الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العشرون في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين
وفيه فصلان
الفصل الأول في الأدلة
وهي على قسمين أدلة مشروعيتها وأدلة وقوعها، فأما أدلة مشروعيتها فتسعة عشر بالاستقراء، وأما أدلة وقوعها فلا يحصرها عدد، فلنتكلم أولاً عن أدلة مشروعيتها، فنقول: هي الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال والاستحسان، والأخذ بالأخف، والعصمة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع العترة، وإجماع الخلفاء الأربعة. فأما الخمسة الأوّل فقد تقدم الكلام عليها، وأما قول الصحابي فهو حجة عند مالك والشافعي في قوله القديم مطلقاً لقوله عليه الصلاة والسلام:«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ومنهم من قال إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا، ومنهم من قال قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهمان وقيل قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا.
حجة كونه حجة: أنه إذا خالف القياس يقتضى أنه إنّما عمل لنص فأما إذا لم يخالف القياس فأمكن أن يكون عن اجتهاد فيكون كقول غير الصحابي فيصير دليلاً لدلالته على الدليل عند هذا القائل لا لكونه دليلاً في نفسه.
حجة الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» ومفهومه يقتضي أن غيرهما ليس كذلك.
المصلحة المرسلة والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار عن ثلاثة أقسام: ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدمن وما شهد الشرع بعدم اعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر خمراً، وما لم يشهد له باعتبار ولا بإلغاء وهو المصلحة المرسلة وهي عند مالك رحمه الله حجة.
وقال الغزالي إن وقعت في محل الحاجة أو التتمة فلا تعتبر، وإن وقعت في محل
الضرورة فيجوز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد، ومثاله تترس الكفار بجماعة المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رميناهم لقتلنا الترس معهم، قال فيشترط في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية، فالكلية احتراز عما إذا تترسوا في قلعة بمسلمين فلا يحل رمي المسلمين إذ لا يلزم من ترك تلك القلعة فساد عام، والقطعية احتراز عما إذا لم نقطع باستيلاء الكفارة علينا إذا لم نقصد الترس وعن المضطر يأكل قطعة من فخذه، والضرورية احتراز عن المناسب الكائن في محال الحاجة والتتمة لنا أن الله تعالى إنّما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع.
قد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلاّ ذلك ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي الله عنه وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان رضي الله عنه ثم نقله هشام إلى المسجد، وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى
بالغياثي أموراً وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة وكذكل الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شدادا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة.
الاستصحاب: ومعناه أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال، فهذا الظن عند مالك والإمام المازني وأبي بكر الصيرفي رحمهم الله تعالى حجة خلافاً لجمهور الحنفية والمتكلمين. لنا أنه قضى بالطرف الراجح فيصبح كأروش الجنايات واتباع الشهادات.
حجة المنع: أن الاستصحاب أمر عام يشمل كلّ شيء وإذا كثر عموم الشيء كثرت مخصصاته وما كثرت مخصصاته ضعفت دلالته فلا يكون حجة.
والجواب: أن الظن الضعيف يجب اتباعه حتى يوجد معارضه الراجح عليه كالبراءة
الأصلية فإن شمولها يمنع من التمسك بها حتى يوجد رافعها.
البراءة الأصلية: وهي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام خلافاً للمعتزلة والأبهري وابي الفرج منا لنا: أن ثبوت العدم في الماضي يوجب ظن عدم ثبوته في الحال فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه، وعدم وجوده عندنا وعند طائفة من الفقهاء.
المعتزلة بنوا على مسألة التحسين والتقبيح أن (1) كلّ ثابت بعد الشرع ثابت قبله بالعقل وقد تقدم حجاجهم وأجوبتها أول الكتاب وأما الجمهور منا فعلى عدم الحكم إلاّ بعد البعثة، وأما الأبهري وابو الفرج وجماعة من الفقهاء قالوا بالحظر مطلقاً وبالإباحة مطلقاً وقد تقدم تفصيل مذاهبهم وليس ذلك منهم موافقة للمعتزلة في تحكيم العقل بل قالوا بذلك لأدلة سمعية وردت فقالوا بذلك لأجلها فمن الوارد في الحظر قوله تعالى:«يسألونك ماذا أحل لهم» (2) وذلك يقتضي أن المتقدم التحريم على العموم، وكذلك قوله تعالى:«أحلت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم» (3) ومن الأدلة للإباحة قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً» وقوله تعالى: «أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى» ونحو ذلك مِمّا يدل على الإباحة العامة فهم سنية لا معتزلة.
(1) في نسخة الخط وإن الخ.
(2)
4 المائدة.
(3)
1 المائدة.
العوائد والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه العادة يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب.
الاستقراء وهو تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة كاستقراء العرض في جزئياته بأنه لا يؤدي على الراحة فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضاً لما أدى على الراحلة، وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء.
في الاستدلال على عدم وجوب الوتر على الراجلة بفعله عليه الصلاة والسلام إياه على الراحلة إشكال من جهة أنه لم يكن ذلك إلاّ في السفر والمنقول أنه لم يكن واجباً هو ولا القيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فما فعل على الراحلة إلاّ وهو غير واجب.
سد الذرائع: والذريعة الوسيلة للشيء ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعاً
له، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل وهو مذهب مالك رحمه الله.
تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك، أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروع والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتدون على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة، وأما الذرائع فقد اجتمعت الأمة على أنها ثلاثة أقسام أحدها معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ، وثانيها ملغى إجماعاً كزراعة العنب فإنه لا يمنع خشية الخمر والشركة في سكنى الدار خشية الزنا، وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا فحاصل القضية أنا قلنا
تفسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا، واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج، وموارد الأحكام على قسمين مقاصد وهي الطرق المفضية للمصالح والمفاسد أنفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما هو متوسط متوسطة، وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى:«ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلاّ كتب لهم به عمل صالح» (1) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة.
قاعدة: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنَّها تبع، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسي على الرأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل.
تنبيه: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو والذي هو محرم عليهم للانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يزني بامرأة إذا
عجز عن ذلك إلاّ به، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتل هو وصاحب المال واشترط مالك فيه اليسارة، ومما شنع على مالك رحمه الله مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، ولا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة ولكن المعارض راجح عنها عند مخالفتها، وكذلك مالك ترك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو
(1) 120 التوبة.
عمل أهل المدينة فليس هذا باباً اخترعه ولا بدعاً ابتدعه، ومن هذا الباب ما يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي أو فاضربوه بمذهبي عرض الحائط، فإنه كان مراده مع عدم المعارض، فهو مذهب العلماء كافة وليس خاصاً به، وإن كان مع وجود المعارض فهذا خلاف الإجماع فليس هذا القول خاصة بمذهبه كما ظنه بعضهم.
كثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا ويقولون: مذهب الشافعي كذا لأن الحديث صح فيه وهو غلط فإنه لا بد من انتفاء المعارض والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة حتى يحسن أن يقول لا معارض لهذا الحديث، وأما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به، فهذا القائل من الشافعية ينبغي أن يحصل لنفسه أهلية هذا الاستقراء قبل أن يصرح بهذه الفتوى لكنه ليس كذلك فهو مخطئ في هذا القول.
الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوبة، وفيه قاعدتان.
القاعدة الأولى في الملازمات: وضابط الملزوم ما يحسن فيه (لو) واللازم ما يحسن فيه اللام كقوله تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا» (1) وكقولنا إن كان هذا الطعام مهلكاً لهو حرام، تقديره لو كان مهلكاً لكان حراماً، والاستدلال إما بوجود الملزوم أو بعدمه أو بوجود اللازم أو بعدمه فهذه الأربعة منها اثنان منتجان واثنان عقيمان فالمنتجان الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم وبعدم اللازم على عدم الملزوم فكل ما أنتج عدمه فوجوده عقيم وكل ما أنتج وجوده فعدمه عقيم (2) إلاّ أن يكون اللازم مساوياً للملزوم فتنتج الأربعة، نحو قولناك لو كان هذا إنساناً لكان ضاحكاً بالقوة، ثم الملازمة قد تكون قطعية كالعشرة مع الزوجية، وظنية كالنجاسة مع كأس الحجام، وقد تكون كليّة كالتكليف مع العقل فكل مكلف عاقل في سائر الأزمان والأحوال، فكليتها باعتبار ذلك لا باعتبار الأشخاص، وجزئية كالوضوء مع الغسل،
(1) 22 الأنبياء
(2)
في الأصل: فكلما أنتج عدمه فوجوده عقيم وكلما أنتج وجوده فعدمه عقيم.
فالوضوء لازم للغسل إذا سلم من النواقض حالة إيقاعه فقط، فلا جرم لا يلزم ن انتفاء
اللازم الذي هو الوضوء انتفاء الملزوم الذي هو الغسل لأنه ليس كلياً، بخلاف انتفاء العقل فإنه يوجب انتفاء التكليف في سائر الصور.
استدل مرة بعض الفضلاء على أن المغتسل لا يكفيه غسله للصلاة حتى يتوضأ وهو قول بعض العلماء بأن قال القاعدة العقلية أنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم، فلو كان الوضوء لازماً للغسل لكان يلزم من انتفائه انتفاء الغسل، فيلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى فغذا أحدث الحدث الأصغر يلزمه الغسل وهو خلاف الإجماع فلا تكون الطهارة الصغرى لازمة للطهارة الكبرى وهو المطلوب.
والجواب: ما تقدم أن الملازمة هنا جزئيّة في بعض الأحوال وهي حالة الابتداء فقط، وأما بعد ذلك فليست لازمة من انتفاء بلازم انتفاء شيء البتة.
وكذلك يقول إن كلّ مؤثر فهو لازم لأثره حالة إيقاعه، وقد يكتفي الصانع وتبقى الصنعة بعده، لأن الملازمة بينهما جزئيّة في بعض الأحوال وهي حالة الحدوث فقط، عدا تلك الحالة لا ملازمة بينهما فيها؛ فلا يلزم النفي من النفي، فلذلك لا يلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى بعذر من الابتداء فلذلك لا يلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى بعذر من الابتداء لعدم الملازمة في بقية الأحوال، غير أن الابتداء شرطه السلامة من النواقض.
القاعدة الثانية: أن الأصل في المانع الإذن وفي المضار المنع بأدلة السمع لا بأدلة العقل، خلافاً للمعتزلة، وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن، وقد تعظم المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة.
يعلم ما يصحبه الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة بنظائره من الشريعة وما عهدناه في تلك المادة.
الاستحسان قال الباجي هو القول بأقوى الدليلين، وعلى هذا يكون حجة إجماعاً وليس كذلكن وقيل هو الحكم بغير دليل وهذا اتباع للهوى فيكون حراماً إجماعاً، وقال الكرخي، هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه، وهذا يقتضي أن يكون
العدول من العموم إلى الخصوص استحساناً ومن الناسخ إلى المنسوخ وقال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأوّل، فبالأول خرج العموم، وبالثاني ترك القياس المرجوح للقياس الراجح لعدم طريانه عليه وهو حجة عند الحنفية وبعض البصريين منا، وأنكره العراقيون.
حجة الجواز: أنه راجح على ما يقابله على ما تقدم تحريره فيعمل به كسائر الأدلة
الراجحة ولقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن نقضي بالظاهر» .
حجة الممنع: أنه لم تتحقق له حقيقة من الحقائق الشرعية فيعمل به، إنّما هو شيء يهجس في النفوس وليس قياساً ولا مِمّا دلت النصوص عليه حتى يتبع، وقد قال به مالك رحمه الله في عدة مسائل تضمين الصناع المؤثرين في الأعيان بصنعتهم، وتضمين الحمالين للطعام والإدام دون غيرهم من الحمالين وهو الذي قاله أبو الحسين ترك وجه من وجوه الاجتهاد وهو ترك عدم التضمين الذي هو شأن الإجازة غير شامل شمول الألفاظ لأن عدم التضمين قاعدة لا لفظ لوجه أقوى منه، إشارة إلى أن العرف الذي لوحظ في صورة الضمان اعتباره راجح على عدم اعتباره وإضافة الحكم إلى المشترك الذي هو قاعدة الإجازة وعدم التضمين وهذا العرف في حكم الطارئ على قاعدة الإجارات؛ فإن المستثنيات طارئات على الأصول، وأما أحد القياسين مع الآخر فليس أحدهما أصلاً للآخر حتى يكون في حكم الطارئ عليه.
الأخذ بالأخف وهو عند الشافعي رضي الله عنه عنه حجة كما قيل في دية اليهودي أنها مساوية لدية المسلم، ومنهم من قال نصف دية المسلم وهو قولنا، ومنهم من قال ثلثها أخذاً بالأقل فأوجب الثلث فقط لكونه مجمعاً عليه وما زاد منفي بالبراءة الأصلية: العصمة وهي أن العلماء اختلفوا هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو عالم احكم فإنك لا تحكم إلاّ بالصواب، فقطع بوقوع ذلك موسى بن عمران من العلماء وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه ووافقه الإمام.
حجة الجواز والوقوع: قوله تعالى: «إلا ما حرم إسرائيل على نفسه» (1) فأخبر الله تعالى أنه حرم على نفسه، ومقتضى السياق أنه صار حراماً عليه، وذلك يقتضي
(1) 93 آل عمران.
أنه ما يحرم على نفسه إلاّ ما جعل الله له أن يفعله ففعل التحريم، ولو أن الله تعالى هو المحرم لقال إلاّ ما حرمنا على إسرائيل.
حجة المنع: أن ذلك يكون تصرفاً في الأديان بالهوى والله تعالى لا يشرع إلاّ للمصالح لا اتباع الهوى وأما قصة إسرائيل عليه السلام فلعله حرم على نفسه بالنذر ونحن نقول به.
حجة التوقف: تعارض المدارك.
إجماع أهل الكوفة: ذهب قوم إلى أنه حجة لكثرة من وردها من الصحابة رضي الله عنهم كما قاله مالك رحمه الله في المدينة، فهذه أدلة مشروعية الأحكام.
قاعدة: يقع التعارض في الشرع بين الدليلين والبينتين والأصلين والظاهرين والأصل والظاهر. يختلف العلماء في جميع ذلك، فالدليلان نحو قوله تعالى: «إلا ما
ملكت أيمانكم» (1) وهو يتناول الجمع بين الأختين في الملك وقوله تعالى: «وأن تجمعوا بني الأختين» (2) يقتضي تحريم الجمع مطلقاً، ولذلك قال علي رضي الله عنه حرمتهما آية وحللتهما آية وذلك كثير في الكتاب والسنة، واختلف العلماء هل يتخير بينهما أو يسقطان.
حجة السقوط: التعارض وليس أحدهما أولى من الآخر.
حجة التخيير: أن العمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الإمكان والتخيير عمل بالدليل فإنه أي شيء اختاره فيه مستند إلى دليل شرعي فلم يحصل الإلغاء فهو أولى.
البينتان نحو شهادة بينة بأن هذه الدار لزيد، وشهادة أخرى بأنه لعمرو، فهل تترجح إحدى البينتين خلاف الأصلان، نحو رجل قطع رجلاً ملفوفاً نصفين ثم تنازع أولياؤه إنه كان حياً حالة القطع فالأصل براءة الذمة من القصاص، والأصل بقاء الحياة.
فاختلف العلماء في نفي القصاص وثبوته، أو التفرقة بين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأموات أو الأحياء، ونحو العبد إذا انقطع خبره فهل تجب زكاة فطره لأن الأصل بقاء حياته أو لا تجب لأن الأصل براءة الذمة؟ خلاف، الظاهر أن نحو اختلاف الزوجين في متاع البيت فإن اليد ظاهرة في الملك ولكل واحد منهما يد فسوى الشافعي بينهما ورجحنا نحن بالعادة ونحو شهادة
(1) 24 النساء.
(2)
23 النساء.
عدلين برؤية الهلال والسماء مصحية، فظاهر العدالة الصدق، وظاهر الصحو اشتراك الناس في الرؤية، فرجح مالك العدالة ورجح سحنون الصحو. الأصل والظاهر كالمقبرة القديمة فالظاهر نبشها فتحرم الصلاة فيها، والأصل عدم النجاسة، وكذلك اختلاف الزوجين في النفقة: ظاهر العادة دفعها، والأصل بقاؤها فغلبنا نحو الأوّل والشافعي الثاني: ونحو اختلاف الجاني مع المجني عليه في سلامة العضو أو وجوده، الظاهر سلامة الأعضاء في الناس ووجودها والأصل براءة الذمة. اختلف العلماء في جميع ذلك واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى فإن الأصل براءة الذمة والغالب المعاملات لا سيما إذا كان المدعي من أهل الدين والورع، واتفقوا على تغليب الغالب على الأصل في البينة فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة.
فائدة: الأصل أن يحكم الشرع بالاستصحاب أو الظهور إذا انفرد عن المعارض وقد استثنى من ذلك أمور لا يحكم فيها إلاّ بمزيد ترجيح يضم غليها أحدها ضم اليمين إلى النكول، فيجتمع الظاهران، وثانيها تحليف المدعي المدعى عليه، فيجتمع استصحاب البراءة مع ظهور اليمين. وثالثها: اشتباه الأواني الأثواب يجتهد فيها على الخلاف فيجتمع الأصل مع ظهور الاجتهاد ويكتفى في القبلة بمجرد الاجتهاد لتعذر انحصار القبلة في جهة حتى يستصحبه فيها.
وأما أدلة وقوع الأحكام بعد مشروعيتها فهي أدلة وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها، وهي غير محصورة، وهي إما معلومة بالضرورة كدلالة الظل على الزوال، أو كمال العدة على الهلال وإما مظنونة كالأقارير والبينات والأيمان والنكولات والأيدي على الأملاك، وشعائر الإسلام عليه الذي هو شرط في الميراث، وشعائر الكفر عليه الذي هو مانع من الميراث، وهذا باب لا يعد ولا يحصى.