الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
54 -
(1)
ابن الحلاوي الشاعر
أحمد بن محمد بن أبي الوفا بن الخطاب بن الهزبر، الأديب الكبير شرف الدين أبو الطيب بن الحلاوي الربعي، الشاعر الموصلي؛ ولد سنة ثلاث وستمائة، وقال الشعر الجيد الفائق ومدح الخلفاء والملوك، وكان في خدمة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان من ملاح الموصل، وفيه لطف وظرف وحسن عشرة وخفة روح، وله القصائد الطنانة التي رواها الدمياطي عنه في معجمه؛ توفي سنة ست وخمسين وستمائة؛ فمما رواه الشيخ شرف الدمياطي له رحمه الله تعالى:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه
…
وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقه
هلالٌ ولكن أفق قلبي محلّه
…
غزالٌ ولكن سفح عيني عقيقه
وأسمر يحكي الأسمر اللّدن قدّه
…
غدا راشقاً قلب المحب رشيقه
على خدّه جمر من الحسن مضرمٌ
…
يشبّ ولكن في فؤادي حريقه
أقرّ له من كلّ حسنٍ جليله
…
ووافقه من كلّ معنىً دقيقه
بديع التثنّي راح قلبي أسيره
…
على أنّ دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جديده (2)
…
وفي شفتيه للسّلاف عتيقه
يهدد منه الطرف من ليس خصمه
…
ويسكر منه الريق من لا يذيقه
على مثله يستحسن الصبّ هتكه
…
وفي حبه يجفو الصديق صديقه
من الترك لا يصبيه وجدٌ إلى الحمى
…
ولا ذكر بانات الغوير تشوقه
(1) الزركشي: 58 والوافي 8: 102 والشذرات 5: 274 وعبر الذهبي 5: 227 والنجوم الزاهرة 5: 274 وعقود الجمان 1: 387.
(2)
ص: حديده.
ولا حلّ في حيّ تلوح قبابه
…
ولا سار في ركب يساق وسوقه (1)
ولا بات صبّاً بالفريق وأهله
…
ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسمٌ ينسي المدام بريقه
…
ويخجل نوار الأقاحي بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده
…
فأضرم من حرّ الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليمانيّ موهناً
…
تذكره قلبي فزاد خفوقه
حكى وجهه بدر السّماء فلو بدا
…
مع البدر قال الناس: هذا شقيقه
رآني خيالاً حين وافى خياله
…
فأطرق من فرط الحياء طروقه
وأشبهت منه الخصر سقماً فقد غدا
…
يحمّلني كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبي كلّ حب يهيجه
…
وحتّام طرفي كلّ حسن يشوقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره
…
وهذا فبعد البعد ما جفّ موقه
ولله قلبي ما أشدّ عفافه
…
وإن كان طرفي مستمراً (2) فسوقه
أرى الناس أضحوا جاهلية حبّه
…
فما باله عن كلّ صبّ يعوقه
فما فاز إلاّ من يبيت صبوحه
…
مدام ثناياه ومنها غبوقه وقال أيضاً:
أأُلقى من صدودك (3) في جحيم
…
وثغرك كالصّراط المستقيم
وأسهرني لديك رقيم خدّ
…
فواعجبا أأسهر بالرقيم منها:
وحتّام البكاء بكلّ رسم
…
كأنّ عليّ رسماً للرسوم واجتمعوا في بعض الأيام عند شخص يلقب بالشمس، فقالوا له: أطعمنا شي فامتنع، فقال بعضهم:
الطامع في منال قرص الشمس
…
(1) الوافي: وسيقه.
(2)
ص: مستمر.
(3)
الوافي: خدودك.
فقال ابن الحلاوي:
كالطامع في منال قرص الشمس
…
وأنشده بعض الأفاضل لغزاً في شبابة:
وناطقة خرساء بادٍ شحوبها
…
تكنفها عشرٌ وعنهنّ تخبر
يلذّ إلى الأسماع رجع حديثها
…
" إذا سدّ منها منخرٌ جاش منخر "(1) فأجابه في الوقت:
نهاني والنهى والشيب عن وصل مثلها
…
" وكم مثلها فارقتها وهي تصفر "(2) وسئل أن ينظم أبياتاً تكتب على مشط للملك العزيز محمد صاحب حلب، فقال:
حللت من الملك العزيز براحةٍ
…
غدا لثمها عندي أجلّ الفرائض
وأصبحت مفترّ الثنايا لأنّني
…
حللت بكفّ بحرها غير غائض
وقبلت سامي كفه بعد خده
…
فلم أخل في الحالين من لثم عارض وقال، وهو مشهور عنه:
جاء غلامي وشكا
…
أمر كميتي وبكى
وقال لي لا ش؟
…
ك برذونك قد تشبكا
قد سقته اليوم فما
…
مشى ولا تحركا
فقلت من غيظي له
…
مجاوباً لما حكى
تريد أن تخدعني
…
وأنت أصل المشتكى
ابن الحلاويّ أنا
…
خلّ الرياء والبكا
(1) عجز بيت لتأبط شراً، وصدره " فذاك قريع الدهر ما عاش حول ".
(2)
عجز بيت آخر لتأبط شراً، وصدره " فأبت إلى فهم وما كدت آيباً ".
ولا تخادعني ودع
…
حديثك المعلّكا
لو أنّه مسيّرٌ
…
لما غدا مشبكا
فمذ رأى حلاوة ال؟
…
ألفاظ منّي ضحكا وكتب إلى القاضي محيي الدين ابن الزكي يصف خطه:
كتبت فلولا أنّ هذا محلّلٌ
…
وذاك حرامٌ قست خطك بالسّحر
فوالله ما أدري أزهر خميلةٍ
…
بطرسك أم درٌّ يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابةٍ
…
وإن كان درّاً فهو من لجّة البحر وقال يمدح الملك الناصر داود صاحب الكرك:
أحيا بموعده قتيل وعيده
…
رشأ يشوب وصاله بصدوده
قمرٌ يفوق على الغزالة وجهه
…
وعلى الغزال بمقلتيه وجيده
يا ليته يعد الصدود فإنّه
…
ما زال ذا لهج بخلف وعوده
يفترّ عن عذب الرضاب، حياتنا
…
في ورده والموت دون وروده
بردٌ يذيب ولا يذوب وإنّما
…
أدنى زفير الوجد عذب بروده
لم أنسه إذ جاء يسحب برده
…
والليل يخطر في فضول بروده
والصبح مأسورٌ أجدّ لأسره
…
جنح الظلام تأسفاً لفقيده
واللّيل يرفل في ثياب حداده
…
والصبح يرسف في فضول حديده
ولذاك لم تنم الجفون مخافةً
…
من أن يعاني الصبح فكّ قيوده
بمدامة صفراء يحمل شمسها
…
بدر يغير البدر عند سعوده
كأسٌ كأن مدامها من ريقه
…
وحبابها من ثغره وعقوده
ما زال يرشفنا شقيقة ريقه
…
طيباً ويلثمنا شقيق خدوده
حتى تحكم في النجوم نعاسها
…
والتذّ كلّ مسهدٍ بهجوده
ورأى الصباح تخلصاً من أسره
…
فأتى يكرّ على الدجى بعموده
قمرٌ أطاع الحسن سنّة وجهه
…
حتى كأن الحسن بعض عبيده
أنا في الغرام شهيده ما ضرّه
…
لو أنّ جنّة وصله لشهيده وقال أيضاً:
تبدى له في الخد من تبّتٍ خطّ
…
وأخجل منه القدّ ما ينبت الخط
ولم ندر لما هزّ عامل قده
…
وصارم جفنيه بأيهما يسطو
رحيقيّ ثغر بابليّ لواحظٍ
…
له سالف كالورد بالمسك مختط
من الترك لا وادي الأراك محلّه
…
ولا داره رمل المصلّى ولا السقط
كليث الشّرى في الحرب بأساً وسطوةً
…
وفي السّلم كالظبي الغرير إذا يعطو
يخفّ به لين المعاطف مائساً
…
فيمنعه ثقل الروادف أن يخطو
حمى ثغره من مشرف القد عاملٌ
…
له ناظرٌ ما العدل في شرعه شرط
له حاجبٌ كالنون خطّ ابن مقلةٍ
…
يزيّنها للخال في خده نقط
فللبدر ما يثني عليه لثامه
…
وللغصن منه ما حرى ذلك المرط
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه
…
وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبّهوا غصن النقا بقوامه
…
لقد بالغوا بالمدح للغصن واشتطوا ولما توجه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى العجم للاجتماع بهولاكو كان ابن الحلاوي معه، فمرض بتبريز، وتوفي بها، وقيل بسلماس، وهو في حدود الستين من عمره.
ومن شعره أيضاً:
لحاظ عينيك فاتنات
…
جفونها الوطف فاترات
فرّق بيني وبين صبري
…
منك ثنايا مفرقات
يا حسناً صدّه قبيح
…
فجمع شملي به شتات
قد كنت لي واحداً ولكن
…
عداك عن وصلي العداة
إن لم يكن منك لي وفاءٌ
…
دنت بهجرانك الوفاة
حيّات صدغيك قاتلاتٌ
…
فما لملسوعها حياة
والثغر كالثغر في امتناعٍ
…
تحميه من لحظك الرماة
يا بدر تمٍّ له عذارٌ
…
بحسنه تمّت الصفات
منمنم الوشي في هواه
…
يا طالما نمت الوشاة
نبات صدغ حلاّك حسناً
…
والحلو في السكر النّبات وكان السلطان بدر الدين لؤلؤ لا ينادمه ولا يحضره مجلسه، وإنما كان ينشده أيام المواسم والأعياد المدائح التي يعملها فيه، فلما كان في بعض الأيام رآه في الصحراء في روضة معشبة وبين يديه برذون له مريض يرعى، فجاء إليه ووقف عنده وقال: ما لي أرى هذا البرذون ضعيفاً؟ فقام وقبل الأرض وقال: يا مولانا السلطان، حاله مثل حالي، وما تخلفت عنه في شيء، يدي بيده في كل رزق رزقنا الله تعالى، هل عملت في برذونك هذا شيئاً؟ قال: نعم، وأنشده بديهاً:
أصبح برذوني المرقّع بالل؟
…
زقات في حسرةٍ يكابدها
رأى حمير الشعير عابرة
…
عليه يوماً فظل ينشدها
" قفا قليلاً بها عليّ فلا
…
أقلّ من نظرةٍ أُزوّدها " (1) فأعجبت السلطان بديهته. وأمر له بخمسين ديناراً (2) وخمسين مكوكاً من الشعير وقال له: هذه الدنانير لك، وهذا الشعير لبرذونك، ثم أمره بملازمة مجلسه كسائر الندماء، وأقطعه إقطاعاً، ولم يزل يترقى عنده إلى أن صار لا يصبر عنه، رحمهما الله تعالى.
(1) بيت مضمن، وهو للمتنبي، ديوانه:2.
(2)
ص: دينار.