الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
31 - أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم الحرالي التجيبي
…
638هـ
…
1241م
ــ
ومنهم، الشيخ الفقيه، العالم المطلق، الزاهد الورع، بقية السلف وقدوة الخلف، نسيج وحده، أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم الحرالي التجيبي. كان بدء أمره بمراكش، ثم تخلى عن الدنيا ورحل إلى المشرق، وكان ذلك بعد أن حصل من العلم ما سبق به أبناء وقته، ثم قذف قلبه من نور الله تعالى، ما اقتضى إخلاص العمل لآخرته.
ولقي بالمشرق جلة العلماء ونقاية الفضلاء من جملة من لقي بالمغرب أبو الحسن ابن خروف وأبو الحجاج ابن هوى وممن لقي بالمشرق الإمام أبو
عبد الله محمد القرطبي إمام الحرم الشريف.
قال رحمه الله، تعلمنا عليه الفاتحة في نحو من ستة أشهر، وكان يلقى في التفسير قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام، إلى أن من الله ببركات ومواهب لا تحصى، مما لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر، وعلى أحكام تلك القوانين، وضع هو، رحمه الله تعالى، الكتاب المسمى "مفتاح الباب المقفل على فهم القرآن المنزل" وهو ممن جمع العلم والعمل. أما علمه، رحمه الله، فإنه قد جمع فنون العلم بجملتها واستولى على كليتها، أما علم الأصول، فأصول الدين وأصول الفقه هو اعلم الناس بها، وقد صنفت فيها، وأما معقولات الحكماء فهو أعلم الناس بالمنطق، وله فيه تصنيف سماه "بالمعقولات الأول" وأما علم الطبيعيات والإلهيات فكان أعلم الناس بها.
أخبرني شيخنا أبو محمد عبد الحق، رحمه الله، قال لي: كنا نقرأ عليه "النجاة" لأبي علي ابن سينا فكان ينقض عراه نقضا، وذلك بعد أن يوضح منه ما يليق، ويقرره بأحسن طريق، ثم ينقضه ويوهنه.
وأما علم التعاليم فكان أعلم الناس بها، وأما علم الفقه فكان اعلم الناس به منقوله ومعقوله، وقد توهم بعض من لا يعرفه، لما رأى من استغرق الشيخ رحمه الله، في فنون من العلم إنه قاصر فيه.
وأخبرني شيخنا، الفقيه أبو محمد عبد العزيز بن عمر بن مخلوف، رحمه الله، قال: لما ظهر للشيخ رحمه الله من فقهاء وقته، أنهم اعتقدوا، إنه لا يعرف فقه مذهب مالك، رضي الله عنه، علم معرفتهم به، قال فكان إذا أقرأ "التهذيب" يبين في كثير من مواضعه، إنه مخالف لأصل المدونة ومغاير لها، ويأمر بالأصل فيقاس فيبين المخالفة بينها وبين ما وقع لمالك وأصحابه في الكتب التي وقع فيها النقل، حتى يقررهم في طريقهم.
وأما علم التفسير، فكان يورد الآي ويناسقها نسقا بديعا ويتكلم فيها بما لم يسبق إليه، وله "تفسير" على كتاب الله تعالى، سلك فيه سبيل التحرير، وتكلم عليه لفظة لفظة وحرفا حرفا.
وكان وقوع الكلام بينه وبين الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، إمام الديار المصرية في زمانه، على التفسير، وطلب أن يقف على شيء منه، ولما وقف عليه قال أين قول مجاهد أين قول قتادة أين قول ابن عباس وأكثر القول في
هذا المعنى، ثم قال يخرج من بلادنا، ولما بلغ كلامه الشيخ رضي الله عنه وأمره بما أمره به، قال هو يخرج ويقيم عبد الله، فكان كذلك.
ووقع بينه وبين صاحب الديار المصرية كلام، فقال له البلاد لك أو لنا؟ قال لك، فقال أخرج من بلادنا، فخرج من البلاد، وكان ذلك من إحدى كراماته رضي الله عنه.
والشيخ رحمه الله، سلك في تفسيره مسلك البيان والإيضاح، على نحو ما يقتضيه علم العربية وعلم تنقيح المعقول، وما يبقى وراء هذا، سوى علم الأسباب التي عند النزول، وعند الحاجة إليها لابد من ذكرها.
وعلم الحديث كان له فيه تقدم وعلو سند، وعلم العربية لغة وأدبا ونحوا كان متقدما فيه. له التآليف الحسنة، وله الشعر الفائق الرائق غزلا وتصوفا، وله في علم الفرائض ما لم يسبق إليه. وأما علم التصوف فهو فيه الإمام، وله التآليف الحسنة فيه البينة السهلة. وبالجملة فحيث تكلم في علم، يعتقد الناظر إنه لا يعرف غيره، وأكثر كلامه إنما هو إصلاح العلم وحال العلماء. ومن طالع كلامه وتأمله، يعرف ذلك، وما من علم إلا وله فيه تصنيف وتأليف، وهو من أحسن التصانيف وأجل التآليف، ولعمري أن كتابه في علم الفرائض المسمى بالوافي ما رأيت مثله في ذلك الفن، لأنه أعطى الفرائض موصلة مفصلة معللة باخصر بيان وأوضح تبيان، وكذلك كل ما طالعته من كلامه
في أصول الفقه، وأصول الدين، وعلم المنطق، وعلم العربية، وعلم التصوف، وعلم الفرائض، وغير ذلك من سائر ما تحدث فيه، رضي الله عنه، له فيه التقدم والتحكم.
وأما خلقه، رضي الله عنه، فكان أحسن الناس خلقا، ولقد سمعت عنه، رضي الله عنه، إنه قال: أقمت عازما في جهاد النفس مدة من سبعة أعوام حتى استوى عندي من يعطيني دينار أو يذرني.
ومن حسن خلقه، رضي الله عنه، إنه كان مبتلي بإطلاق الناس عليه وإسماعهم ما لا يليق في جهته، فجاءه رجل يوما وسكين نصلة في يده، فقال له جئت لقتلك، فلاطفه وقال له اجلس واسترض على نفسك، فجلس، فقال له على ماذا تقتلني؟ فقال له قيل لي عنك إنك كافر، فقال له: الناقل أن كان عندك كاذبا فما يحل لك قتلي، وإن كان صادقا، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فجدد الرجل إيمانا بين يدي الشيخ، وتاب على يديه وصار من تلاميذه.
وكان معظما لأهل البيت، محترما لهم معترفا بالاسترقاق لهم والعبودية، وإذا قدم عليه أحد من أهل البيت يقوم له من مجلسه ويتمثل بين يديه حتى ينفصل. ولقد دخل عليه يوما رجل غريب، ذكر له إنه شريف، فعظمه واحترمه، وكان عليه طاشور مليح يساوي جملة كبيرة من الدراهم، فنزعه ودفعه للرجل، ولما انفصل الرجل، قال له رجل ممن حضر، هذا رجل غريب وهو فلان من أهل مراكش، فقال له الشيخ عرفنا من عاملنا، يعنى إنه فعل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان الرجل صادقا فجيد وإلا فقد بلغت النية.
ـ[أحوال زهده وكراماته رضي الله عنه]ـ: أما زهده فإنه كان زهدا
حقيقيا بالظاهر والباطن، بالترك للدنيا كلها وعدم الميل إلى شيء منها، وكان ذلك عن طيب نفس ورضى بأن الدنيا لم تكن عنده شيئا، وكان كل ما يرد عليه منها ينفصل عنه من ساعته ولا يتمسك منه إلا بحاجة وقته، ولقد زهد، رضي الله عنه، حتى في الكتب، فإنه لم يكن عنده منها شيء، وكان لا يفتقر في مواعيده إلى مطالعة أو مراجعة شيء، لإحاطته وتحصيله، وجميع ما صنفه من الكتب ما كان يراجع فيه كتابا ولا يطالع فيه سوى مجرد فكره وتسديد نظره.
وسمعت انه، رحمه الله، أصبح يوما ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم، وكانت له جارية هي أم ولده تسمى كريمة، وكانت سيئة الخلق، فاشتدت عليه في الطلب وإن الاصاغر لا شيء لهم، فقال لها الآن يأتي من قبل الوكيل ما ينتفعون به فبينما هم كذلك، وإذا الحمال يضرب الباب بشكارة قمح، فقال لها يا كريمة ما أعجلك، هذا الوكيل بعث بالقمح، فقالت: وما يصنع بالقمح ومتى يصنع، فأمر به فتصدق به، وقال لها: يأتيك ما هو أحسن منه، فانتظرت يسيرا وبدا لها في صدقته وتكلمت بما لا يليق من القول، فبينما هم كذلك، وإذا بحمال بشكارة سميد، فقال لها هذا السميد أيسر وأسهل من القمح، فلم يقنعها ذلك ولا رضيت، وتكلمت بمثل ما سبق من كلامها، فأمر أيضا بصدقته، ولما تصدق به زادت في المقال، فبينما هم كذلك وإذا برجل على رأسه كاملة فقال لها يا كريمة، قد كفيت المئونة، هذا الوكيل قد علم بحالك، فأغناك عن أعمالك.
وعلى مثل ذلك، كان حاله رضي الله عنه، وهذه المسألة جمعت الزهد والكرامة، وأنا أن شاء الله أذكر من كراماته ومكاشفاته، ما يدل على قدره وبهجة أمره رضي الله عنه.
حدثنا شيخنا الفقيه أبو عبد الله التجيبي الأديب قال: اجتمعنا في مدة قراءتنا عليه بجمع من الطلبة في نزهة، واجتمعنا على ما يجتمع عليه الشباب من أهل الطلب، وأسقطنا المحاشمة وجرينا على حال الطيب والمكارمة، وكان من جملة ما صنعناه أن أخذنا حليا من زينة النساء وحلينا به بعض أصحابنا، وأصبحنا للحضور بمجلس الشيخ رحمه الله على جري عادتنا، ولما جرت موجبات الاستدعاء للمحاورة ومقتضيات المذاكرة، أخذ صاحبنا الذي كان الحلي في يده يتحدث ويشير بيده، فقال له الشيخ رحمه الله:"يد يجعل فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد" فبهتنا وقلنا؛ كما اطلع الشيخ على هذا كذلك اطلع على غيره، فجددنا المتاب واجمعنا على ما يقتضى صلاح المئاب.
ومن كراماته رضي الله عنه، ما ذكره من أمره الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم السلاوي، قال: كنت ببجاية، فأصاب الناس جفوف عظيم، وقلت المياه، وجف أمسيون ووصل الزق إلى أربعة دراهم، وكان الناس يملئون الماء من الوادي الكبير، قال فبعثني رحمه الله إلى بعض دور أصحابه وسقيت برمة ماء من ما جلها إلى داره رحمه الله، وأمرني رضي الله عنه، أن أسوق منها الماء للفقراء يشربون، قال: فامتنعت كريمة وانتهرتني، فسمع كلامها، فقال لي: قل لها يا كريمة، والله لا شربن من ماء المطر الساعة، وهو قائم بالمسجد، مسجد الإمام المهدي رضي الله عنه، قال: فرمق السماء بصره ودعا الله تعالى، ورفع يديه وشرع المؤذن في الآذان، فانعقدت السحب وتراكمت، ولم يختم المؤذن أذانه بقول "لا إله إلا الله" حتى كان المطر كأفواه القرب، وروى الناس وأغدقوا، فرأيته قال: ينصب يده المباركة للمطر ويشرب ويغسل وجهه، ويقول: مرحبا بقريب عهد من ربه.
ومن كراماته رضي الله عنه، ما حدثني شيخنا الفقيه أبو محمد عبد الحق
بن ربيع رحمه الله، قال: لما قدم شيخنا الفقيه أبو الحسن بجاية أراد الجلوس بمسجد الفقيه أبي زكرياء الزواوي رضي الله عنه، ولما حل به، منعه المؤذن من ذلك وقال له: هذا الموضع محترم، ولا يتكلم فيه إلا عن أمر، فقال له يأذن الفقيه في ذلك ويقع الكلام أن شاء الله. ثم سار إلى قبر الشيخ أبي زكرياء رحمه الله وصلى في مسجده ركعتين، وجلس عند قبره المبارك وتحدث، وقال من كان معه من أصحابه قد أذن رضي الله عنه، ولما كان بالغد أتى المسجد فوقف المؤذن فسلم عليه، وقال الشيخ وصلك الأذان؟ فقال له نعم يا سيدي الفقيه، رأيت سيدي الفقيه وقال لي يتكلم أخونا، فتكلم في مسجده عن إذنه رحمه الله.
ومن كراماته رضي الله عنه، ما سمعت عن غير واحد ممن أثق به، إنه كان يوما يسير إلى باب البحر وبعض من خواص أصحابه معه، وإذا بشخص يتمايل سكرا، فألقى يده في الشيخ وقال له: يا سيدي ادفع لي ما أتم به هذه السكرة، فانتهره الناس، فقال لهم لا عليكم دعوه، فتركوه، فأخذ سرواله ودفعه إليه لأنه لم يكن عنده غيره، فانفصل الرجل والسروال في يده، فنقد هذا بعض من رآه، وسلم بعض من هو من أهل الباطن، وسار الفقيه مع أصحابه إلى المسجد، فبعد ساعة وإذا بالرجل قد وصل تائبا منيبا، وهذا بظاهره معترض وبباطنه لأهله مسلم، وما هي إلا قضية حضرية.
ومن كراماته رضي الله عنه، ما حدثنيه شيخنا الفقيه أبو محمد عبد الحق رحمه الله، قال: كانت امرأة من معارف الشيخ رحمه الله، وكان لها ولد يشرب الخمر ويجني على نفسه، فكانت تشكو للشيخ رحمه الله، فكان يقول لها قولي له يشرب بالكؤوس الكبار، لماذا يشرب بالكؤوس الصغار، فكانت تجد من ذلك في نفسها وتقول: أسأله ليدعو لي ليخفف أمره، فيأمره بالإكثار، قال فسألناه عن ذلك، فقال: قد جرى القدر بمقادير يشربها من الخمر، ولا بد من نفوذ ما جرى به القدر، فإذا شربها بالكؤوس الصغار طالت المدة وإذا
شربها بالكؤوس الكبار قصرت مدتها. قلت وحقيقة هذه المسألة أن الشيخ رحمه الله كشف له عن أمره وعن حقيقة خبره، قال: ولم يمض من المدة إلا مقدار يسير، ثم أن الشاب قد تاب وحسن حاله ببركة الشيخ رحمه الله.
ومن كراماته رضي الله عنه، ما حدثني به غير واحد من أشياخي عنه، إنه وصف كل واحد منهم بوصفه، ووسمه بوسمه، من خطة وتحصيل وغير ذلك، ممن انتهت إليه أحوالهم وسمت إليه آمالهم، فمن وصفه بالقضاء رقي إليه، ومن خصه بالتدريس والفتيا اظهر عليه، ومن خصه بالزهد واستجابة الدعوة عرف ذلك منه، هذا في أصحابه ببجاية وغيرها. وهذا من مكاشفته رضي الله عنه. أما الفقهاء، الفقيه أبو محمد ابن عبد العزيز بن كحيلة والفقيه أبو محمد عبد الحق بن ربيع والفقيه أبو محمد عبد المنعم بن عتيق فقد أخبرهم عن أحوالهم وعن مآل أمرهم، وأخبر الفقيه أبا محمد عبد المنعم بن عتيق رحمه الله، بالمحنة التي عرضت له في آخر عمره، وما زال رحمه الله يتوقعها، وكثيرا ما كان ينشد رحمه الله هذا البيت، ويضرب على يده اليمنى باليسرى وهو:
فياليت شعري أين أو كيف أو متى
…
يقدر ما لا بد أن سيكون
حتى قدر وكان.
ومن هذا ما ذكره أبو عبد الله السلاوي قال: كنت جالسا معه ومعنا عبد الواحد الكاتب، وعبد الحق الفقير خديم الفقراء، فقال الشيخ: عهدي بعبد الواحد يتعلم السماع المشرقي ويسير إلى المغرب، ويصحب ملكه، وينال معه عزا وجاها في الدنيا، وأما هذا السلاوي فحيث
ما حل يكون إمام المسلمين ويعلم القرآن العظيم، وأما عبد الحق فإنه يدرس حتى يموت، قال: فكان الأمر كما قاله الشيخ. قلت عبد الواحد الكاتب هو المعروف بأبي دينار، وقد نال مع أمير المؤمنين المستنصر فوق ما ينال، وأزيد مما يقدر إنه تعالق به الآمال.
وها نحن نذكر بعض ما تخيره ذكرا، ونورد طرفا من تصوفه شعرا. كانت له رحمه الله ورضي عنه، أذكار وأوراد، فمن جملة أذكاره حزبه الذي كان يلازمه بعد صلاة الصبح، كان رضي الله عنه، يجلس في مصلاه بعد صلاة الصبح متربعا ويقول: استغفر الله العظيم، الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه إنه هو التواب الرحيم، مائة مرة لا إله إلا الله الحق المبين، مائة مرة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله أكبر وسبحان الله، وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله استغفر الله، الأول الآخر الظاهر الباطن، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات؛ سبحان من في السموات عرشه، سبحان من في الأرض موضع أثره، سبحان من في البحر سبيله، سبحان من في الجنة رحمته، سبحان من في النار عقابه، سبحان من سبقت رحمته غضبه، سبحان من لا منجى ولا ملجأ إلا إليه، عشر مرات؛ يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك، مائة مرة؛ يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، عشر مرات؛ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، إلى قوله وكذلك تخرجون.
[ومن قوله تعالى]{هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} إلى آخر السورة، ثلاث مرات؛ ثم الأسماء الحسنى التي تضمنها الحديث، {هو الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} إلى آخرها، وهو اسمه تعالى الصبور، ويختمها بقوله: {هو الله الذي لا إله إلا
هو} والحمد لله رب العالمين. ويذكر بعد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو مضمونه، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سأله عن سببه أو عن سنته، فقال المعرفة رأس ما في، العقل أصل ديني، الحب أساسي، الشوق مركبي، ذكر الله أنسي، الثقة كنزي، الحزن رفيقي، العلم سراجي، الصبر ردائي، الرضى غنيمتي، الفقر تجري، الزهد حرفتي، اليقين قوتي، الأرق شفعتي، الطاعة حسبي، الجهاد خلقي، قرة عيني في الصلاة. وفي رواية وثمرة فؤدي في ذكره، رغمي لأجل شوقي إلى ربي، ثم يقرأ سورة "يس" و"الدخان" و"الواقعة" قراءة بطيئة، بتأمل وتفهم. هذا هو منتهى حزبه رضي الله عنه.
وتوفي رحمه الله بحماه من بلاد الشام، سنة سبع وثلاثين وستمائة، هكذا ذكر القضاعي في التكملة، وذكر بعض الناس إنه لما رجع من المغرب إلى بلاد مصر، كانت إقامته منها ببلاد بلبيس، واجتمع عليه بها كبراء أهلها وأخذوا عنه وأتبعوه، وكان قصده التوجه إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتهيأ له إليها مسير، فتوجه إلى الشام ولم يستصحب معه ولده ولا أحدا من أصحابه إلا زوجة خاصة، وذلك والله أعلم لما علم إنه يموت هنالك، فلما وصل إلى الشام كانت إقامته منها بحماه حرسها الله، فأقبل عليه وأخذوا عنه، فلما قرب موته قال لأصحابه:"إذا كان يوم الثاني عشر من شعبان، نسافر عنكم" فقرب الشهر ولم يروا عليه أهبة السفر، فتعجبوا من ذلك، وكان به الإسهال، فلم يزل يزيد به الإسهال حتى انحله، ولم ينقص من أوراده شيئا رضي الله عنه مع
قلة الأكل، فلما كانت ليلة الثاني عشر من شعبان، دعا خواص أصحابه وأمرهم أن يحضروا عنده وأن يوقدوا الشمع ويؤنسوه بقراءة القرآن، ففعلوا ذلك، وأمرهم أن يأتوه بماء زمزم ليشرب فأتوه فشرب؛ وكانوا معه ليلتهم، فلما أصبحوا أمرهم أن يأتوه بكفن على وفق السنة فأتوه به، فأمرهم أن يحفروا قبره في موضع اختاره، ثم قال لهم إذا أذن العصر أموت، فقالت له زوجته: كيف أصنع ما لي صبر؟ فقال لها: يصبرك الله. ولقد شهد الحاضرون أنهم لم يروا لها جزعا بعد موته، فلما كان عند العصر سأل أصحابه: هل حان الوقت؟ فقالوا له هذا المؤذن يؤذن بالعصر، وحكى المؤذن، فلما كان آخر الأذان توفى رحمة الله عليه ورضوانه لديه، وكان قال لهم لا يحملني إلا الفقراء، ولا تخبروا بي أحدا حتى أجعل على الألواح وذكرت زوجته إنه لما كان قرب موته قال لها: إني رأيت سليمان الفارسي وأبا هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، جاءوا ليأخذوني معهم، فتوفي رحمه الله عند أذان العصر في اليوم الثاني عشر لشهر شعبان المكرم عام ثمانية وثلاثين وستمائة.
وقال بعض أصحابه: لما كان عند موته ذكر جميع أصحابه ودعا لهم،
وقال قبل ذلك "إن الله وعدني أن يكون لي اثنان وعشرون أو أربعة وعشرون صاحبا" شك الراوي في ذلك، وقال أربعة من أصحابي التمسوا منهم الدعاء، فذكر منهم، أعني من الأربعة، فخر الدين أبا الطاهر عبد المجيد بن سراقة رضي الله عنه ونفعنا به وبمحبتنا فيه، وحشرنا معه بمنه وكرمه، إنه منعم كريم وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
ومن شعره رحمه الله في التحقيق:
ومذ عنك غبنا ذلك العام إننا
…
نزلنا على بحر وساحله معنى
وشمس على المعنى تطالع أفقنا
…
فمغربنا فينا ومشرقها من
ومست يدانا جوهرا منه ركبت
…
نفوس لنا لما صفت فتجوهرنا
فما السر والمعنى وما الشمس قل لنا
…
وما غاية البحر الذي عنه عبرنا
حللنا وجودا اسمه عندنا الفضا
…
يضيق بنا وسعا ونحن فما ضقنا
تركنا البحار الزاخرات وراءنا
…
فمن أين يدري الناس أين توجهنا
وله أيضا رحمه الله:
ما لنا من سوى الحال العدم
…
ولبارينا وجود وقدم
نحن بنيان بنته حكمة
…
وخليق بالبنا أن ينهدم
نحن كتب الله ما يقرأها
…
غير من يعرف ما معنى القلم
أحرف الكتب الذي أبدعه
…
كلما لاحت معانيه انعجم
أشرقت أنفسنا من نوره
…
فوجود الكل عن فيض الكرم
فترق النفس عن عالمها
…
باختباء ليس تدنيه الهمم
ليس يدري من أنا إلا أنا
…
ها هنا الفهم عن العقل انبهم
عجبا للكل فيما يدعي
…
وتأتي الكل إلا ما حكم
كلما رمت بذاتي وصلة
…
صار لي العقل مع العلم جلم
يقطعاني بخيالات الفنا
…
عن وجود لم يقيد بعدم