الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: العدل في معاشرة الزوجة أو الزوجات
الفرع الأول: قسم الرجل من نفسه لزوجه
المراد من القسم هنا: تخصيص الرجل جزءًا من وقته للخلوة الشرعية بأهله، وذلك بأن يبيت معها ليلًا إذا كان يعمل نهارًا، فإن كان عمله ليلًا كالحراس مثلًا، فإنه يخصص لها نهارًا أو بعضه.
وكذلك الحال بالنسبة لمن كان له أكثر من زوجة، فإنه يجب عليه أن يخصص لكلِّ واحدة منهن وقتًا يتفرغ لها فيه، ولا يجوز له أن ينشغل عنها بأعماله أو تهجده أو غير ذلك.
ويرى جمع من الفقهاء أن هذا القسم واجب يأثم بتركه، ويخاطب بهذا الحكم كل رجل متزوج؛ سواء كان صحيحًا أم مريضًا، رجلًا سويًّا أم عنينًا، وفي الجملة أيًّا كانت حالة الرجل فإنه يجب عليه أن يقسم لأهله من نفسه.
وهذا القسم حق للزوجة؛ سواء كانت صحيحة أم مريضة، مطيقة للوطء أو غير مطيقة، حائضًا أم خالية من الحيض، مسلمة أم ذمية، فإنه يحق لها المطالبة بذلك.
كيفية هذا القسم عند هذا الفريق:
أن يجعل الرجل للمرأة ليلة على الأقل من أربع ليالٍ على افتراض أنه متزوج من أربع؛ حيث يؤمر بالمبيت معها ليلة، ثم إن إراد أن يفرغ بقية أيامه لأعماله وما يشغله فلا بأس.
وإن كانت له زوجتان فإنه يبيت مع كل واحدة منهما ليلة، ثم يتفرغ في اليومين الآخرين إن شاء وهكذا.
وبذلك يقول الحنابلة وأبو حنيفة في رواية محمد بن الحسن عنه، وكذلك يروى عن الثوري وأبي ثور1.
ويرى مالك أنه إن ترك القسم لأهله من نفسه مضارة ولا علة به فإنه لا يترك حتى يجامع أو يفارق على ما أحب أو كره لأنه مضار2.
وفي ظاهر الرواية عند الحنفية: لا يتعين حقها في يوم وليلة من كل أربع، ولكن يؤمر الزوج بأن يراعي قلبها ويبيت معها أحيانًا3.
وفي المهذب عند الشافعية: لا يجب القسم؛ إذ هو حقه فجاز له تركه.
أما أدلة من يرى وجوب القسم فمن أهمها:
1-
حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: "اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"4.
2-
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا
1 المغني جـ7/ 28، وكشاف القناع جـ5/ 191، والمبسوط جـ5/ 221.
2 المدونة جـ4/ 271.
3 المبسوط جـ5/ 221.
4 سنن أبي داود جـ1/ 491، والترمذي جـ4/ 294، والنسائي 7/ 64، وابن ماجه ج1971 والصواب أنه مرسل قاله النسائي والترمذي.
رسول الله قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا وإن لزوجك عليك حقًًّا"1.
3-
تنفيذ عمر رضي الله عنه لقضاء كعب بن سوار حين قضى بذلك: فقد جاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه وقالت: إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال: نعم الرجل زوجك وأثنى عليها، فأعادت كلامها مرارًا، وفي كل مرة يجيبها عمر بهذا، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إنها تشكو من زوجها في أنه هجر من صحبتها، فتعجب عمر من فطنته وقال: اقض بينهما، فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم، قال كعب: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، وأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلى من الآخر، اذهب فأنت قاضٍ على البصرة2.
قال صاحب المغني: هذه قضية انتشرت فلم تنكر فكانت إجماعًا3.
ويستدل للفريق الذي لم ير وجوب القسم للزوجة، بل ترك ذلك لإرادة الرجل ورغبته بأن العنين -وهو الذي لا يأتي النساء- يؤجل سنة من يوم أن خاصمته زوجته، فإن أتاها وإلّا فرق بينهما4.
وكذلك في آية الإيلاء: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فقد وقَّتَ الله تعالى للمولي من زوجته أربعة أشهر، فإن لم يأتها خلالها وإلا طلقت عليه، فلو كان القسم يوم من كل أربعة أيام لما جعل لعنين سنة، ولما جعل للمولي أربعة أشهر.
1 متفق عليه.
2 طبقات ابن سعد 7/ 252، مصنف عبد الرزاق 7/ 148.
3 المغني جـ7/ 29.
4 المصنف لعبد الرزاق جـ6/ 253، 254.
ويضاف إلى ما تقدَّم: الضرورات الكثيرة التي تعرض للرجال وتدفع بهم بعيدًا عن زوجاتهم؛ كالحج والغزو وزيارة الوالدين البعيدين والسفر للعمل في البلاد الأجنبية الشهور والسنين، وغير ذلك، فلا يستقيم هذا التقسيم مع هذه الضرورات.
بعد أن أوجزنا وجهة الفريقين فيما مضى نحاول أن نجمع بين الرأيين، وذلك بالمصير إلى ما ذهب إليه الفريق الأول في حالة الاختيار، وفي حالة الاضطرار إلى ما ذهب إليه الفريق الثاني.
فإذا كانت الظروف مهيأة للقاء الزوجين، وليس هناك مانع من قِبَلِ أحدهما أو غيرهما، فإنه يحكم على الزوج بتخصيص ليلة من أربع ليالٍ لزوجته، وإن لم يجب واستمرَّ في تعنته، فإنه ينذر من جهة القاضي بأنه إن لم يقسم لأهله فإنه سيفرق بينهما، ويضرب له القاضي أجلًا، وإلا طلق عليه للضرر.
أما إذا وجد ظرف قاهر يحول دون تحقق القسم الذي يقول به الفريق الأول، وذلك بأن كان الزوج ذا أسفار ولا يمكن حمل زوجته معه، أو كان مريضًا أو مسنًّا أو نحو ذلك من الظروف، فحينئذ يمكن المصير إلى ما يقول به الفريق الثاني، وهو أمره بالفيئة إلى أهله دون تحديد وقت معين، والله أعلم1.
الفرع الثاني: عدل الرجل بين زوجاته
يجب على الرجل أن يعدل بين زوجتيه أو زوجاته، لحديث عائشة السابق، وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط" -تفرد برفعه همام.
1 لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى كتاب تعدد الزوجات ومعيار العدل بينهن في الشريعة الإسلامية. دار الاعتصام بالقاهرة، بالإضافة إلى المراجع السابقة في المواضع المشار إليها فيها.
قال الترمذي نقلًا عن الإمام البخاري: وحديث همام أشبه وهو ثقة حافظ1.
ثم حديث عائشة عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه
…
الحديث2.
العدل في ألوان المعيشة المادية:
يذهب الحنابلة والمالكية إلى أن الرجل يجب عليه القيام بكل ما يلزم الزوجة أو أزواجه من مسكن مناسب ومطعم مناسب، وما يتبع ذلك من ألوان الترفيه كالفاكهة والحلوى ونحوهما، ولا يطالب بالتسوية المطلقة بينهما في ذلك، إلا إذا كان يقصد بعدم التسوية المضارَّة بإحداهن أو الميل إلى الأخرى.
فإذا قام لكلٍّ بما يجب لها بقدر حالها، فلا حرج عليه أن يوسِّع على من شاء بما شاء3.
أما الحنفية فيذهبون إلى وجوب التسوية في المطعم والملبس والمسكن وما يشتهى من ألوان الفواكه والزينة.
ولكن المفتى به في مذهبهم هو عدم التسوية، بل تُعْطَى كل زوجة من الزوجتين أو الزوجات بقدر حالها4.
فأما وجهة الفريق الأول: فهي أن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكن القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء5.
1 جامع الترمذي جـ4/ 495، ورواه أبو داود 2133، والنسائي 7/ 63، وابن ماجه 1969، وأحمد 2/ 471، ورواه ابن حبان في صحيحه 4207، والحاكم 2/ 186 وصححه على شرطهما.
2 متفق عليه.
3 حاشية البناني جـ4/ 55 على شرح عبد الباقي الزرقاني دار الفكر بيروت. والمغني جـ7/ 32.
4 بدائع الصنائع جـ5/ 1547، مطبعة الإمام وحاشية ابن عابدين جـ3/ 202، دار الفكر بيروت.
5 المغني جـ7/ 32.
وأما وجهة الفريق الثاني فهي الأمر العام بالعدل مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} إلا ما خص بدليل، وحديثه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة المتقدم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول:"اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك".
ولفظ العدل يشمل المبيت والنفقة.
ونقول: إنه لا خلاف بين العلماء في أفضلية التسوية بين الزوجات فيما قدر عليه الزوج من النفقة وما إليها، لكنها لا تجب لضرورة عدم التساوي بين الزوجات في مدى الحاجة إلى النفقات وما إليها كمًّا وكيفًا بسبب عوامل كثيرة، من السن، والصحة، والمرض، وحال الزوجة من يسر وعسر، وما معها من أولاد، وهل هي مرضع أو حامل، وغير ذلك من العوامل التي تحتاج إلى رعاية خاصة من الزوج بظروف كلِّ زوجة من زوجاته، إلى جانب واجبه العام نحوهن.
أما القسم في البيتوتة فهو محل إجماع من العلماء، لكن القسم يكون بحسب ظروف الزوج لكل واحدة ليلة أو ثلاث ليالٍ، وإن كان بعضهم لا يجيز الزيادة على ليلة واحدة، وعماد القسم يكون بالليل ويكون النهار تابعًا، إلا من كان عمله ليلًا فيكون القسم عنده بالنهار ويكون الليل تابعًا له1.
1 البناني على شرح الزرقاني جـ4/ 57، والمغني جـ7/ 27، ومغني المحتاج جـ3/ 255، والمبسوط جـ5/ 219.