الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي النهاية أقول: إنه من الخطورة بمكانٍ ترك هذا الأمر للنساء، ولا سيما في هذه الأزمنة بعد أن تطورت أساليب الخداع، ووصول الأمر إلى تزوير المستندات الدالة على الهوية، ولم تكتشف حقيقة الأحوال إلا بعد فوات الأوان. ولا أقول إن وجود الولي في العقد فيه الدواء الكافي الشافي لمعرفة حقائق الأحوال، ولكنه يمثل نوعًا من الضوابط أو الكوابح التي تساعد على تهدئة السير في مثل هذه المشروعات، والنظر من خلال هذه التهدئة في بعض المنعطفات التي تجلي بعض المواقف لكل الأطراف. وقد يكون من أسباب تعدد المراحل في النكاح "من النظر، والخطبة، والعقد، والدخول" أن يتعرف أطراف هذه المشروعات بعضهم على بعض، ويطلعوا على الحقائق التي يهم كل طرف الاطلاع عليها، وفي هذا ما فيه من الأمان من مفاجآت المستقبل التي قد يترتب على ظهورها تدمير هذه الأسرة الناشئة.
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعية الولاية في النكاح
الأحكام الشرعية مبنية على مصالح العباد في الجملة، ولكننا قد ندرك هذه المصالح من وراء تشريع بعض الأحكام، وقد لا ندركها، إما لقصور في العقل البشري، وإما لكون هذه الحكم من الدقة واللطافة بمكانٍ لا يدركه العقل مهما كان حظه من الرجاحة والحدة، وفي هذا وذاك اختبار للعباد لمعرفة المؤمن الحق الذي لا تتوقف عبادته على معرفته هذه الحكم، مِن المؤمن الذي يعبد الله على حرف، فإن أدرك الحكمة من العبادة نشط لها، وإن لم يدركها فعلها على ملالة وسأم.
وفي تشريع الولاية في النكاح مجموعة من هذه الحكم التي قد ندرك بعضها ومنها:
1-
السموّ بالمرأة وإبعادها عن مظنة السوء بها وتعرضها للقيل والقال، وهذا المعنى قديم قدم الشريعة الإسلامية، وقد أشار له بعض الصحابة الكرام حين تعرضهم للنصوص الواردة في ضرورة مباشرة الولي للعقد، ومنع المرأة من مباشرته، ومن ذلك ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه بعد ذكره لحديث "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها"، قال أبو هريرة: وكنا نقول: "إن التي تزوج نفسها هي الفاجرة" وفي رواية أخرى: "إن التي تنكح نفسها هي البغي"، وفي رواية ثالثة:"وكان يقال: الزانية تُنْكِحُ نفسها".
2-
حفظ كرامة الأسرة وعدم ابتذال سمعتها، لأن المعرَّة لن تقتصر على المرأة المبتذلة وحدها، بل ستلحق بأسرتها كذلك، وقد ينسى الناس اسمها وشخصها، ولا يذكرون إلّا عائلتها أو عشيرتها أو قبيلتها بمرور الأيام. والأمثلة على ذلك من التاريخ كثيرة، فهذا اسم قبيلة غامد الآن في كتب التاريخ والسنة والفقه والتفسير من غير أن يذكر اسم المرأة التي رجمت بسبب الزنا، فيقال: الغامدية، كما يقال: الجهنية، وقد يظل الاسم مقترنًا بالقبيلة فيتردد في الكتب الآن، وبعد أربعة عشر قرنًا -اسم ماعز منسوبا إلى قبيلته، فيقال: ماعز الأسلميّ.. وهكذا..
3-
في حضور الولي مجلس العقد إشعار له بمدى المسئولية التي تقع على عاتقه مما يفرض عليه أن يعد للأمر عدته، فيأخذ الاحتياطات اللازمة تحسبًا لأيِّ مفاجآت قد تحدث فيما بعد، فيهتم بالبحث عن الظروف المحيطة بالرجل المتقدم، سواء من حيث التدين، أم من حيث الحسب والنسب، أم من حيث المقدرة المالية، أو الوضع الاجتماعي، وغير ذلك مما يهتم به أهل المخطوبة في مثل هذه الظروف، ولا أعتقد أن اهتمام الولي سيكون بهذه الدرجة فيما لو كان دوره يقتصر على الإذن السابق أو الإجازة اللاحقة؛ لأنه يجد نفسه أمام أمر واقع، وقدرته على المناورة ستكون محدودة، فهو إما أن يوافق، أو يخسر موليَّته، أو الرجل المتقدم، أو يخسرهما معًا، وقد يكون في موافقته المتعجلة خسارة له وللقبيلة كلها.
4-
إذا فُقِدَ وضع الولي في ابتداء الزواج فلن يكون له دور في دوامه واستمراره، وبذلك تبقى العشرة الزوجية مرهونة برضا الزوجة، لكن دوام الرضا في الحياة الزوجية أمر نادر، فمشاكل الحياة وتعقيداتها لم تبق في قلب أحد من الناس رضًا، لذلك كان وجود الولي خلف الزوجة يخلق نوعًا من التوازن، فأما الزوج فإنه يحسب حسابه في إقدامه على أي تصرف قد يمس الزوجة، وأما الزوجة فلا تقدم على تصرف يسيء إلى زوجها؛ لأنها تخشى رد فعل ولي أمرها إذا ما أشركه الزوج في معالجة المشكلة المترتبة على تصرف الزوجة.