الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - أبو محمد عبد الحق بن ربيع بن أحمد بن عمر الأنصاري
…
675هـ.
…
1285م.
ــ
فمنهم شيخنا الفقيه، الإمام العالم المحصل، المحقق المجيد، الصوفي المجتهد، أبو محمد عبد الحق بن ربيع بن أحمد بن عمر الأنصاري. أصله من "أبدة" وجده عمر هو الواصل إلى بجاية مستوطنا.
ولد ببجاية وقرأ بها ولقي مشائخ، وكان رحمه الله روح بلده ومصره، وواسطة نظام أهل زمانه وعصره، كان يحمل فنونا من العلم، الفقه والأصلان، أصول الدين وأصول الفقه والمنطق والتصوف، والكتابتان الشرعية والأدبية، والفرائض والحساب، وكان ابن مقلة زمانه، له خطوط جملة وهو في كل واحد منها ابن مقلة زمانه، كان يكتب الشرقي والغربي على فنون من ريحاني وتحساني وديواني وغير ذلك من أنواعه، ومن أبدع حاله في خطة إذا بدأ بنوع حكم عليه إلى آخره حتى لا يوجد فيه حرف واحد من غيره، ولقد رأيت كثيرا ممن يشارك بين خطين فيختلط كتبه.
وكانت له رحمه الله أخلاق حسان لم تكن لغيره، وكانت فيه دعابة مستحسنة مستطرفة، وكان من أملح الناس نادرة على طريقة أمثاله من
فضلاء أهل العلم والتخلق، وكان إذا اثني عليه بحسن الخلق يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن" ومن لم يكن عنده أول ما يوضع في الميزان لم يكن عنده غيره، لأن هذا إنما يجري مجرى الأساس.
تخطط في بلده بالعدالة، وكانت له صفة، وناب عن القضاة في الأحكام مطلقا، وكان هو المشاور عندهم والمعول على ما عنده، وهو كان القاضي على القضاة بالحقيقة لأن مرجع أمرهم إنما كان إليه. وكان له باطن سليم، سمعته رحمه الله يقول "والله ما بت قط وفي نفسي شر لمسلم" فجزاه الله عن نيته، وعامله بالحسنى عن طويته. وكان مسمتا مفوها، حسن العبارة مليح الإشارة، أربى في وثيقته على من تقدم، لو رآه أبو الحسن علي بن يحيى القاسم لأتبعه، ولقد رأيت الشيخ أبا محمد عبد الحق بن سبعين رحمه الله أثنى عليه في بعض كتبه ثناء حسنا، وذكر حاله في الوثيقة، وذكر بعض كتبه في وثيقة ابتياع سفينة فقال: إنه كتب فيها، فقال:"اشترى فلان من فلان السفينة الفلانية بجميع ما يحتاج إليه جارية وراسية: وأعجبه هذا من كتبه، وهذه واحدة من آحاد، وفرد من جملة أفراد" والوثيقة مع هذا إنما هي صفة من صفاته، وإحدى من حاجاته، ولما كانت معرفته باللسان وبمواقع المعاني مجملة ومفصلة، وبالأحكام كلية وجزئية على حال إحاطة، تقدمت وثيقته الوثائق وأماطت الشبه والعلائق.
وسمعت عن الفقيه أبي المطرف ابن عميرة إنه قال: أما الكتابة الأدبية
فنحن فيها وإياه على نسق، وأما الشرعية فقد انفرد بها الناس "ولولا الإطالة لذكرت من كتابته الأدبية والشرعية ومن ظرائف أخباره وملح آثاره مما رأيت وشاهدت، ما تصغي له الآذان ويسعد به الفؤاد والجنان".
ولقد أجيبت فيه دعوة أبيه، سمعت إنه لما حج دعا له حيث يجب، فقال يا عبد الحق رزقك الله لفظا وخطا، فكان كذلك. وقد نظم في مدة قراءته على الشيخ أبي الحسن الحرالي القصيدة الصوفية، وكانت من نحو خمسمائة بيت، فلخصها له الشيخ رحمه الله لهذه الأبيات انتقاها منها وترك ما عداها وهي:
سفرت على وجه الجميل فأسفرا
…
وبدا هلال الحسن منها مقمرا
ودنت فكاشفت القلوب بسرها
…
وسقت شراب الأنس منها كوثرا
ورأيتها في كل شيء أبصرت
…
عيناي حتى عدت كلي مبصرا
وسمعت نطق الناطقين فكلهم
…
بالحمد والتسبيح عنها أخبرا
وبها ركبت زواخرا من حبها
…
ولبست سر السر ثوبا أحمرا
وبها فنيت عن الفناء وغصت في
…
ماء الحياة مسرمدا ومدهرا
في الماء يظهر كل شيء كائن
…
وبه يرى مثل الوجود مصورا
وأنا أرى في كل ماء ماءه
…
ورأى وراء الماء ماء آخرا
فإذا وصلت به إليه فراجعن
…
تلك المنازل نقله متنكرا
فمتى أردت إبانة عن بعض ما
…
في القلب من سر مصون عبرا
فارفع به ظلم الحجاب فرفعها
…
تجنيك من غرس المنى ما أثمرا
فتراه حين تراك ذاتا رافعا
…
للبس حتى لا ترى إلا العرا
فهناك يفتح بابه ولطالما
…
قد كان دونك مبهما متعذرا
إفصاح قولي لا يفي بمواجدي
…
وبيانه لا يستقل بما جرى
لو كان سر الله يكشف لم يكن
…
سرا ولكن لم يكن ليذكرا
قلت وهذه قصيدة حسنة المعنى، قدسية المبنى، ولقد وقع الحديث معه في حديث مقتضياتها، ونظم مفرداتها بمزدوجاتها.
وكان أكثر الناس إنصافا في المذاكرة عرض عليه قضاء بجاية فامتنع منه، ووصل إليه كتاب المستنصر من حاضرة افريقية بقضاء قسنطينة حرسها الله فاعتذر وتلطف في الاستعفاء عنه، وسمعت كثيرا من أهل العلم يثنون عليه ويقولون إنه لم يكن في وقته بمغربنا الأوسط مثله. توفى رحمه الله في الثامن والعشرين لربيع الأول من عام خمسة وسبعين وستمائة ودفن بخارج باب المرسى، وكان له مشهد لا يكون إلا لمثله، وتاريخ وفاته في رخامة وضعت لحدا على قبره وكتب فيها بيتان هما من نظم الأديب الفاضل أبي نصر الجيني
بكيتك عبد الحق حقا لأنني
…
بكيت بك الدنيا وما في جميعها
من الدين والأفضال والعلم والحجا
…
وان كنت زين الدين يا ابن ربيعها
وكان رحمه أعلى الناس همة وارفعهم منزلة. وكان إذا أولى المعروف لا يذكره، وربما من فعل معه لا يعلم إنه هو الفاعل له، وإنما قصده وصول النفع علم الموصول إليه ذلك أو لم يعلمه، ومن ذلك ما هو مشهور عند أصحابنا، وهو أن القاضي أبا إسحاق ابن عباس رحمه الله أيام كان ببجاية ساعيا في نيل الخطة وعاملا على تحصيل الحضوة، سعى في شأنه عند القاضي الجليل أبي محمد ابن الطيران يرسمه برسم العدالة ويقدمه للشهادة، فطلبه أن يكتب فيه رسما بتأهله لذلك تحوطا منه، فكتب رسما وشهد فيه وشهد معه شاهد آخر
استكتمه الفقيه في ذلك، وأعطى الرسم للقاضي، فأذن له في الشهادة وبقي القاضي مدة بقائه بها، وانفصل إلى افريقية وانتقل أيضا أبو إسحاق ابن عباس إلى حاضرة تونس واستوطنها وكان أحد عدولها المنتصبين للوثيقة بها، وتوفى القاضي أبو محمد ابن الطيران بعد مدة بتونس ووقع الحضور لتركته وحضر لها شهيدان، لا نعلم هل القاضي أبو إسحاق أحدهما أو ابن عباس، فوجد الرسم في تركته وأطلع عليه القاضي ابن عباس، فتعجب كل العجب وأثنى عليه الشيخ رحمه الله بم وجب. وقال: والله ما شعرت بهذا قط ولا عرفته.
ودخلت عليه رحمه الله في مرضه الذي توفى فيه فألمت لألمه وذرفت عيناي لما اعتراه من سقمه، فقال لي يا فلان والله ما بي موتي، وإنما بي ما قاله أفلاطون لأصحابه لما حضرته الوفاة وحضروا عنده، قال: والله ما بي أن أموت وإنما بي أن أموت، ولم أرق بأصحابي إلى مراقيهم التي اقتضتها صفاتهم واستحقتها ذواتهم. فشكرته على ذلك وعلقت الأمل بالحياة وطول البقاء إلى أن يوفي لأصحابه بما جبلت عليه نفسه الكريمة من الوفاء رضي الله عنه.