الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان الناصر ببغداد حضر في المستنصرية وبحث واستدل، والخليفة في روشن يسمع، وقام يومئذ الوجيه القيرواني ومدح الخليفة بقصيدة منها:
لو كنت في يوم السقيفة حاضراً
…
كنت المقدّم والهمام الأروعا فقال له الناصر: كذبت، قد كان العباس جد أمير المؤمنين حاضراً (1) ، ولم يكن المقدم إلا أبو بكر رضي الله عنه، فخرج الأمر بنفي (2) الوجيه، فذهب إلى مصر وولي تدريس مدرسة ابن شكر.
رجع الكلام
ثم وقع بين الكامل والأشرف، وأراد كل منهما أن يكون الناصر معه، فمال إلى الكامل، وجاء في الرسلية القاضي الأشرف ابن الفاضل، وسار الناصر إلى الكامل فبالغ في تعظيمه وأعطاه الأموال والتحف، ثم اتفق موت الأشرف والكامل، والناصر بدمشق في دار أسامة، فتشوف إلى السلطنة، ولم يكن يومئذ أميز منه، ولو بذل المال لحلفوا له، فتسلطن الجواد، فخرج الناصر من دمشق إلى القابون وسار إلى عجلون، ثم حشد وجاء، فخرج الجواد بالعساكر، ووقع المصاف بين نابلس وجينين، فانكسر الناصر وأخذ الجواد خزائنه، وكانت على سبعمائة جمل، فافتقر الناصر.
ولما ملك الصالح نجم الدين أيوب دمشق وسار لقصد مصر، جاء عمه الصالح إسماعيل وملك دمشق، فتسحب جيش نجم الدين عنه، وبقي في نابلس في جماعة قليلة، فجهز الناصر عسكراً (3) من الكرك فأمسكوه وأحضروه إلى الكرك، فاعتقله عنده مكرماً.
ونزل الناصر عند موت الكامل من الكرك على القلعة التي عمرها الفرنج
(1) ص: حاضر.
(2)
ص: بنفا.
(3)
ص: عسكر.
بالقدس وحاصرها وملكها وطرد من بالقدس من الفرنج وفي ذلك يقول ابن مطروح:
المسجد الأقصى له عادة
…
سارت فصارت مثلاً سائرا
إذا غدا للكفر مستوطناً
…
أن يبعث الله له ناصرا
فناصرٌ طهّره أولاً
…
وناصرٌ طهّره آخرا ثم إنه اتفق مع الصالح نجم الدين أيوب في أنه إن ملك مصر ما يفعل، فقال الصالح: أنا غلامك، وشرط عليه أشياء وأطلقه، فلما ملك مصر وقع التسويف منه والمغالطة، فغضب الناصر ورجع فبعث الصالح عسكراً (1) واستولوا على بلاد الناصر، ثم إن ابن الشيخ نازله في الكرك وحاصره أياماً ورحل، فقل ما عند الناصر من الذخائر والأموال واشتد عليه الأمر، فجهز الشيخ شمس الدين الخسروشاهي ومعه ولده إلى الصالح وقال: تسلم مني الكرك وعوضني الشوبك وخبزا بمصر فأجابه، فرحل إلى مصر مريضاً. ثم إن الأمر ضاق عليه فترك ولده المعظم نائباً في الكرك، وأخذ ما يعز عليه من الجواهر ومضى إلى حلب مستجيراً بصاحبها، فأكرمه، ثم توجه قاصداً بغداد، وأودع ما معه من الجواهر عند الخليفة، وكانت قيمتها أكثر من مائة ألف دينار، ولم يصل بعد ذلك إليها.
وكان له ولدان: الظاهر والأمجد، وهما من بنت الملك الأمجد ابن العادل، فأمهما بنت عمه، وأم المعظم بنت عمه الصالح، فاتفقا مع أمهما على القبض على المعظم فقبضاه، واستولوا على الكرك. ثم سار الأمجد إلى المنصورة فأكرمه الصالح، فكلمه في الكرك وتوثق منه لنفسه وإخوته وأن يعطيه خبزاً بمصر، فأجابه، وسير الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائباً، وأقطع أولاد الناصر إقطاعات جليلة، وفرح بالكرك؛ وبلغ الناصر الخبر وهو بحلب فعظم ذلك عليه. فلما مات الصالح وتملك ابنه المعظم توران شاه وقتل عمه الطواشي الصوابي وأخرج
(1) ص: عسكر.
المغيث عمر ابن العادل ابن الكامل من حبس الكرك وملكه الكرك والشوبك، وجاء صاحب حلب فملك دمشق، ومعه الصالح إسماعيل والناصر داود، فقيل له ان الناصر يسعى في السلطنة، فقبض عليه وحبسه بحمص، ثم أفرج عنه بشفاعة الخليفة، فتوجه إلى الخليفة فلم يؤذن له في الدخول إلى بغداد، فطلب وديعته فلم تحصل له، فرد إلى دمشق، ثم سافر إلى بغداد لأجل الوديعة، فنزل بمشهد الحسين بكربلا، وسير قصيدة إلى الخليفة يمدحه ويسأله في رد الوديعة ويتلطف، فلم يرد عليه جواب، فحج وأتى المدينة وقام بين يدي الحجرة النبوية، وأنشد قصيدته التي أولها:
إليك امتطينا اليعملات رواسماً
…
يجبن الفلا ما بين رضوى ويذبل ثم أحضر شيخ الحرم والخدام، ووقف بين يدي الضريح مستسمكاً بسجف الحجرة وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد دخلت عليه مستشفعاً به إلى ابن عمه أمير المؤمنين في رد وديعتي، فأعظم الناس هذا وبكوا، وكتبوا بصورة ما جرى إلى الخليفة؛ ولما كان الركب في الطريق خرج عليهم أحمد بن حجي بن يزيد من آل مرى فوقع القتال، وكادوا يظفرون بأمير الحاج، فشق الناصر الصفوف، وكلم أحمد بن حجي، وكان أبوه صاحبه، فترك الركب ونزل الناصر بالحلة، فقرر له راتب يسير، ولم ينل مقصوداً (1) ، فجاء إلى قرقيسيا، ومنها إلى تيه بني إسرائيل، وانضم إليه عربان، فخاف المغيث منه وراسله وخدعه إلى أن قبض عليه وعلى من معه، وحبسه بطور هارون، فبقي ثلاثة أيام. واتفق أن المستعصم دهمه أمر التتار فكتب إلى صاحب الشام يستمده ويطلب منه جيشاً يكون مقدمه الناصر داود، فطلبه من المغيث فأخرجه، وقدم إلى دمشق ونزل بقرية البويضا قرب البلد، وأخذ يتجهز للمسير، فجاءت الأخبار بما جرى على بغداد من التتار، وعرض طاعون بالشام عقيب واقعة التتار،
(1) ص: مقصود.
فطعن الناصر في جنبه وتوفي ليلة الثامن والعشرين (1) من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة، وركب السلطان إلى البويضا، وأظهر التأسف عليه وقال: هذا كبيرنا وشيخنا، ثم حمل إلى تربة والده بسفح قاسيون.
وكان رحمه الله تعالى معتنياً بتحصيل الكتب النفيسة، ووفد عليه راجح الحلي ومدحه فوصل إليه منه ما يزيد على أربعين ألف درهم، وأعطاه على قصيدة أخرى ألف دينار.
وكتب الملك الناصر داود إلى وزيره فخر القضاة ابن بصاقة:
يا ليلة قطّعت عمر ظلامها
…
بمدامةٍ صفراء ذات تأجّج
بالساحل النامي روائح نشره
…
عن روضه المتضوّع المتأرج
واليمّ زاهٍ قد جرى تيّاره
…
من بعد طول تقلّقٍ وتموج
طوراً يدغدغه النّسيم وتارةً
…
يكرى فتوقظه بنات الخزرج
والبدر قد ألقى سنا أنواره
…
في لجّه المتجعّد المتدبّج
فكأنّه إذ قدّ صفحة متنه
…
بشعاعه المتوقد المتوهج
نهرٌ تكوّن من نضارٍ يانعٍ
…
يجري على أرضٍ من الفيروزج ومن شعره:
صبحاني بوجهه القمريّ
…
واصبحاني بالسلسبيل الرويّ
بدر ليلٍ يسعى بشمس نهارٍ
…
فشهيٌّ ينتابنا بشهيّ
واعجبا لاجتماع شمس وبدر
…
في سنائي سنا كمال بهيّ
إن تبدّت بوجهها ذهبيّاً
…
قلت هذا من وجهه الفضيّ
يا ولوعاً بالنبل أصميت قلبي
…
بسهام من لحظك البابليّ
رشقته من حاجبيك سهامٌ
…
منتضاةٌ أحسن بها من قسي ومنه:
(1) ص: والعشرون.
لو عاينت عيناك حسن معذبي
…
ما لمتني ولكنت أول من عذر
عين الرشا قدّ ردف النّقا
…
شعر الدجى شمس الضحى وجه القمر ومما ينسب إليه وهو غاية:
بأبي أهيفٌ إذا رمت منه
…
لثم ثغرٍ يصدّني عن مرامي
قد حمى خدّه بسور عذارٍ
…
مقلتاه أضحت عليه مرامي وله أيضاً:
تراخيت عني حين جدّ بي الهوى
…
وجربت صبري عندما نفد الصبر
فلو عاينت عيناك في الليل حالتي
…
وقد هزني شوقي وأقلقني الفكر
رأيت سليماً في ثياب مسلم
…
ومستشعراً قد ضمّ شرسوفه الشعر وله:
إذا عاينت عيناي أعلام جلّقٍ
…
وبانت من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنّوى
…
نأى شحطها والعيش عاد شبابه وله أيضاً:
طرفي وقلبي قاتلٌ وشهيد
…
ودمي على خديك منه شهود
يا أيها الرشأ الذي لحظاته
…
كم دونهنّ صوارمٌ وأسود
من لي بطيفك بعدما منع الكرى
…
عن ناظريّ البعد والتّسهيد
وأما وحبّك لست أضمر توبةً
…
عن صبوتي ودع الفؤاد يبيد
وألذّ ما لاقيت فيك منيّتي
…
وأقلّ ما بالنفس فيك أجود
ومن العجائب أن قلبك لم يلن
…
لي والحديد ألانه داود وعلى الجملة إنه لم يكن مسعود الحركات، لأنه قضى عمره في أسوأ حال، مشرداً (1) عن الأوطان معكوس المقاصد، وقيل: إنه كان إذا دخل في الشراب
(1) ص: مشرد.