الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
49 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفهري المشتهر بالأصولي
…
612هـ
…
1215م
ــ
ومنهم، الشيخ الفقيه، الأصولي المتكلم، العالم المجتهد، النبيل الفاضل الجليل، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفهري المشتهر بالأصولي، من أهل بجاية. رحل إلى المشرق ولقي العلية والجلة من أهل العلم. وولي قضاء المدن بجزيرة الأندلس واستخلف بمراكش، وولي قضاء بجاية ثلاث مرات وصرف عن آخرها سنة ثمان وستمائة، وتوفى ببجاية بين عيد الأضحى والفطر سنة اثنتي عشرة وستمائة.
له فضل وجلال وتقدم علمي رقي فيه إلى غاية الكمال، وكان جلدا صلبا قوي
الجأش، وكان إذا حضر مجلس أمير المؤمنين ابن عبد المؤمن وتقع المذاكرة بين يديه، يسامحه الحاضرون من الطلبة في المذاكرة، وكان هو لا يسامحه في شيء، وكان أمير المؤمنين يجد منه في مجلسه ويعرف له مع ذلك فضلا فلا ينقصه شيئا من حقه.
وكان بينه وبين القاضي أبي الوليد ابن رشد إخاء وصفاء، ولما وقعت الواقعة التي تكلم عليها أبو الوليد في كتاب "الحيوان" له حيث قال:"رأيت الزرافة عند ملك البربر" وهم أمير المؤمنين بالفتك به، لم يكن سبب نجاته غيره مع موافقة القدر، وتسبب في ذلك بوجهين، احدهما كان جرى بمجلسه أمير المؤمنين منع العمل بالشهادة على الخط، ولما وجد هذه القضية هم بالعمل بها، فحاج أمير المؤمنين وقال له: منعتم الشهادة على الخط في الدرهم والدينار وتجيزونها في قتل المسلم، والوجه الثاني إنه قال: إنما الكتب "رأيت الزرافة عند ملك البربر" وإنما جاء فيه زيادة ونقص وهذا أحسن، وكل ذلك من قوة الجأش.
ومن طرفه، رحمه الله، إنه لما وقع الحضور بمجلس أمير المؤمنين وأحضرت فيه لآليء نفيسة في طبق وعرضت على الحاضرين في المجلس واستحسنوها فعدت وفقدت منها واحدة، فهم أمير المؤمنين بتفتيش الحاضرين، فأشار عليه بسوق قلة من ماء مملوءة، ويدخل فيها كل إنسان يده سترا على الفاعل،
فسيقت القلة وابتدئ بمن عن يمين الفقيه أبي عبد الله أو من عن يمين أمير المؤمنين، وكان هو على يساره، فلما انتهت القلة إليه ليدخل يده فيها امتنع وقال: صبوها فان وجدتم حاجتكم وإلا فهي عندي، فصبوها فوجدوها، فخلص من الشك فيه. وهذا من نبله وسياسته رحمه الله.
وكان له علم بالفقه والأصلين والخلافيات والجدل، وله في المعقول الحكمي نظر. وسئل في التصنيف فامتنع وقال: قد سبق الناس بذلك وما عسى أن يأتي به، فعد هذا من عقله؛ وسمعت بعض الطلبة يقول أن له تقييدا على "المستصفى" لأبي حامد (الغزالي) وأظنه صحيحا ولعله إنما علق عليه. ورأيت بخطه رحمه الله تأليفا في الموسيقى، وقال لي بعض الطلبة: إنه من تصنيفه وما وثقت بذلك، ويظهر لي إنه كلام أبي علي ابن سينا.
وكانت فيه دعابة وفكاهة لا تخل برتبته ولا تحط من منصبه، ولقد سمعت إنه وقعت بينه وبين بعض أصحابه من الطلبة مخاشنة فقال له صاحبه: تعاملني بهذا وأنا أسن منك وأسنى وأجل؟ فقال له: نعم أسن بموسى وأسنى بسانية وأجل في مربطك، فتضاحكا واصطلحا.
وكان مؤثرا لأهل الطلب، قابلا على أهل الأدب. أخبرني الفقيه أبو محمد عبد الحق بن ربيع رحمه الله قال: كان الفقيه أبو عبد الله القاضي ابن إبراهيم الأصولي ينتابه من يتكرم عليه ممن له رتبة عند خلو مجلسه من الطلبة فيجلس بإزائه، فإذا جاء طالب أفسح له بينه وبينه، ثم كلما أتى طالب فعل ذلك، حتى يعود الاحظى عنده، القريب المجلس عنده، أبعد الناس مجلسا منه، فكان لا يرى الحضرة إلا للعلم.
وكان شديدا على ولاة الأمر الذين يكونون معه ببلد قضائه، لا يسامحهم في شيء من أمورهم ويجاهدهم بم يكرهون في حق الله وفي حقوق المسلمين، وقد
جرى يوما بينه وبين والي بجاية كلام كانت فيه غلظة، فقال له الوالي: والله لقد أصاب سيدنا أمير المؤمنين المنصور فيكم، فقال له: أن كان أصاب أمير المؤمنين فقد أخطأ فينا أمير المؤمنين الناصر فأفحمه، ورجع فاسترضاه. وكان أمير المؤمنين المنصور كتب في شأنه وشأن أبي الوليد ابن رشد إلى البلاد، وكان من أمرهم ما رأيت الإمساك عنه ثم جاء أمير المؤمنين الناصر بعده وأحسن إليهم وعطف عليهم، ولولا صورة استطرد الكلام ما ذكرت هذا، لأني ما زلت أنقد على من يذكر فضل أهل العلم ثم يغمز في شأنهم ويشير إلى القادح فيهم، فلا أريد أن اذكر إلا الخير أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.