الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ إنْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ حَالُ الشُّهُودِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَلَمْ أَرَ هَلْ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلَةً.
قَوْلُهُ (: وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الزِّنَا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ) ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ إلَى الْفَرْجِ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ، وَالْقَابِلَةَ، وَالْخَافِضَةَ، وَالْخَتَّانَ، وَالِاحْتِقَانَ، وَالْبَكَارَةَ فِي الْعُنَّةِ، وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِلتَّلَذُّذِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إجْمَاعًا لِفِسْقِهِمْ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ رُجِمَ) أَيْ لَوْ أَنْكَرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَمَّا إذَا وَلَدَتْ مِنْهُ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ، وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بَعْدَ مَا أَنْكَرَ بَعْضَ شَرَائِطِهِ كَالنِّكَاحِ، وَالدُّخُولِ، وَالْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ.
وَزُفَرُ يَقُولُ: إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ عَنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا يَرِدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَالْحَدِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَلَدٌ قَبْلَ الزِّنَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْإِحْصَانِ لَيْسَ مِثْلَ إثْبَاتِ الْعُقُوبَاتِ كَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الظَّوَاهِرِ قَالُوا وَكَيْفِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالدُّخُولِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا وَلَوْ قَالُوا دَخَلَ بِهَا يَكْفِي عِنْدَهُمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَكْفِي وَلَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ، وَالزِّفَافِ، وَالْخَلْوَةِ، وَالزِّيَارَةِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ كَلَفْظِ الْقُرْبَانِ، وَالْإِتْيَانِ وَلَهُمَا أَنَّهُ مَتَى أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ بِحَرْفِ الْبَاءِ يَتَعَيَّنُ لِلْجِمَاعِ بِخِلَافِ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لِلزِّيَارَةِ، وَلَوْ خَلَا بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَقَالَ: وَطِئْتهَا وَأَنْكَرَتْ صَارَ مُحْصَنًا دُونَهَا وَكَذَا لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ: كُنْت نَصْرَانِيَّةً وَقَالَ: كَانَتْ مُسْلِمَةً، وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ مُحْصَنًا يُحَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَّهُ، وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَفِي الْمُحِيطِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا أَمَةُ هَذَا الرَّجُلِ فَزَنَى الرَّجُلُ يُرْجَمُ، وَإِنْ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ زَنَى الرَّجُلُ لَا يُرْجَمُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَدَخَلَ بِهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَكُونَانِ بِذَلِكَ مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ غَيْرُ صَحِيحٍ قَطْعًا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْبَارِ فِيهِ اهـ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ]
أَيْ الشُّرْبُ الْمُحَرَّمُ أَخَّرَهُ عَنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ وَأَغْلَظُ عُقُوبَةً وَقَدَّمَهُ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ لِتَيَقُّنِ الْحُرْمَةِ فِي الشَّارِبِ دُونَ الْقَاذِفِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ وَتَأْخِيرُ حَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَال التَّابِعَةِ لِلنُّفُوسِ (قَوْلُهُ: مَنْ شَرِبَ خَمْرًا وَأَخَذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ أَوْ كَانَ سَكْرَانَ وَلَوْ بِنَبِيذٍ وَشَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ أَقَرَّ مَرَّةً حُدَّ إنْ عُلِمَ شُرْبُهُ طَوْعًا وَصَحَّا) لِلْحَدِيثِ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ» أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا النَّسَائِيّ ثُمَّ نُسِخَ الْقَتْلُ فِي الرَّابِعَةِ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ «أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ» وَزَادَ فِي لَفْظٍ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ إلَخْ) ذَكَرَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يُبَاحُ فِيهَا النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَقَدْ نَظَّمْتهَا بِقَوْلِي
وَلَا تُنْظَرْ لِعَوْرَةِ أَجْنَبِيٍّ
…
بِلَا عُذْرٍ كَقَابِلَةٍ طَبِيبِ
وَخَتَّانٍ وَخَافِضَةٍ وَحَقْنٍ
…
شُهُودِ زِنًا بِلَا قَصْدٍ مُرِيبِ
وَعِلْمِ بَكَارَةٍ فِي عُنَّةٍ أَوْ
…
زِنًا أَوْ حِينَ رَدٍّ لِلْمَعِيبِ.
[أَنْكَرَ الزَّانِي الْإِحْصَانَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ]
(بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ)
«فَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَقَعَ وَأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ ارْتَفَعَ» أَطْلَقَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَشَمِلَ الْقَطْرَةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ آخِرًا وَفِي وُجُودِ رِيحِهَا فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ الرِّيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الشَّهَادَةِ أَوْ وَقْتَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ قَرِيبًا فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الرَّائِحَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ وَبِقِيَامِ الرَّائِحَةِ أَوْ يَشْهَدَا بِهِ فَقَطْ فَيَأْمُرُ الْقَاضِي بِاسْتِنْكَاهِهِ فَيَسْتَنْكِهُهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ رِيحَهَا مَوْجُودٌ.
فَإِنْ شَهِدَا بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ رِيحِهَا مَعَ قُرْبِ الْمَكَانِ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ بَعِيدًا فَزَالَتْ الرَّائِحَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ وَيَقُولَا أَخَذْنَاهُ وَرِيحُهَا مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُمْ أَخَذُوهُ فِي حَالِ قِيَامِ الرَّائِحَةِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ وَلَوْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ اشْتِرَاطَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ عَنْ السَّكْرَانِ بِأَنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَوْ بِنَبِيذٍ وَأُخِذَ وَرِيحُ مَا شَرِبَ مِنْهُ مَوْجُودٌ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ رَائِحَةِ الشُّرْبِ الَّذِي شَرِبَهُ خَمْرًا كَانَ أَوْ نَبِيذًا سَكِرَ مِنْهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الرِّيحَ حَيْثُ قَالَ مَوْجُودٌ وَفِي الْهِدَايَةِ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَنَّثَةِ السَّمَاعِيَّةِ كَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَقَيَّدَ بِالرَّجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ لِلشُّبْهَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الشُّهُودَ كَمَا يَسْأَلُهُمْ فِي الزِّنَا وَقَدْ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي الْفَتَاوَى فَقَالَ: وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْخَمْرِ مَا هِيَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ كَيْفَ شَرِبَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا ثُمَّ يَسْأَلُهُمْ مَتَى شَرِبَ لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ ثُمَّ يَسْأَلُهُمْ أَنَّهُ أَيْنَ شَرِبَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْوَقْتِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الرَّائِحَةِ كَافٍ ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ الْقَاضِي حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الْعَدَالَةِ وَلَا يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ اهـ.
، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا نَاطِقًا فَلَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا كَافِرٍ قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ: رَجُلٌ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أُتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ سَكِرَ مِنْ غَيْرِ خَمْرٍ أَوْ سَرَقَ أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ وَأَسْلَمَ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا خَلَا الْخَمْرَ، وَالسُّكْرَ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ كَافِرٌ وَحَدُّ السُّكْرِ، وَالْخَمْرِ لَا يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ اهـ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَا يُحَدُّ الْأَخْرَسُ سَوَاءٌ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ بِإِشَارَةٍ مَعْهُودَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُحَدُّ الْأَعْمَى وَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ: ظَنَنْتهَا لَبَنًا أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهَا بِالرَّائِحَةِ، وَالذَّوْقِ مِنْ غَيْرِ ابْتِلَاعٍ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتهَا نَبِيذًا قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْخَمْرِ بَعْدَ الْغَلَيَانِ، وَالشِّدَّةِ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الذَّوْقِ، وَالرَّائِحَةِ اهـ.
وَلَا بُدَّ مِنْ اتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ فَلَوْ شَهِدَا عَلَى الشُّرْبِ، وَالرِّيحُ يُوجَدُ مِنْهُ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُحَدَّ وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا وَشَهِدَ الْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ بِشُرْبِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْخَمْرِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ السَّكَرِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَفِي حَصْرِهِ الثُّبُوتَ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ يُوجَدُ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ يُوجَدُ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ يَشْرَبُونَهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ جَلَسُوا مَجْلِسَ مَنْ يَشْرَبُهَا لَا يُحَدُّونَ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُونَ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوجَدُ مَعَهُ رِكْوَةٌ مِنْ خَمْرٍ وَكَانَ فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ: لِمَ تَحُدُّهُ فَقَالَ؛ لِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الشُّرْبِ، وَالْفَسَادِ فَقَالَ الْإِمَامُ فَارْجُمْهُ إذْنٌ، فَإِنَّ مَعَهُ آلَةَ الزِّنَا كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَفِي قَوْلِهِ: مَرَّةً رَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ كَمَا فِي الزِّنَا قُلْنَا: ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَشَرَطَ أَنْ يُعْلَمَ شُرْبُهُ طَوْعًا وَهُوَ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ شَرِبَهُ طَائِعًا؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مُكْرَهًا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ وَلَوْ قَالَ أُكْرِهْت عَلَيْهَا لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ طَائِعًا وَلَوْ لَمْ يَشْهَدُوا
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ لَا يُقَامُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ) قَالَ فِي النَّهْرِ وَفِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْعُذْرُ لِلْمُصَنِّفِ فِي حَذْفِهِ قَيْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ أَجَابَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا سَكِرَ هَلْ يُحَدُّ قَالَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ وَأَفْتَى الْحَسَنُ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ حَرَامٌ
بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فَلَوْ قَبِلْنَا قَوْلَهُ كَانَ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ كُنْت مُكْرَهًا فَيَرْتَفِعُ الْحَدُّ اهـ.
قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَنَّهُ نَكَحَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ هُوَ يُنْكِرُ السَّبَبَ الْمَوْجُودَ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا بِالنِّكَاحِ وَهَاهُنَا بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ وَهُوَ حَقِيقَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا هَذَا عُذْرٌ مُسْقِطٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الصَّحْوَ شَرْطٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ حَتَّى لَوْ حَدَّهُ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ مِنْ كَوْنِهِ زَاجِرًا وَفِي الْقُنْيَةِ لَا يَجُوزُ لِقَاضِي الرُّسْتَاقِ أَوْ فَقِيهِهِ أَوْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ إقَامَةُ حَدِّ الشُّرْبِ إلَّا بِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ.
(قَوْلُهُ:، وَإِنْ أَقَرَّا أَوْ شَهِدَا بَعْدَ مُضِيِّ رِيحِهَا لَا لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا أَوْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّا وَأَقَرَّ سَكْرَانُ بِأَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا) أَيْ لَا يُحَدُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، أَمَّا ثُبُوتُهُ بَعْدَ زَوَالِ رَائِحَتِهَا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلِلتَّقَادُمِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ
يَقُولُونَ لِي إنَّكَهُ شَرِبْت مُدَامَةً
…
فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا
وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا وَرَجَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: وَالْمَذْهَبُ عِنْدِي فِي الْإِقْرَارِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا بِهَا الرَّدُّ، وَالْإِعْرَاضُ وَعَدَمُ الِاسْتِمَاعِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَقَرَّ مَاعِزٌ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنَ مَسْعُودٍ بِالتَّلْتَلَةِ، وَالْمَزْمَزَةِ، وَالِاسْتِنْكَاهِ حَتَّى يَظْهَرَ سُكْرُهُ فَلَوْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رَجُلٍ أَنَّهُ مُولَعٌ بِالشَّرَابِ مُدْمِنٌ فَاسْتَجَازَهُ لِذَلِكَ اهـ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ. اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدَّمْنَا التَّفْصِيلَ فِي اشْتِرَاطِ وُجُودِ الرَّائِحَةِ وَأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً فَالشَّرْطُ وُجُودُهَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ لَا الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَقَدَّمْنَا أَنَّ وُجُودَ الرَّائِحَةِ لَا بُدَّ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذٍ، وَقَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ وَأَشَارَ فِي الْهِدَايَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ وَثَانِيًا فَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ أَوْ سَكْرَانَ وَكَوْنُهُ سَكْرَانَ مُغْنٍ عَنْ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الرَّائِحَةِ إذْ لَا يُوجَدُ سَكْرَانُ بِغَيْرِ رَائِحَةِ مَا شَرِبَهُ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا، وَالرَّائِحَةُ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالشَّكِّ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ سَكْرَانَ لَا يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لِاحْتِمَالِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الصَّحْوَ شَرْطٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ نَقْلًا صَرِيحًا وَنَقَلَهُ فِي النَّهْرِ عَنْ الْعَيْنِيِّ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى السَّكْرَانِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَصْحُوَ فَإِذَا صَحَا يُقَامُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ ذَهَبَتْ رَائِحَةُ الْخَمْرِ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَذْهَبْ.
(قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) أَيْ بِشَهْرٍ كَمَا قَدَّمَهُ فِي الْبَابِ السَّابِقِ (قَوْلُهُ: وَتَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ) قَالَ فِي الْفَتْحِ الْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَالتَّرْتَرَةُ وَالتَّلْتَلَةُ التَّحْرِيكُ وَهُمَا بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ (قَوْلُهُ: وَقَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ وَأَشَارَ فِي الْهِدَايَةِ إلَخْ) أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ ظَاهِرٌ فِيمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ قَدْ يُزِيلُهَا السَّكْرَانُ بِاسْتِعْمَالِ شَيْءٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ السُّكْرِ وُجُودُ الرَّائِحَةِ ثُمَّ رَأَيْت فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ كَمَا ذَكَرْت حَيْثُ قَالَ بَعْدَ سَوْقِهِ عِبَارَةَ الْمُؤَلِّفِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ مَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهِدَايَةِ لَا يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ الزَّيْلَعِيُّ حَتَّى لَوْ ذَهَبَتْ الرِّيحُ بِالْمُعَالَجَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْبُرْجَنْدِيِّ مَعْزِيًّا لِلْمُحِيطِ وَهَذَا الَّذِي قَدْ فَهِمَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ عِبَارَةِ الْهِدَايَةِ هُوَ الظَّاهِرُ وَقَوْلُهُ إذْ لَا يُوجَدُ سَكْرَانُ إلَخْ غَيْرُ مُسْلِمٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ عَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا
مَا ذَكَرْنَا وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْمُبَاحِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَاءَهَا لَمْ يُحَدَّ، وَإِذَا شَرِبَ قَوْمٌ نَبِيذًا فَسَكِرَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ حُدَّ مَنْ سَكِرَ، وَأَمَّا إذَا رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَصَارَتْ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ وَهُوَ سَكْرَانُ فَلِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَارَ إلَى أَنَّ كُلَّ حَدٍّ كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ بِهِ، وَإِنَّ مَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِر تَصَرُّفَاتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحُدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَإِقْرَارُهُ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَسَائِرُ الْحُقُوقِ مِنْ الْمَالِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَلِذَا إذَا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ وَلَمْ يُقْطَعْ لِسُكْرِهِ أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ وَصَارَ ضَامِنًا لَهُ، وَأَمَّا ارْتِدَادُهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ هَذَا فِي الْحُكْمِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ذَاكِرًا لِمَعْنَاهُ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وَفِي التَّبْيِينِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ارْتِدَادُهُ كُفْرٌ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ كَإِسْلَامِ الْمُكْرَهِ اهـ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ إسْلَامَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَيَّدَ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ وَهُوَ سَكْرَانُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَا بِالزِّنَا وَهُوَ سَكْرَانُ كَمَا إذَا زَنَى وَهُوَ سَكْرَانُ وَكَذَا بِالسَّرِقَةِ وَهُوَ سَكْرَانُ وَيُحَدُّ بَعْدَ الصَّحْوِ وَيُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ فَيُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِيمَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَاعْتِقَادٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا إذَا سَكِرَ بِالْمُبَاحِ كَشُرْبِ الْمُضْطَرِّ، وَالْمُكْرَهِ، وَالْمُتَّخَذُ مِنْ الْحُبُوبِ، وَالْعَسَلِ، وَالدَّوَاءِ، وَالْبَنْجِ فَلَا تُعْتَبَرُ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ وَفِي الْخَانِيَّةِ، وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ فَطَلَّقَ إنْ كَانَ حِينَ تَنَاوُلِهِ الْبَنْجَ عَلِمَ أَنَّهُ بَنْجٌ يَقَعْ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَقَعْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَلَالٌ مُطْلَقًا عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلُهُ بِأَنْ زَالَ عَقْلُهُ بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السَّكْرَانُ مِنْ النَّبِيذِ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَا الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ؛ لِأَنَّهُ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَلَهُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ الْمَيْزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَبِقَوْلِهِمَا أَفْتَى الْمَشَايِخُ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاخْتَارُوهُ لِلْفَتْوَى لِضَعْفِ دَلِيلِ الْإِمَامِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَاتَ سَكْرَانًا بَاتَ عَرُوسًا لِلشَّيْطَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ إذَا أَصْبَحَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّكْرَانَ مَنْ لَا يَحُسُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُصْنَعُ بِهِ وَحَكَى أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَقْرَأُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَلَالٌ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا سَكِرَ مِنْهُ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَلَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذِ الْعَسَلِ أَوْ الذُّرَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْبَنْجِ أَوْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَمْ يُحَدَّ ثُمَّ قَالَ وَفِي جَامِعِ الْجَوَامِعِ وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي فِي زَمَانِنَا الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ مَنْ سَكِرَ مِنْ الْبَنْجِ يُحَدَّ اهـ.
وَمِثْلُهُ فِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ النِّهَايَةِ وَفِي الْعِنَايَةِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا. اهـ. .
وَفِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ الْمُؤَلِّفِ تَصْحِيحُ الْحِلِّ وَيُخَالِفُهُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي التَّنْوِيرِ مِنْ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بِحُرْمَتِهِ، وَنَصُّهُ: وَيَحْرُمُ أَكْلُ الْبَنْجِ وَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ لَكِنْ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ. اهـ.
قُلْت التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِمَا نَقَلَهُ شَيْخُنَا عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ آخِرَ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَنَصُّهُ أَنَّ الْبَنْجَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقَتِّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى بِخِلَافِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ كَالْأَفْرِيتِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ اخْتَلَّ الْعَقْلُ لَكِنَّهُ لَا يُزِيلُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ إبَاحَةِ الْبَنْجِ كَمَا فِي شَرْحِ اللُّبَابِ (قَوْلُهُ: وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ) أَيْ فَيَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ يُوجَدُ بِالِاخْتِلَاطِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ السُّكْرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْقَدَحِ الَّذِي يَلْزَمُ الْهَذَيَانُ وَاخْتِلَاطُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ عَنْهُ فَلَمَّا امْتَنَعَ وَهُوَ الْأَدْنَى فِي حَدِّ السُّكْرِ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ الْأَعْلَى فِيهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.