الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
18 - أبو العباس أحمد بن عثمان بن عجلان القيسي
607 -
678هـ
1209 -
1271م
ــ
ومنهم شيخنا، الشيخ الفقيه الصدر الكبير، العابد المبارك، أبو العباس أحمد ابن عثمان بن عجلان القيسي أحد أعلام الدين، وإمام من أئمة المسلمين، من مشائخ التقوى والورع، منزه عن الميل والطمع، له علم وعمل، وصلاح مكتمل، استوطن بجاية مدة من الزمان واقرأ بها وانتفع به الناس علما وعملا.
وكان إذا جلس للإقراء يحضر بين يديه الكتب المقروءة عليه، فإذا فتح الطالب الكتاب، أخذ هو الكتاب في يده، ويقرأ الطالب وتقع المعارضة، وحينئذ يقع الشرح منه لما يقرأه القارئ وهذا من تثبته وتحوط رضي الله عنه.
لقيته بتونس، ولما وقع بصري عليه أدركني من الوقار له والخشية لله ما لم أكن أقدره، ودمعت عيناي، ووجدت نفسي نشاطا وسرورا بلقياه.
وكان معتنيا بحمل علم الفقه والحديث والقراءات وعلم العربية وطريق الصالحين، وكان كثير الانزواء، يحب الخمول على طريق السلف الصالح، رضي الله عنهم.
عرض عليه قضاء حاضرة افريقية فتمنع منه، وطلب منه أمير المؤمنين
المستنصر الاجتماع به فاعتذر عن ذلك وقال إني لا أصلح لذلك لعدم معرفتي بلقائهم، وطلب المستنصر أن يصل منزله بنفسه، فاستعفى من ذلك.
وذكر لي، إنه لما كان الصلح الواقع بين المسلمين والنصارى عام نزول الفرنسي على تونس، كتب رسم شهد فيه مشائخ الفقهاء أن الصلح المذكور صلاح وسداد في حق المسلمين، وطلب الفقيه أبو القاسم ابن البرا رحمه الله، أن يكون من جملة شهوده الفقيه أبو العباس ابن عجلان، فاستحضر بدار الأمر وبمحضر الفقهاء وفيهم الفقيه أبو القاسم بن البرا وأمير المؤمنين، بحيث يسمع، فقيل له: تشهد في هذا الصلح؟ فقال إني لا أعلم الحال، يشهد من يعرف الحال، فقال له الفقيه أبو القاسم: هذا الصلح جائز أو غير جائز؟ فقال له مجاوبا: أن كان صلاحا وسدادا في حق المسلمين فهو جائز وإن لم يكن كذلك فهو غير جائز، فقال له هو صلاح وسداد أو لا؟ فقال له لا علم لي بالحال، فقال له لابد لك من الجواب، فسمع نقر أمير المؤمنين من وراء الحجاب وهو يشير إلى انقضاء المجلس، فانفض ولم يشهد، وحمد في جوابه ومقاله، واستحسن ذلك من حاله.
ولما حللت بحاضرة افريقية، اجتمع جمع من الطلبة وكلفوني بالجلوس للإقراء فأسعفتهم بذلك، وسرت إليه فأعلمته بالقضية وسألته هل تقع البداية في السبت أو يوم الأحد؟ فقال لي رحمه الله: من أشياخي رحمهم الله من كان يختار البداية يوم السبت، ومنهم من كان يختار يوم الأحد، ولم يجبني بالتعيين، وخرج عن خاطري في الوقت أن أسأله عن اختياره لنفسه كيف كان.
وسألته رحمه الله تعالى عن اختيارات أصحابنا المتأخرين من الفقهاء،
كاللخمي وابن بشير وغيرهما، هل تحكى أقوالا عن المذهب فيقال مثلا، في المذهب ثلاثة أقوال بما يقوله اللخمي أولا، فقال لي إنما تكون الحكاية بحسب الواقع، فيقال في المذهب قولان، ويقال وقال اللخمي كذا، أو فلان ويعزى إليه ما قال، وسألت عن هذه القضية شيخنا الفقيه أبا القاسم ابن زيتون، فقال لي نعم، يحكى قول اللخمي وغيره قولا في المذهب، كما يحكي قول من تقدم من الفقهاء في المذهب، وهذان الجوابان جيدان، أما جواب الفقيه أبي العباس، فإنه مبني على سبيل التوقف والورع، وأما جواب الفقيه أبي القاسم، فإنه مبني على سبيل النظر، لأنه رأى أن كل جواب بني على أصول مذهب مالك وطريقته فإنه من مذهبه، والمفتي به إنما أفتى على مذهبه، فيصح أن تضاف هذه الأقوال إلى المذهب وتعد منه.
ولما أقمت المدة التي أقمتها بتونس، وأردت الانفصال إلى بجاية، جئت لوداعه فودعته وتبركت به، ولما أردت الانصراف قال لي أن رجعت نريك فعجبت من كلامه ذلك، لأني انفصلت وفي نيتي عدم العود، وكان القوم على السير في البحر، فركبت البحر بجملتي وتعذر علينا الهواء فأصبحت في المرسى أجفان غزوانية للنصارى، فهبطنا إلى البر خيفة منها، وبعد أيام قاتلت
الجفن المعروف بجفن الحراني وأخذته بالمرسى، فوقع العود إلى البلد، واجتمعت بالشيخ أبي العباس، فقال لي رجعت؟ فقلت له قد أشرتم بذلك عند وداعي لكم، ثم تيسر لي السفر في البر فودعته وسافرت، وهو آخر عهدي به، وكانت هذه من جملة ما رأيت له من الكرامات رحمه الله، وتوفي بتونس في عشر السبعين وستمائة أيام الواثق بحاضرة أفريقية رحمه الله.