الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: ما ينبغي لكلٍّ من طرفي الزواج أن يراعيه عند اختيار الطرف الآخر
نظرًا لأهمية عقد الزواج في حياة طرفيه ومستقبلهما وما يتولَّدُ عنه من أثار، ندب الشارع الحكيم كل طرف منهما إلى حسن اختيار الطرف الآخر؛ بحيث تتوفر فيه مجموعة من الخصال الكريمة والصفات الحميدة التي تحبب كل طرف في صاحبه، مما يجعله مألوفًا إليه قريبًا من قلبه؛ لتستمر العشرة، وتدوم المودة، وتتحقق الرحمة والسكينة التي أرادها الله تعالى للزوجين في كتابه، والتي أشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله:"فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"1.
ومن أهم الصفات التي يجب الحرص على توافرها في الزوجة:
أولًا: أن تكون دينة، وذلك لما في صحيح البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" 2 أي: استغنيت إن فعلت، أو المعنى: افتقرت إن خالفت، والمراد بالدين: الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفة عن المحرمات3.
وليس المراد بالصلاح في الرجل أو المرأة هو أداء الصلاة فقط أو الصيام فقط، بل هو مجموعة من الخصال الحميدة المكنونة في النفس، وما الصلاة والصيام وغيرهما إلّا قرائن تشير إلى ما يتمتع به الإنسان من هذه الخصال، فليس هناك سعادة في الحياة تعدِلُ سعادة الزوج الذي رُزِقَ بزوجة صالحة، وذلك لأنها ستكون مصدرًا من مصادر
1 سنن سعيد بن منصور جـ1/ 145، والترمذي "1087"، والنسائي "6/ 69".
2 متفق عليه: البخاري في "النكاح"، ومسلم في "باب استحباب ذات الدين" رقم 1466.
3 مغني المحتاج جـ3/ 126، 127.
الخير، فإن كان فقيرًا أغنته زهدها وقناعتها، وإن كان غليظًا جافيًا ألانته بعطفها وحلمها، وإن كان عاصيًا كانت قدوة صالحة له بمسلكها مع ربها ومعه، وغير ذلك من الجوانب، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك.
ثانيًا: أن تكون ذات خلق حسن، لعموم النصوص التي تحض على مكارم الأخلاق، ولأن النكاح يراد للعشرة، ولا تصلح العشرة مع الحمقاء ولا يطيب العيش معها، وربما تعدى ذلك إلى ولدها، وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء1.
ثالثًا: أن تكون بكرًا، أي: لم يسبق لها الزواج، وقد حثَّ الإسلام على التزوج من البكر خاصة لمجموعة من المزايا قلَّ أن تتوفر في المرأة الثيب وهي التي سبق لها الزواج وخبرت الرجال؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت لو أنك نزلت واديًا فيه شجرة قد أُكِلَ منها، ووجدت شجرًا لم يُؤكَلْ منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال:"في الذي لم يرتع منها"، تعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها2.
ودلالة هذا الحديث على أفضلية التزوج من البكر ظاهرة تؤخذ من النتيجة التي سلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مقدماتها من تلك الفصيحة البليغة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكذلك ما في الأبكار من قرب العهد بالصبا، وما يشتملن عليه من الميل إلى الفكاهة واللعب والنظر إلى الحياة بأملٍ ورغبةٍ في الاستمتاع، وذلك واضح مما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، الذي أخرجه مسلم بروايات متعددة كلها تدور حول المعنى السابق، ومنها رواية عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن عبد الله -أي: والده- هلك وترك تسع بنات أو قال: سبعًا، فتزوجت امرأة ثيبًا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا جابر، تزوجت؟ " قال: قلت: نعم، قال:"فبكر أم ثيب؟ " قال: بل ثيب يا رسول الله، قال: "فهلا جارية
1 مغني المحتاج جـ3/ 127، وكشاف القناع جـ5/ 9.
2 البخاري كتاب النكاح، باب: نكاح الأبكار.
تلاعبها وتلاعبك"، أو قال: "تضاحكها وتضاحكك" ، قال: قلت له: إن عبد الله هلك وترك تسع بنات أو سبعا، وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن، فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن، قال: "فبارك الله لك" أو قال لي: "خيرًا" وفي رواية أخرى لمسلم "امرأة تقوم عليهن وتمشطهن، قال:"أصبت"1.
الحاجة قد تدعو للزواج بالثيب:
يجب علينا قبل أن نترك الكلام على هذه الصفة أن نشير إلى أن الحضَّ على تزوج البكر لا يقتضي كراهة تزوج الثيب، بل قد تكون للزوج أغراض لا تتحقق إلّا بزواجه من الثيب ذات الخبرة الكبيرة بأسباب الحياة، ولاسيما إذا كان الزوج ذا عيلة من إخوة صغار أو أطفال من زوجة سابقة، الأمر الذي لا تستطيع البكر القليلة الخبرة في الحياة أن تقوم به، ويشهد لذلك ما فعله جابر رضي الله عنه، الذي أوردنا حديثه آنفًا؛ إذ اختار الثيب زوجةً له ترعى أخواته بعد موت أبيه، وقد أقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل ودعا له بخير، وهذا على استحسان هذا التصرف من جابر ومن يحذو حذوه من المسلمين.
رابعًا: أن تكون ولودًا، أي: تنجب الأولاد وليست عقيمًا، وذلك لتحقق الكثرة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمباهاة الأمم يوم القيامة بكثرة أمته، فعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد، أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم"2.
ولكن لا ينبغي أن يفهم من الحثِّ على التزوج بالولود والنهي عن التزوج بالعقيم أن ذلك عقوبة لها على وضعٍ لا اختيار لها فيه، إنما الأمر بالتزوج بالولود
1 صحيح مسلم جـ10/ 53 شرح النووي.
2 سبق ص5، 14.
لأهداف شرعية، منها: تكثير الأمة، ومنها الحصول على ولد صالح، ومنها عمارة الدنيا تحقيقًا للخلافة في الأرض، وهكذا، غير أن بعض الرجال قد يكون في حاجة إلى زوجة لا تنجب لأسباب كثيرة، قد يكون منها أنه عقيم، أو كبير السن قد انقطع نسله، أو له مجموعة من الأولاد خلفتهم له زوجته المتوفاة فيكون في حاجة إلى من يصلحهم ويقوم على شأنهم
…
وغير ذلك من الأسباب.
خامسًا: أن تكون خفيفة المهر لما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من يمن المرأة تسهيل أمرها، وقلة صداقها" 1، وقال عروة: أول شؤم المرأة أن يكثر صداقها2.
هذه هي أهم الصفات التي تضافرت حولها النصوص الشرعية، لكن بعض الفقهاء أضاف صفات أخرى استفيدت من آثار ضعيفة، أو من بعض التجارب، أو من تأويل بعض النصوص.
سادسًا: أن تكون طيبة الأصل، وذلك تأويلًا لقوله عليه الصلاة والسلام:"ولحسبها" ، وأما خبر "تخيروا لنطفكم، ولا تضعوها إلّا في الأكفاء"3، فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس له أصل4، وقال ابن الصلاح: له أسانيد فيها مقال، وقال الخطيب في تاريخه: كل طرقه واهية، ولما صححه الحاكم5، رد عليه الذهبي بقوله:"الحارث متهم، وعكرمة ضعفوه".
وقد علَّلَ الحنابلة ذلك بقولهم: ليكون ولدها نجيبًا، فربما أشبه أهلها ونزع إليهم، وقالوا: لا ينبغي تزوج بنت زنا أو لقيطة ومن لا يعرف أبوها6.
1 ابن حبان في صحيحه "4095"، والحاكم في المستدرك جـ2/ 181، والبيهقي "7/ 235" مع اختلاف يسير في لفظه.
2 مغني المحتاج جـ3/ 127.
3 سنن ابن ماجه جـ1/ 607 مع اختلاف يسير في اللفظ، وينظر أيضًا مغني المحتاج جـ3/ 127.
4 علل الحديث: 1/ 403.
5 مستدرك الحاكم 2/ 163.
6 كشاف القناع جـ5/ 9.
سابعًا: ألَّا تكون ذات قرابة قريبة، وذلك بأن تكون أجنبية، أو ذات قرابة بعيدة، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:"اغتربوا لا تُضْووا"، أي: تزوجوا في بعاد الأنساب لا يأتي النسل ضعيفًا.
ونقل عن الشافعي قوله: "يستحب له أن لا يتزوج من عشيرته"، قال صاحب المغني: الأولى حمل كلام الشافعي رضي الله عنه على عشيرته الأقربين، ولا يشكل على ذلك بتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها مع أنها بنت عمته، لأنه تزوجها بيانًا للجواز، ولا بتزوج علي فاطمة رضي الله عنها؛ لأنها بعيدة في الجملة؛ إذ هي بنت ابن عمه، وأيضًا بيانًا للجواز1.
ثامنًا: أن تكون على قدر مناسب من الجمال؛ لأنها أسكن للنفس وأغض للبصر وأكمل للمودة، وقد ورد في الحديث: قيل يا رسول الله: أيُّ النساء خير، قال:"التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره" رواه أحمد والنسائي2.
قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع فإنها تزهو بجمالها، وأن الإمام أحمد قال لبعض أصحابه: ولا تغال في المليحة فإنها قلَّ أن تسلم لك3.
تاسعًا: أن تكون عاقلة، قال الأسنوي: ويتجه أن يراد بالعقل هنا العقل العرفي، وهو ما كان زيادة على مناط التكليف4.
عاشرًا: ألا يكون لها مطلق يرغب في نكاحها لاحتمال تعلقها به، أو تعلقه بها، فيفسد ذلك عليه حياته الزوجية بسبب الصلة التي كانت بينها وبين مطلقها،
1 مغني المحتاج جـ3/ 127.
2 سنن النسائي جـ6/ 68.
3 مغني المحتاج جـ3/ 127، وكشاف القناع جـ5/ 9.
4 مغني المحتاج جـ3/ 127.
واطّلاع كلٍّ منهما على أسرار الآخر وأخص خصوصياته1.
الحادية عشرة: ما أشار إليه صاحب الدر المختار حيث قال: ويندب كونها دونه سنًّا وحسبًا وعزًّا ومالًا، وفوقه خلقًا وأدبًا وورعًا وجمالًا.
أما دونه سنًّا، فحتى لا يسرع إليها العقم لو كانت أكبر منه، كما أن مظاهر الكبر تسرع إلى المرأة في سن يكون الرجل فيها قد بلغ أشده، وذلك في سن الأربعين، أما كونها دونه حسبًا وعزًّا ومالًا فذلك حتى تنقاد له ولا تحتقره؛ لأنها إن كانت فوقه في هذه الأمور ترفعت عليه، وهذا مشاهد في الواقع لا يحتاج إلى نصوص للاستشهاد عليه2.
وهناك صفات أخرى تعرَّضَ لها بعض الفقهاء، لكني اكتفيت بهذا القدر من الصفات لصعوبة اجتماعها أو اجتماع أكثرها في زوجة واحدة.
ورحم الله العلامة الخطيب الشربيني إذ قال بعد أن عدَّدَ مجموعةً من الصفات المتقدمة: وهذه الصفات كلها قلَّ أن يجدها الشخص في نساء الدنيا، وإنما توجد في نساء الجنان، فنسأل الله تعالى ألَّا يحرمنا منهن3.
ما يجب على الزوجة أو وليها مراعاته في اختيار الزوج:
هذه الصفات المتقدمة لا يختص بمراعاتها الزوج وحده في اختيار الزوجة حين يقدم على الزواج، بل تشترك في ذلك الزوجة حين يؤخذ رأيها في مَنْ ترى أن يكون شريكَ حياتها، وكذلك ولي أمرها إن كانت قاصرًا لا تعرف حقائق الصفات المتقدمة، وقد نصَّ بعض الفقهاء على هذه المساواة، فعمَّمَ بعضهم وخصَّصَ آخرون:
فمن الأول: ما جاء في حاشية القليوبي على المحلى حيث قال بعد أن عدد
1 مغني المحتاج جـ3/ 127.
2 الدر المختار مع حاشية ابن عابدين جـ3/ 8.
3 مغني المحتاج جـ3/ 127.
مجموعة من الصفات المتقدمة التي ينبغي على الزوج أن يراعيها في اختيار زوجته:
"تنبيه: كل ما طلب في حق المرأة للرجل يطلب في عكسه ذلك"1.
ومن الثاني: ما جاء في حاشية العلامة عميرة؛ حيث قال تعليقًا على قول متن المنهاج "بكر": "كذلك يستحب للشخص ألّا يزوج ابنته إلّا من بكر، أي: لم يتزوج قبلها"2.
وكذلك ما جاء في حاشية ابن عابدين: "والمرأة تختار الزوج الدَّيِّن الحسن الخلق الجواد الموسر، ولا تتزوج فاسقًا، ولا يزوج ابنته الشابة شيخًا كبيرًا، ولا رجلًا دميمًا، ويزوجها كفؤًا"3.
ويتأيد ذلك بما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أتى رضي الله عنه بامرأة شابة زوجوها شيخًا كبيرًا فقتلته، فقال:"يأيها الناس، اتقوا الله ولينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال، يعني: شبهها" واللمة: المثل في السن والترب4.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ولا تكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنهن يحببن ما تحبون"5.
بل أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمَّ حق الاستشارة في زواج ابنتها ممن يتقدم، ولا يستأثر الولي بالأمر كله، وذلك لأن المرأة قد تعرف من أسرار ابنتها ما لا يعرف ولي أمرها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمروا النساء في بناتهن"6.
ثم بعد هذا كله أعطى الإسلام البنت حق الرضا بمن يتقدم إليها بكرًا أم ثيبًا،
1 جـ3/ 207.
2 حاشية عميرة على المحلى جـ3/ 207.
3 حاشية ابن عابدين جـ3/ 9.
4 سنن سعيد بن منصور جـ1/ 211.
5 سنن سعيد بن منصور جـ1/ 211.
6 سنن أبي داود جـ1/ 483-2095، وأحمد "2/ 34"، وإسناده ضعيف.
وجعل لكلٍّ علامة على الرضا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت"1.
ثم وصل الإسلام في تثبيته لهذا الحق أن الحاكم يعطي لها حقَّ رد النكاح إذا لم يكن عن رضًا منها، فعن نافع أن ابن عمر تزوج بنت خاله: عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، وقال:"لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإذا سكتن فهو إذنهن " فتزوجها المغيرة بن شعبة2.
كما أخرج البخاري بسنده عن خنساء بنت خذام الأنصارية، أن أباها زوَّجَها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه"3.
1 متفق عليه البخاري في النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ومسلم في النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح.
2 الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، ورواه أحمد "2/ 130"، وهو صحيح.
3 صحيح الإمام البخاري مع شرحه فتح الباري جـ11/ 100.