الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح
وفيه خمسة فصول
الفصل الأول هل يجوز تساوي الأمارتين
اختلفوا هل يجوز تساويا لأمارتين فمنعه الكرخي وجوزه الباقون والمجوزون اختلفوا فقال القاضي أبو بكر هنا وأبو علي وأبو هاشم بتخير ويتساقطان عند بعض الفقهاء، قال الإمام إن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين فهذا متعذر وإن وقع في فعلين والحكم واحد كالتوجه إلى جهتين للكعبة فيتخير، قال الباجي في القسم الأول إذا تعارضا في الأقطار والإباحة تخير، وقال الأبهري يتعين الحظر بناءً على أصله أن الأشياء عن الحذر، وقال أبو الفرج يتعين الإباحة بناءً على أصله أن الأشياء على الإباحة، فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل بناءً على أصولهم.
حجة منع تساويهما: أن الظنون لها مراتب تختلف باختلاف حكم العقول والسجايا ولكن العقول والسجايا غير منضبطة المقدار، فما نشأ عنها غير منضبط المقدار فيتعذر تساوي الأمارتين.
حجة الجواز: أن الغيم الرطب المشف في زمن الشتاء يستوي العقلاء أو عاقلان فقط في موجبه وما يقتضيه حاله، وكذلك الجدار المتداعي للسقوط لا بد أن يجتمع في العالم اثنان على حكمه، وإن خالفهم الباقون فيحصل المقصود فإنا لا ندَّعي وجوب التساوي بل جواز التساوي وذلك كافٍ فيما ذكرناه.
حجة القول بالتخير: أن التساوي يمنع الترجيح، والعلم بالدليل الشرعي واجب
بحسب الإمكان فإن خيرناه بينهما فقد أعملنا الدليل الشرعي من حيث الجملة، بخلاف إذا قلنا بالتساقط فإنه إلغاء بالكلية.
حجة التساقط: أنا إن خيرناه فقد أعملنا دليل الإباحة، والتقدير أنها متساوية لأمارة الحظر فيلزم الترجيح من غير مرجح، ولأنهما إذا تعارضا لم يحصل في نفس المجتهد ظن، وإذا فقد الظن والعلم حرمت الفتيا.
والجواب عن الأول: أنا لا نسلم أنه ترجيح لأمارة الإباحة
من حيث هي أمارة إباحة بل هذا التخيير نشأ عن التساوي لا عن أمارة الإباحة، وقد يشترك المختلفان في لازم واحد، ولم يلزم الترجيح من غير مرجح. وعن الثاني: أن اعتبار ظن أحدهما عيناً منفي أما ظن التخيير الناشئ عن التساوي فلا نسلم أنه غير حاصل. وقول الإمام هذا متعذر في حكمين في فعل وحد ليس كما قال، بل المتعذر ثبوت حكمين لفعل واحد من وجه واحد، أما ثبوتهما له من وجهين فليس كذلك، كالصلاة في الدار المغصوبة حرام وواجبة، وأيسر من ذلك تعارض الأمارتين فإنا لم نقل بمقتضاها بل قلنا اقتضيا حكمين متعارضين، فلو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضى والمانع في جميع صور الشريعة وليس كذلك، فلا محال حينئذ. ومثاله في حكم واحد في فعلين أن تدل أمارة على أن القبلة في استقبال جهة وأمارة أخرى على أنها ف ي استدبار تلك الجهة، فالاستقبال والاستدبار فعلان وحكمهما واحد وهو وجوب التوجه فيخير بين الجهتين كما قاله الإمام.
ورجح سيف الدين الآمدي الحظر على الإباحة عند التعارض بثلاثة أوجه: أحدها أن الحظر إنما يكون التضمن المفاسد ورعاية الشارع، والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من رعايتهم لتحصل المصالح فيقدم الحظر عنده على الواجب والمندوب والمباح. وثانيها أن القول بترجيح الحضر يقتضي موافقة الأصل، فإن موجبه عدم الفعل وعدم الفعل هو الأصل، أما الوجوب ونحوه فموجبه الفعل وهو خلاف الأصل. وثالثها أن الحظر يخرج الإنسان عن عهدته وإن لم يشعر به فهو أهون وأقرب للأصول، بخلاف الوجوب ونحوه لا بد فيه من الشعور حتى يخرج عن العهدة فهذه، ترجيحات غير تلك الأصول المتقدمة.
وإذا نقل عن مجتهد قولان فإن كانا في موضعين وعلم التاريخ عد الثاني رجوعاً عن الأول، وإن لم يعلم حكى عنه القولان ولا يحكم عليه
برجوع، وإن كانا في موضع واحد بأن يقول في المسألة قولان فإن أشار إلى تقوية أحدهما فهو قوله، وإن لم يعلم فقيل يتخير السامع بينهما.
وإذا علم الرجوع عن الأول لا يجوز الفتيا به ولا تقليده فيه، ولا بقي يعد من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص صاحب الشريعة لم يبق منها.
فإن قلت: لأي شيء جمع الفقهاء الأقوال كلها السابقة واللاحظة في كتب الفقه، بل كان ينبغي، أن لا يضاف لكل إمام إلا قوله الذي لم يرجع عنه.
قلت: ما ذكرتموه أقر للضبط، غير أنهم قصدوا معنى الآخر وهو الاطلاع على المدارك واختلاف الآراء، وأن مثل هذا القول قد صار إليه المجتهد في وقت فيكون ذلك اقرب للترقي لرتبة الاجتهاد، وهو مطلب عظيم أهم من تيسير الضبط فذلك جمعت الأقوال
في المذاهب. وإذا لم يعلم التاريخ ولم يحكم عليه برجوع ينبغي أن لا يعمل بأحدهما، فإنا نجزم بأن أحدهما مرجوع عنه منسوخ، وإذا اختلط الناسخ والمنسوخ حرم العمل بهما، كاختلاط المذكاة بالميتة، وأخت الرضاع بالأجنبية، فإن المنسوخ لا يجوز الفتيا به، فذلك كله من باب اختلاط الجائز والممنوع فيحرم الفتيا حينئذ بتلك الأقوال حتى يتعين المتأخر منها، أو يعلم أنهما محمولة على أحوال مختلفة أو أقسام متباينة، فيحمل كل قول على حالة أو قسم، ولا تكون حينئذ أقولاً في مسألة واحدة، بل كل مسألة فيها قول.
وأما القولان في الموطن الواحد إذا لم يشر إلى تقوية أحدهما توجه التخيير بينهما قياساً على تعارض الأمارتين، فإن نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشرع للمجتهد، ولذلك يحمل عام المجتهد على خاصة، ومطلقة على مقيده، وناسخه على منسوخه، وصريحه على محتمله، كما يعمل ذلك في نصوص صاحب الشرع، وأما كيف يتصور أن يقول المجتهد في المسألة قولان، مع أنه لا يتصور عنده الرجحان إلا في أحدهما، فقيل معناه أنه أشار إلى أنهما قولان للعلماء أو أنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل واحد منهما عام لتقاربهما من الحق، وأما إنه جازم بهما فمحال ضرورة.