الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مدى كون النكاح من العبادة
اتفق الفقهاء على أن النكاح من العبادة إذا كان القصد منه الإعفاف أو النسل أو غيرهما من الأمور التي يدعو الإسلام إلى تحقيقها.
واختلفوا فيما إذا خلا من ذلك:
- فذهب أكثر الفقهاء إلى أنه مباح إذا لم يشغله عن عبادة نافلة1؛ لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة.
- ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من العبادة، فقد قال صاحب الدر المختار الحنفي:"ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن، ثم تستمر في الجنة إلّا النكاح والإيمان"2.
ونصوص الشريعة تقوي الرأي القائل بأنه من العبادة، فقد جاء في الحديث الشريف "إن في بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم:"رأيتم إذا وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"3.
الزواج أفضل من التخلي للعبادة:
يفهم من كلام أكثر الفقهاء أن النكاح إذا اقترن بقصد تحقيق شي صالح للدنيا أو الآخرة فإنه أفضل من التخلي للعبادة، ولم يشذّ عن ذلك إلّا قليل من الفقهاء الذين آثروا التخلي للعبادة تعلقًا ببعض الآثار الواهية التي تدعو إلى ترك النكاح
1 حاشية قليبوبي وعميرة على المحلي على المنهاج جـ3/ 206، وكشاف القناع جـ5/ 7، شرح الخرشي مع حاشية العدوي عليه جـ3/ 165، والدر المختار مع حاشية رد المحتار جـ3/ 3.
2 الدر المختار مع حاشية رد المحتار جـ3/ 3.
3 صحيح مسلم، وسبق ص3.
والتخلي للعبادة حتى لا ينشغل المسلم بتكاليفها عن طاعة الله تعالى، والتحقق بالعبودية له عز وجل مثل ما ورد من رواية:"خيركم في المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد"، ومثل ما ورد عن طريق حذيفة أنه قال:"إذا كان سنة خمس ومائة فلأن يربي أحدكم جرو كلب خير من أن يربي ولدًا".
وقد قال ابن حزم رحمه الله عقب إيراده لهذين الخبرين: "هذان خبران موضوعان؛ لأنهما من رواية أبي عاصم روّاد بن الجراح العسقلاني وهو منكر الحديث لا يحتج به1، وبيان وضعهما: أنه لو استعمل الناس ما فيهما من ترك النسل لبطل الإسلام والجهاد وغلب أهل الكفر، مع ما فيه من إباحة تربية الكلاب، فظهر فساد كذب رواد بلا شك"3.
والنصوص الشرعية تؤيد رأي الجمهور بأفضلية النكاح على التخلي للعبادة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها.
ويضاف إلى ما تقدَّم: أن النكاح فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه مدة حياته، وفي هذا المعنى يقول ابن الهمام:"ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلّا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرَّه على ترك الأفضل مدة حياته"3.
1 المحلى لابن حزم جـ9/ 440، 441.
2 بالغ أبو محمد بن حزم رحمه الله في نقد رواد كعادته، والرجل ضعيف الحديث، له مناكير، ولم يكن يكذب إلّا إن قصد ابن حزم بيان الحال وليس تعمُّد الكذب، وانظر تهذيب الكمال "9/ 229" -ترجمة رواد- والخبران موضوعان بلا ريب.
3 فتح القدير جـ3/ 103.