ويقتضي رفع وجوب تأخير التشهد إلى بعد الركعة المنسوخة، فإنه ما بقي ذلك بعد النسخ، بل يتعجل التشهد عقيب الباقي بعد النسخ، وكانت الركعة الباقية تجزئ إذا فعل معها المنسوخة، والآن وجب علينا إخلاء الصلاة منها، والإجزاء حكم شرعي.