الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
97 -
(1)
شعر الزنج
أبو الجعد المعروف بشعر الزنج؛ وكان وقاداً ببغداد، قصته طويلة وأمره عجيب، اقتضت (2) به الحال في تصرفاته إلى أن صار وقاداً في أتون حمام:
عشق غلاماً من أبناء بغداد، وقال الشعر فجوده، واشتد كلفه بالغلام، وكان الغلام ظريفاً مغرماً بالتفاح لا يكاد يفارقه في أوانه، فجاء يوماً شعر الزنج فقعد بإزاء الغلام، وبيد الغلام تفاحة وهو يقلبها تارة ويشمها تارة، ويدنيها من خده تارة ومن فيه تارة، فقال شعر الزنج:
تفاحة أكرمها ربها
…
يا ليتني لو كنت تفاحه
تقبل الحب ولا تستحي
…
من مسكه بالكف نفاحه
تجري على خديه جوّالةً
…
نفسي إلى شمك مرتاحه فلما سمع الغلام ذلك رمى بها في الطريق، فأخذها شعر الزنج، واشتد كلفه بالغلام واشتد إعراض الغلام عنه، فعمد شعر الزنج إلى تفاحة حمراء عجيبة فكتب عليها بالذهب:
أني لأعذركم في طول صدكم
…
من راقب الله أبدى بعض ما كتما
لكن صدودكم يؤذي لمن علقت (3)
…
به الصبابة حتى ترجع الكلما ورمى بالتفاحة إلى الغلام، فقرأ ما فيها ثم قام ودخل بيته فأبطأ وعاد
(1) الوافي والزركشي: 82.
(2)
كذا في ص، والأصوب: أفضت.
(3)
ص: عقلت.
فرمى بها إلى شعر الزنج، فأخذها وهو يظن أنه قد رق له، وإذا هو قد كتب بالأسود تحت كل سطر:
نصدّ عنكم صدود المبغضين (1) لكم
…
فلا تردّوا إلينا بعدها كلما
وما بنا الناس لو أنّا نريدكم
…
فاصبر فؤادك أو مت هكذا ألما فاشتعلت نيران شعر الزنج وتضاعف وجده، ثم ظن أن الغلام يستوضع حرفته بالوقادة فتركها وصار ناطوراً يحفظ البساتين، وقصد بساتين التفاح التي لا يوجد في بغداد أكثر منها تفاحاً، فأتى إلى صاحب له ومعه تفاح كثير وقال: أحب أن تهدي هذا التفاح إلى الغلام، وتعمد المكتوب (2) منه، فنظر وإذا هو قد كتب على بعضه ببياض لما كان في شجره، من جملتها تفاحة حمراء مكتوب عليها ببياض:
جودوا لمن هيّمه
…
حبكم فهاما
وصار ضوء يومه
…
من حزنه ظلاما وكتب على أخرى:
مهجة نفسك أتتك مرتاحه
…
تشكو هواها بلفظ تفاحه فأهدى ذلك التفاح إليه، فلما قرأ ما عليه قام وقد خجل، وصار شعر الزنج يختار أكبر التفاح ويكتب عليه الشعر، ويحتال بصنوف الحيل في إيصاله إلى الغلام.
قال الحاكي: فإني يوماً لجالس أنا والغلام إذ اجتاز بنا بائع فاكهة جل ما معه تفاح، فأجلسه الغلام وابتاع منه التفاح بما أراد دون مماكسة، وسر الغلام برخص التفاح، وجعل يقلبه ويعجب من حسنه، وإذا هو بتفاحة صفراء مكتوب عليها بالأحمر:
تفاحة تخبر عن مهجة
…
أذابها الهجر وأضناها
(1) ص: المغضبين.
(2)
ص: المكتوم.
يا بؤسها ماذا بها ويلها
…
أبعدها الحب وأقصاها ففطن حينئذ وغالطني وقال: ما ترى ما يكتبون الناس على التفاح طلباً للمعاش؟! فتغافلت عنه، وكان شعر الزنج قد دفع التفاح إلى البائع وقال له: تلطف في إيصاله إلى الغلام وبعه إياه بما أراد.
ثم إن شعر الزنج أهدى إلي يوماً تفاحاً كثيراً: أحمر كالشقائق، وأبيض كالفضة، وأصفر كالذهب، منه ما كتب عليه ببياض في حمرة، وبحمرة في بياض، وعلى أحدها:
نبتّ في الأغصان مخلوقةً
…
من قلب ذي شوق وأحزان
صفرني سقم الذي لونه
…
يخبر عن حالي وأشجاني وعلى أخرى بأحمر:
تفاحةٌ صيغت كذا بدعةً
…
صفراء في لون المحبينا
زيّنها ذو كمدٍ مدنف
…
بدمعه إذ ظل محزونا
فامنن فقد جئت له شافعاً
…
وقيت من بلواه آمينا وعلى أخرى:
كتبت لما سفكت مهجتي
…
بالدم كي ترحم بلوائي
رفعت هذي قصتي أشتكي ال
…
هجر فوقّع لي بإغفائي قال: فرحمته وأدركتني رقة له، فحفظت التفاح جميعاً، وعملت دعوة ودعوت الغلام وإخوته، واجتمعنا على مجلس أنس، وأحضرت التفاح، فيما أحضرته فرأوا منه شيئاً لم يروا مثله، ثم تعمدت وضع التفاح المكتوب بين يدي الغلام، فعجب منه وقرأ ما عليه وقال لي خفية: ترى من كتب هذا الذي عليه؟ قال: فقلت: الذي كتب على ذلك التفاح الذي (1) ابتعته ذلك اليوم، قال:
(1) ص: إلي.
ومن كتبه؟ قلت: شعر الزنج، قال: فخجل، ثم استهدانيه فقلت (1) : لا تستهده فإنه لك عمل ومن أجلك حضر، ثم أخذت في رياضته على الحضور مع شعر الزنج للفكاهة، فوجدته شديد النفور منه والبغض فيه، فتركته وعدلت إلى أبيه وقلت له: هل أنا عندك متهم في ولدك؟ فقال: حاش لله ولا في أهلي، فحكيت له خبر شعر الزنج مع ولده من أوله إلى آخره، وقلت له: إن هذا الأمر إن تمادى ظهر حاله واشتهر ولدك وصار أحدوثة للخاص والعام، وأنا أرى أن اجتماعه به في منزلي بمحضر من أهله سواك مما يكف لسانه ويستر أمره، فقال: افعل ما تراه مصلحة فأنت ممن لا يتهم، قال: فعرفت شعر الزنج بما جرى وقلت له: إذا كانت ليلة كذا وكذا فاحضر وادخل بلا استئذان كأنا لم نشعر بك، واجلس إلى أن نومىء إليك بالقيام، ثم دعوت الغلام وإخوته في الليلة المحدودة، واجتمعنا في مجلس أنس وشربنا، فلم نشعر إلا وشعر الزنج داخل علينا، فلما رآه الغلام خجل واستوحش وهم بالخروج فمنعناه، وكان بحضرتنا تفاح كثير أحمر والفتى يكثر شمه والعبث به والتنقل منه في أثناء شربه، فجعل شعر الزنج يتأمل الغلام ثم قال:
يا قمراً في سعد أبراجه
…
وبيت أحزاني وأتراحي
ويا قضيباً ماثلاً مائلاً
…
أكثر في حبي له اللاحي
أبصرته في مجلسٍ ساعةً
…
والليل في حلة أمساح
في فتيةٍ كلهم سيّدٌ
…
صالت عليهم سطوة الراح
يعضّ تفاحاً (2) بتفّاحةٍ
…
ويشرب الراح على الراح فخجل الغلام واحمر، فقال شعر الزنج عدة مقاطيع والغلام يزداد خجلاً وتوريداً، فقلنا لشعر الزنج: يكفيك قد أخجلت الفتى، فأومأنا إليه بالقيام على
(1) ص: فقال.
(2)
ص: تفاح.