الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
33 - أبو الفضل قاسم بن محمد القرشي القرطبي
…
662هـ
…
1264م
ــ
ومنهم، الشيخ الفقيه، المنقطع الصالح الزاهد، الورع المتعبد المستجاب الدعوة، أبو الفضل قاسم بن محمد القرشي القرطبي. مولده بقرطبة وبها نشأ، حبب إليه العمل الصالح وبغضت له الدنيا، فخرج من بلده دون العشرة الأعوام مهاجرا إلى الله مقبلا على العبادة بعد أن ترك مالا وعقارا، وقصد نحو الشيخ أبي أحمد رضي الله عنه وكان من أولياء الله المتقين، ومن عباده المخلصين، ظهرت عليه البركات، وفاضت عليه ينابيع الخيرات.
كراماته لا تعد، وفضائله جاوزت الإحصاء والعد. فمنها ما حكي عن بعض فقراء بجاية، وكان هذا الفقير من المتجردين، قال: أصبحت يوما وليس لنا قوت ولا شيء من الأشياء، وقد ولدت المرأة طفلة، فانقبض باطني بانقباض وقتي، وتشوش علي حالي واشتد قلقي، فخرجت هائما بنفسي إلى أن دخلت مسجد النطاعين، فجلست فيه، وإذا برجل قد دخل علي في المسجد وأتى إلى القبلة فركع ركعتين خفيفتين وجلس متوجها، قال الفقير: فقلت في نفسي، أن هذا الرجل الداخل خفف في تحيته، ولو أطال قليلا لكان أحسن، قال الفقير: فرأيت الرجل المذكور قد التفت إلي وقال لي: أيهما عندك أحسن؟ الذي يخفف في صلاته أو الذي تلد امرأته فيهرب عنها ويتركها دون شيء؟ قال: فاقشعر بدني وتوهمت ثم قلت: آه والله يا سيدي قد فعلت وكان ما ذكرت، فادع الله لي، قال: فمد يده وناولني صرة فيها دراهم وقال لي: أنفق منها
ولا تعدها، قال الفقير المذكور: فقلت له بالله من أنت؟ قال: أنا قاسم القرطبي، فعرفته من تلك الساعة، ثم خرج وخرجت إلى السوق فأنفقت منها أشياء غير واحدة والصرة بحالها، ثم حملت ذلك إلى البيت، واتسع الحال إلى يوم من الأيام دخلت سوق الصوف، فرأيت خرقة أعجبتني، فاشتريتها بثلاثين درهما، وغلبتني نفسي إلى عد الصرة ففعلت، فلم ألبث إلا قليلا وفرغت، فجئت لأزوره، فلما رآني تبسم وقال لي على البديهة: ألم أقل لك لا تعدها؟ وحدثني أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد المعطي، بتدلس، قال: خرجنا مع الشيخ نفع الله به وركبنا البحر، وحملنا آلة الصيد للحوت، ولم نزل نتصيد إلى قريب الظهر فلم يفتح لنا بشيء، ثم نظر إلينا وسكت ساعة ثم أخذ في الكلام في الأحوال والمعارف إلى أن انهمك فيها، وتمكن وقت الصلاة ثم رجع إلى حاله، فصلينا الفريضة بالساحل ثم عدنا نتصيد، فقال: الآن يفتح لكم به، قال: فرأينا على وجه الماء حيتانا قد أخرجت رؤوسها من الماء كالمصابيح، ثم صارت تترامى علنا في الرزق حتى امتلأ حوتا، فلله ما أطيب وقتنا حينئذ وما أبركه، لقد خشعنا وبكينا وتواجد بعضنا وجددنا التوبة مع الله، والاعتقاد والعهد مع الشيخ رضي الله عنه في الاستغفار والثناء على الله.
وقال أبو العباس ابن الخطيب: حضرنا مع الشيخ بوادي بجاية في بعض الجنات، فتكلم كثيرا إلى أن أخذ في شرح أقاويل الشيوخ أن العارف فوق ما يقول، وان العالم دون ما يقول، فخطر ببالي إنه من خواص العارفين، فالتفت إلي وقصدني بنظره وهو يتبسم فقال: نعم يا أحمد كما قلت ونويت.
وذكر عبد الله السلاوي -وكان من أصحاب الشيخ أبي الحسن الحرالي- قال: مرض سيدي أبو الفضل القرطبي فزرته، فلما جلست إليه جعلت ابكي، فقال لي: لم تبكي؟ فقلت: يا سيدي ابكي خوفا من فقدك وفراقك، قال لي: لا تخف، فاني لا أموت في هذه المدة بل أفيق وأرجع إلى الصحة، وما
ثم موت، وإنما هي نقلة من محل إلى محل، والموت للعارفين واضحة للحق، وسبب للقاء وشيء يوصل الحبيب إلى المحبوب، وان المعرفة تنقلب في الآخرة مشاهدة، فمن زرع نواة أنبتت تمرا، ومن زرع نبقة انبتت شوكا.
وذكر معاوية الزواوي وهو من خدامه قال: جئت يوما لأراه، فلما وقفت عند باب الزاوية أصابتني هبة، وسمعت كلاما بداخلها ومذاكرة، فتأدبت ووقفت، ثم بعد ساعة سكنت الأصوات، فلما أردت الاستئذان عليه ناداني ادخل يا معاوية فمسست الباب فوجدته مفتوحا، فدخلت عليه وسلمت، ونظرت فلم أر أحد، فتعجبت من ذلك وجلست، فرأيت شيئا من خبز وتين، فنظر إلي وتبسم وقال لي: كل من هذا فإنه بقية قوم صالحين.
ومن المشهور عنه، إنه بات مع قوم من خواصه في موضع "بتازروت"، فعمل لهم ميعادا طيبا وأصاب القوم وجد وخشية، فلما مضى من الليل أكثره، نفذ الزيت من المصباح فطلبوا له دهنا فلم يجدوه، فقال لأبي زكرياء الكماد: اجعل في المصباح ماء، فصبه من الإبريق، فاتقد المصباح وأضاء إلى الصباح.
وذكر أبو يزيد محمد بن عنوان قال: ركبت يوما بغلا قاصدا لزيارة الشيخ أبي الفضل، وسرت إلى موضع فنزلت لقضاء الحاجة وكنت وحدي في أرض خالية، فتفلت البغل من يدي وتقطع رسنه ولجامه فهرب، واتبعته فزاد هربا إلى أن عييت وسئمت، فقلت: اللهم بحرمة سيدي أبي الفضل وببركاته يسر لي هذا الأمر، قال: فرأيت البغل على بعد مني قد وقف، ثم قلب رأسه إلي وأتى قاصدا نحوي، فأدركته وأخذته، فعلمت أن ذلك ببركاته.
وذكر مسعود بن عمر قال: زرت الشيخ بعد أن غبت عنه نحو العام، فلما وقفت بباب الزاوية هبت أن أضرب الباب فبقيت متوقفا، فناداني من داخلها: أدخل يا مسعود، فمسست الباب فانفتح، ودخلت وسلمت عليه وجلست، وكنت تحت خوف من موجب حاكم الوقت به، فأردت شرح أمري إليه ليدعو لي، فأجابني عن الغرض المقصود قبل إخباري له، وقال لي:"يخلصك الله بفضله ويصرف عنك الأذى بمنه" قال: مسعود، فانصرفت وباطني بحمد الله طيب مطمئن، وأذهب الله عني كل هم ببركاته.
وقال الشيخ أبو زكرياء ابن محجوبة: قال لي الفقيه أبو الحسن بن أبي نصر: لقد طالعت كثيرا من مقامات الأكابر وتعرفت أحوالهم، فرأيت الشيخ أبا الفضل نفع الله به، جامعا لذلك كله وزيادة عليه، ولكنه لم يكن للناس بصيرة يعرفونه بها، ولا بواطن فتعقل عنه، فأخفى الله أحواله وكراماته على أهل الوقت غيرة منه عليه رضي الله عنه ونفع به. وتوفى ضحى يوم الاثنين الثاني عشر لربيع الأول من عام اثنين وستين وستمائة، هكذا ذكره ولده أبو زكرياء. وقبره قريب من قبر الشيخ أبي زكرياء الزواوي، رضي الله عنه ونفعنا به وبأمثاله.