الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي
594هـ - 1198م.
ــ
الشيخ الفقيه المحقق، الواصل القطب، شيخ مشائخ الإسلام في عصره، إمام العباد والزهاد وخاصة الخلصاء من فضلاء العباد، سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي من ناحية اشبيلية، ومن حصين يقال له "منتوجب" فتح الله عليه بمواهب قلبية، وأسرار ربانية، استفادها بالتوجه والعمل، وارتقى إلى غاية ما يؤمل؛ كان الشيخ أبو يعزى رحمه الله تعالى، يثني
عليه ويشكره ويقول بلسانه: "إيشار أفان أندلسي" وكان الشيخ أبو يعزى ممن يتبرك بثنائه لعظم خطره، وجلالة قدره. رأيت من كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه، إنه قال: طالعت أخبار الأولياء من عهد أويس القرني إلى زمننا، فما رأيت مثل الشيخ أبي يعزى، وطالعت كتب التذكير فما رأيت مثل كتاب الإحياء. قال الشيخ العارف محي الدين أبو بكر بن العربي الحاتمي الطائي المعروف بابن سراقة، أن الشيخ أبا مدين رحمه الله لم يمت حتى تقطب قبل أن يغر غر بثلاث ساعات، والقطبية للعارف هي منتهى مناله، وغاية آماله. قلت بلغ من ورعه رضي الله عنه، إنه كان لا يأكل البقلة المسماة ببقلة الروم لذكر اسم الروم عليها وإضافتها إليهم،
وهذا تقدم كبير في باب التقوى، ومثل ما ذكر، ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، إنه كان لا يأكل البطيخ، لأنه لم يبلغه كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكله بقشره أو بغير قشره، وهل تناوله رضا أو قطعا أو بالفم، ومثل ذلك ما يحكى عن المحاسبي الذي مات أبوه وترك كذا وكذا ألف درهم، فما أخذ منها شيئا وقال: أن أبي كان يقول بالقدر. وقال صلى الله عليه وسلم، لا يتوارث أهل ملتين. وكابن القاسم الذي مات أبوه وترك كذا وكذا ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال أن أبي كان تاجرا وكان لا يحسن العلم، فربما دخل عليه الربى وهو لا يشعر، وهو الذي اكترى دابة فسافر عليها فجاءه إنسان برسالة وقال له، تحمل هذه معك لفلان، فقال ما اشترطت على رب الدابة حمل هذا. وهذا كله من باب الورع رضي الله عنهم. سمعت عنه
رضي الله عنه، إنه قرأ حتى انتهى إلى سورة تبارك الذي بيده الملك، فظهرت له معالم العلى، وتحلى من مواهب الله بأحسن الحلي، فكانت تلك السورة سدرة منتهاه، وغاية مرماه.
أخبرني بعض المشيخة رضي الله عنهم، أن الشيخين القاضيين، أبا علي المسيلي وأبا محمد عبد الحق الاشبيلي رضي الله عنهما، سمعا عنه إنه يأتي من العلم بفنون، وإنه اطلع من أمر الله على سره المكنون، مع إنه لم ينته بالقراءة إلا إلى السورة المذكورة فكانا يتعجبان، ويكادان يحيلان ما عنه يسمعان، فاتفق رأيهما على الاجتماع معه، والاطلاع على ما عنده، فسارا إليه إلى أحد مسجديه الذين كان يجلس فيهما مع بعض خواص أصحابه، فدخلا فألفياه يفيض في أمور، ويستخرج الدرر من قيعان البحور، فجلسا إلى أن فرغ من كلامه، ورجع إلى ما يخصه من مرامه، فسلما عليه وسلم عليهما ولم يكن لهما رؤية قبل فقال لهما أما هذا فالفقيه أبو محمد عبد الحق، وأما هذا فالفقيه أبو علي المسيلي، فقالا نعم، وكان هذا من جملة كراماته، وإن صح أن يقال في هذا إنه مما تقرر عنده من رسم الصفة، فأحق أن ينسب ذلك إلى طريق الكرامة، فسألاه حيث انتهى بدراسته، وعن مبلغ قراءته، وذكرا له أنهما سمعا عنه إنه انتهى إلى سورة تبارك الذي بيده الملك، وإنه لم يزد عليها، فأجابهما رضي الله عنه وقال لهما نعم كانت سورتي، فوجدتها سدرتي، ولو تعديتها لأحرقتني سبحات الوجه الكريم، ثم التفت إليهما مخاطبا بنزعة صوفية مشيرا عن يمينه ويساره وهو يقول "بي قل وعلي دل فأنا الكل" فانفصلا عنه وقد تأكد العلم
عندهما بأن لله مواهب لا تسعها المكاسب وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وأخبرني بعض الأصحاب أن بعض الطلبة وقع بينهم نزاع في بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة: فتردد الكلام بينهم في أن مؤمنين إذا ماتا استحقا الجنة وبقي الناس أجمع دون شيء، فساروا إلى مجلس الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ليطلعوا على ما عنده في المسألة، فلما استقر بهم الجلوس في مجلسه وكان حديثه في ذلك المجلس على رسالة القشيري رحمه الله، ترك كلامه الذي كان يتحدث فيه وقال نزيل عن أصحابنا الإشكال، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة، أراد صلى الله عليه وسلم نصف جنته، وإذا كان بعد الحشر يعطى النصف الثاني من جنته، فبعد البعث تكمل له جنته، وفي القبر يعطى نصف جنته، وبين إنه يكشف له في القبر عن مقعده من الجنة وإنه يتنعم برؤيته، وإن أرواح المؤمنين تسرح في الجنة وفي يوم القيامة تتصل الأرواح بالأجساد ويجتمع الجميع في الجنة، وفي هذا من العلم ما لا ينتهي إلى حقيقته إلا أهل الصفاء وخاصة الأولياء، جعلنا الله منهم، وهذه إحدى كراماته رضي الله تعالى عنه حيث أخبرهم بما أتوا إليه قبل أن يخبروه.
وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الحق بن ربيع عن أبيه الفقيه أبي الزهر ربيع رحمه الله، أن والده أبا الزهر كان كتب لبعض الولاة ببجاية واكتسب معه مالا ثم رأى رؤيا مهولة وهي أن القيامة قد قامت وإنه يساق ليقذف به في النار
وانه سأل عن السبب فقيل بسبب ما اكتسبت من المال، فسأل واستغاث، فخلي عنه فتاب إلى الله تعالى ونزع نفسه عن الكتابة واشتغل بملازمة العبادة ولزوم القراءة، واستعمل حرفة الخياطة للمعيشة فلم يكفه ما ينتجه من ذلك فضاقت حاله وساءت، فسار يوما إلى والدته فأخبرها بضيق حاله وما انتهى إليه أمره ورغب أن يجد عندها فرجا فقالت له: يا بني، والله ما عندي شيء ولا أعلم لك نفعا سوى هذا الرسم، وهو رسم دار كانت لها، واغتصبها الموارقة حين دخولهم بجاية واستمر الغصب عليها، فخذه واطلب الدار وهي لك. فأخذت ذلك الرسم ومشيت به إلى الفقهاء استفتيهم فيه، فاستفتيتهم فأفتوني بجواز الطلب وإن الحق لمستحقه وجب، فقلت قد استفتيت فقهاء الدنيا ولا بد أن استفتي فقهاء الآخرة، قال فسرت إلى الشيخ أبي مدين رضي الله عنه بالمسجد المعروف الآن بمسجد الفقيه أبي زكرياء الزواوي رضي الله عنه بحومة اللؤلؤة فقصصت عليه القصة وسألته الفتيا فيها، فقال لي رضي الله عنه استفت ربك يفتك، فقلت له يا سيدي وهل بلغت أن يفتيني ربي؟ فقال لي استفت ربك يفتك، قال وكان هذا وهو ينتظر صلاة الصبح، فأقام المؤذن الصلاة وتعلقت نفسي بالفتيا، فلما كنت في الركعة الثانية من الصلاة عرض علي
شبه سنة فرأيت مرجا مريعا مخضر الجناب، رائق الجلباب، وفي وسطه بركة ماء كأنها اللجين، وفي ذلك المرج طاووس لا يرى في طواويس الدنيا مثله، وإذا به يخاطبني بلسان فصيح، ونطق بين صريح، يقول لي اطلب حقا واجبا اطلب حقا واجبا، فأتممت الصلاة وجلست بمجلسه المبارك لاستماع الذكر، وبعد فراغه وانصراف الناس عنه أقبل علي وقال لي أفتاك ربك، فقلت له أفتاني يا سيدي. قلت وفي هذا له رضي الله عنه كرامات أحدها أحالته على فتيا ربه، والثانية صدور الفتيا له، والثالثة إخباره له بأن ربه أفتاه وأطلعه على ذلك. وكراماته رضي الله عنه وأحواله المباركة الصادرة عنه مما لا يحصى وصفه، ولا يسع نظمه ووصفه.
ولما اشتهر أمره ببجاية سعي به عند خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش، فأمر بطلوعه إلى مراكش وكتب لوالي بجاية في ذلك وأمر أن يحمله خير محمل، فلما وصل إليه الأمر، اجتمع عليه أكابر أصحابه وعز عليهم فراقه وتألموا من حاله وانفوا عليه، فقال رضي الله عنه لا عليكم، شعيب شيخ كبير ضعيف لا قدرة له على المشي، منيته قدرت بغير هذه البلدة ولا بد من الوصول إلى محل منيته. فقيض الله له من يحمله برفق ويسوقه إلى مرام المقادير أحسن سوق، والقوم لا أراهم ولا يرونني، فطابت بذلك نفوسهم وذهب ضيرهم وبؤسهم، وارتحل رضي الله عنه إلى أن وصل تلمسان ونزل بها بالموضع المسمى بالعباد وهنالك قال لأصحابه رضي الله عنه: لا بأس بالنوم بهذا المكان، فوافته هناك منيته، وشرفت تلك البقاع تربته، وهذه من جملة كراماته رضي الله عنه وقبره هناك معمر مشهود، وحوض مورود، والدعاء عنده مستجاب، وهو
أحد المعالم التي عرف بالتجربة استجابة الدعاء عندها، وكذلك قبر الشيخ أبي زكريا يحيى الزواوي رضي الله عنه ببجاية، وقبر الشيخ أبي مروان اليحصبي ببونة وقبر معروف الكرخي ببغداد، نفعنا الله بخالص النيات، وأعاننا على الاعمال الصالحات.
ورأيت في فهرسة أبي عبد الله محمد بن عبد الحق التلمساني بعد ذكره لفضل الشيخ أبي مدين وبعد وصفه إياه ببعض أوصافه الجليلة، إنه قال ظهر فيه صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت المرء على ما عاش عليه، إذ كان من قوله عند آخر الرمق الله الحي. قلت هذه الخاتمة حسنا ومرتبة عليا، رحمه الله ورضي عنه. وتوفي في نحو التسعين وخمسمائة.
وذكر بعض العلماء قال: رأيت ذا القرنين في المنام فسألته عن قوله تعالى {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} ما هذه العين التي تغرب فيها الشمس والشمس أكبر من الدنيا نيفا وستين مرة، وقال لي أين
تغيب السماوات والنجوم والقمر حين يعدم الخلق؟ فقلت لا أدري، فقال لي في عظمة الله وقدرته، والعين هي العظمة والقدرة، فقلت ما عندي غير هذا، فقال ولا عند جبريل، ثم قال لي، قل للشيخ أبي مدين أنت قطب والدراري دائرة بك، وأنت ستر لبجاية الناجية فبثك العلم في بجاية رحمة لهم وعناية، وكان سبب هذا إنه وقع ذكر في هذه العين التي تغرب فيها الشمس، فقال الشيخ أبو مدين لصاحب الرؤيا أن رأيت أحدا من الأنبياء فاسأله عن هذه العين، وقال بعضهم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه أبو مدين وأبو حامد رضي الله عنهما، فسأل أبو حامد الشيخ أبا مدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له، ما روح الروح؟ فقال له أبو مدين المعرفة، فقال له فما روح المعرفة؟ قال اللذة، قال فما روح اللذة؟ قال نظرة إليه، فغشيهم نور عظيم فأخذتهم الملائكة وصعدت بهم حتى غابوا في الهواء.
وهنا أنا أثبت من كلامه المبارك ما يدل على علو مقامه، وبديع قصده ومرامه، ولولا الإطالة لألحقت كل كلمة منها بمعالمها، وبينت وجه ارتباطها بما هو من مراسلها، وفي حفظها أن شاء الله والعمل بها ما يرقى إلى منازل الأبرار، ويوصل إلى عالم المقربين الأخيار قال رضي الله عنه: الحق تعالى، مطلع على السرائر والضمائر في كل نفس، وقال: فأيما قلب رآه مؤثرا له حفظه من الطوراق والمحن ومتعاظلات الفتن. وقال: إياك أن تميل إلى غير الله فيسلبك لذة مناجاته. وقال: من رأيته يدعى مع الله حالا لا يكون على ظاهره منه شاهد فاحذره. وقال: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم. وقال: من عرف الله استفاد منه في اليقظة والنوم. وقال:
لا يصلح سماع هذا العلم إلا لمن جمعت له أربعة، الزهد والعلم والتوكل واليقين. وقال: اجعل الصبر زادك، والرضى مطيتك، والحق مقصدك ووجهتك. وقال: من تعلق بدعوى الأماني لم يفارق التوانى. وقال: من اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل. وقال: جعل الله تعالى قلوب أهل الدنيا محلا للغفلة والوسواس وقلوب العارفين محلا للذكر والاستيناس: وقال: لا ينفع مع الكبر عمل ولا يضر مع التواضع بطالة. وقال: الفترة الاشتغال بالخلق عن الخالق. وقال: أهل الصدق قليل في أهل الصلاح. وقال من لم يجد في قلبه زاجرا فهو خراب. وقال: توكل على الله حتى يكون الغالب على ذكرك، فإن الخلق لم يغنوا عنك شيئا. وقال: بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة. وقال: من أهمل الفرائض فقد ضيع نفسه. وقال: من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه. وقال: الدعوى من رعونة النفس وقال: أبناء الدنيا يخدمهم العبيد والإماء وأبناء الآخرة يخدمهم الأحرار والكرماء. وقال: من خدم الصالحين ارتفع بخدمته. وقال: من حرم احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت من خلقه. وقال: ثمرة التصوف تسليم كلك وقال من ترك التدبير والاختيار طاب عيشه. وقال: مروءتك إعطاؤك عن تقصير غيرك. وقال: الغيبة عن الحق خيبة. وقال: التعظيم امتلاء القلب بإجلال الرب. وقال: المهمل في الأحوال لا يصلح لبساط الحق. وقال: كل حقيقة لا تمحو أثر العبد ورسمه فليست بحقيقة. وقال: ما عرف الحق من لم يؤثره وما أطاعه من لم
يشكره. وقال المروءة موافقة الإخوان فيما لم يحظره العلم عليك. وقال: قوة العارف معروفة وقوة الغير فمعتادة مألوفة. وقال: من أراد الصفاء فليلزم الوفاء. وقال: أساس هذا الشأن على الزهد والاجتهاد. وقال: التدارك بالبلاء تحقيق بالرضى. وقال: الفقر أمارة على التوحيد ودلالة على التفريد [وحقيقة الفقر أن لا تشاهد سواه]. وقال: الزهد فريضة وفضيلة وقربة، فالفرض في الحرام، والفضل في التشابه، والقربة في الحلال. وقال: من قطع موصولا بربه قطع به. وقال: من شغل مشغولا بربه أدركه المقت [في الوقت](يا نفس هذه موعظة لك أن اتعظت). وقال: من استكن إلى غير الله بسره نزع الله الرحمة من قلوبهم عليه وأليسه لباس الطمع فيهم. وقال: علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق. وقال: احذر محبة المبتدعين فهو أبقى على دينك واحذر محبة النساء فهو أبقى على قلبك.
هذه كلمات طيبات ونبذ متخيرات من كلامه رضي الله عنه، وكل قضية منها لو اقتصر عليها المقتصر، وتمسك بمجردها الفطن اللبيب المختصر، لأغنته وحصلت له المراد وكفته، فإنها تضمنت من جوامع المعاني ما يطول فيه التفصيل، وتعظم به الإفادة لذوي التحصيل، والله موفقنا ومرشدنا بمنه.