المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ١

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تنبيه:

- ‌ كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري

- ‌مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى

- ‌طبقات الصحابة

- ‌ما قيل في عدَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌بعض ما قيل في فَضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم

- ‌ومما هو وارد في فضلهم من الأحاديث:

- ‌الترتيبُ في فضلِ الصَّحابةِ

- ‌في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة

- ‌ما قيل في محبة الصحابة

- ‌ما قيل فيمن سَبَّ الصحابةَ

- ‌الِإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة

- ‌ فروعً

- ‌فيما تُعْرَفُ به الصُّحبة

- ‌في عدالة الصحابة

- ‌في المكثرين رواية وفتوى

- ‌فِيْمَنْ يقالُ لَهُمُ: العبادلة

- ‌فيمن لهم أتباع في الفقه

- ‌فيمن انتهى إليهم العلمُ من الصَّحابةِ

- ‌في عدد الصحابة وطِباقِهم

- ‌في ترتيبهم في الفضل

- ‌في أول من أسلم من الصحابة

- ‌في آخرهم موتًا

- ‌حقيقة التابعين وطبقاتهم

- ‌أفضل التابعين

- ‌الفقهاء السبعة

- ‌المُخَضْرَمونَ

- ‌فائدتان

- ‌نبذة من السيرة النبوية

- ‌ما يُقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية

- ‌موت والده عبد الله

- ‌مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌عام ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌الشهر الذي وُلِدَ فيه

- ‌في أي يوم من الشهر ولد

- ‌اليوم الذي ولد فيه

- ‌على أنه ولد ليلًا

- ‌فضل ليلة المولد على ليلة القدر

- ‌إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم

- ‌رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم

- ‌موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌موت جده عبد المطلب

- ‌قصة بحيرى الراهب

- ‌قصة نسطورا الراهب

- ‌وقت البعثة

- ‌مخرجه إلى المدينة

- ‌مكثه بمكة بعد البعثة

- ‌قدومه المدينة

- ‌قيامه بالمدينة

- ‌عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم

- ‌سِنه عليه الصلاة والسلام

- ‌أزواجه عليه الصلاة والسلام

- ‌أولاده عليه الصلاة والسلام

- ‌أسماؤه عليه الصلاة والسلام

- ‌معنى محمَّد

- ‌معنى أحمد

- ‌خاتَم النُّبُوّة

- ‌تنبيه:

- ‌ تعريف البخاري

- ‌زهده وحسن سيرته

- ‌ثناء أشياخه عليه

- ‌ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه:

- ‌عجيب حفظه

- ‌فضائِلُ الجامعِ الصحيح

- ‌ما وقع له مع محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ

- ‌رجوعه إلى بخارى

- ‌مبادئ علم الحديث

- ‌سند المؤلف المتصل بالبخاري

- ‌ كتاب بدء الوحي

- ‌باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌تنبيه:

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌أنواع الرواية:

- ‌الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ

- ‌أقسام التدليس

- ‌أولها: تدليس الإِسناد:

- ‌والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ

- ‌الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد

- ‌رواية الأقران

- ‌إبدال الرسول بالنبي وعكسه:

- ‌الغريب

- ‌العزيز

- ‌المشهور

- ‌ المتواتر

- ‌ الفرد

- ‌الحديث الثاني

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌الحديث الثالث

- ‌وأما رجاله فستة

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجالُهُ ثلاثةٌ:

- ‌تنبيه:

- ‌الحديث الخامس

- ‌وأما رجاله فخمسة:

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌الحَديث السابع

- ‌الرجال أربعة:

- ‌ كتاب الإِيمان

- ‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإِسلام على خمس

- ‌2 - باب دعاؤكم إيمانكم

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله أربعة:

- ‌3 - باب أمور الإِيمان

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله ستة:

- ‌4 - باب المُسلم مَنْ سَلم المسلمون من لِسانِهِ ويده

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله ستة:

- ‌ورجال التعليقين خمسة:

- ‌5 - باب أي الإِسلام أفضل

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌6 - باب إطعام الطعام من الإسلام

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة:

- ‌7 - باب من الإِيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبَّ لنفسهِ

- ‌الحديث السادس

- ‌ورجال الطريقين ستة:

- ‌8 - باب حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإِيمان

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال الإِسناديْن سبعة:

- ‌9 - باب حلاوة الإِيمان

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌11 - باب

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌12 - باب من الدّين الفِرار مِنَ الفتن

الفصل: ‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس

عالم بالعلم، أو عالم بذاته، والتصديق بكونه مرئيًّا أو غير مرئي، فإن هذين التصديقين وأمثالهما غير داخلة في مسمى الإِيمان، فلهذا لا يَكْفُرُ منكر الاجتهاديات بالإِجماع، والتقييد بالجازم لإِخراج التصديق الظنيّ فإنه غير كافٍ في حصول الإِيمان، وقولهم فيه: مطلقًا أي: سواء كان لدليل أم لا، وقُيِّدَ بالإطلاق لدفع وَهْم خروج اعتقاد المقلد، فإن إيمانه صحيحٌ عند الأكثرين، وهو الصحيح، وتعبيرهم بمجرد التصديق، إشارة إلى أنه لا يُعتبر فيه كونه مقرونًا بعمل الجوارِح، ويأتي ما في ذلك من الخلاف قريبًا إن شاء الله تعالى، واقتصاره عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل الآتي على الإِيمان بالله وملائكته إلخ، ولم يَزِد الإِيمان بكل ما جاء به الرسول، إنما هو لاشتمال الإِيمان بالكتب عليه، لأن من جملتها القرآن، وفيه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فدل على وجوب اعتقاد كل ما جاء به، والعمل به. ثم قال:

‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإِسلام على خمس

"

وسقط لفظ باب من رواية الأصِيلِيّ، وقد وصل الحديث بعدُ تامًا، والإِسلام لغة الانقياد والخضوع، ولا يتحقق ذلك إلا بقَبُول الأحكام، والإذعان، وذلك حقيقة التصديق كما مر، قال الله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36] فالإيمان لا ينفك عن الإِسلام حكمًا، فهما مُتَّحدان في التصديق، وإن تغايرا بحسب المفهوم، إذ مفهوم الإِيمان تصديق القلب، ومفهوم الإِسلام أعمال الجوارح، فلا يَصِحُّ في الشرع أن يُحْكَمَ على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، ومن أثبت التغاير فقد يقال له: ما حكم من آمن ولم يُسلم، أو أسلم ولم يؤمن؟ فإن أثبت لأحدهما حكمًا ليس بثابت للآخر، فقد ظهر بطلان قوله، فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في تحقيق الإِسلام بدون الإِيمان، فالجواب: إن المراد أنهم انقادوا في الظّاهر دون

ص: 376

الباطن، فكانوا كمن تَلَفَّظَ بالشهادتين، ولم يُصدِّق بقلبه فإنه تجري عليه الأحكام في الظاهر، ثم قال المصنف:"وهو قولٌ وفِعلٌ. ويَزيدُ ويَنقُصُ"، وهو أي: الإِيمان، وفي رواية الكُشْميهَنيّ "قول وعمل"، وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين اطلقوا ذلك.

والكلام هنا في مُقامين، أحدهما: كونه قولًا وعملًا، والثاني: كونه يزيد وينقُص، فأما القول، فالمراد به النُّطْق بالشهادتين، وأما العمل، فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإِيمان، ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقادٌ بالقلب ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن نشأ لهم القول بالزيادة والنُّقصان، كما يأتي، والمُرْجِئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرّاميَّةُ قالوا: هو نُطق فقط، وذهبت الخوارج وكثير من المعتزلة إلى أنه العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، كما قلنا، أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإِيمان هو الإِقرار فقط، فَمَن أقَرَّ أُجْريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يُحْكم عليه بكفر، إلا إذا اقترن به فِعلٌ يدل على كفره، كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدلُّ على الكفر، كالفسق، فمن أطلق عليه الإِيمان، فبالنظر إلى إقراره، ومن نَفَى عنه الإِيمان، فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكُفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته.

وأثبت المُعتزلة الواسطة، فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.

وقال النَّوَوِيُّ: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن المؤمن الذي يُحْكَم بأنه من أهل القِبلة، ولا يُخَلَّد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإِسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القِبلة

ص: 377

أصلًا، بل يخلد في النار، إلا أن يعجِز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنِيَّة، أو غير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنًا بالاعتقاد من غير لفظ، وقد مر أن الإِيمان هو تصديق الرسول إلخ .. ، وهو الذي قال به جمهِور المحققين من المتأخرين، ومنهم الأشعرية وأكثر الأئمة كالقاضي مُحْتَجِّين بقوله تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ ثَبِّتْ قلبي على دينِكَ" فالإِيمان إنما هو التصديق بالقلب، والإِقرار شرطٌ لإِجراء الأحكام في الدنيا، كما أن التصديق بالقلب أمر باطن لا بد له من علامة، ولذا قال النَّويُّ ما مر عنه.

وأما المُقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإِيمان يزيد ويَنْقُص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين، وقالوا متى قَبِلَ ذلك كان شكًّا، قال الشيخ محيي الدِّين: والأظهر المُختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان أبي بكر أقوى من إيمان غيره، بحيث لا تعتريه شبهة، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، ولا شَكَّ أن حق اليقين أقوى من عين اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين، وقد قال علي: لو كُشِفَ الغطاء ما زادني يقينًا، وجه الدلالة منه هو أن نفي الشيء فرع ثبوته، وما نُقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في "مصنفه" عن سفيان الثَّورِيّ، ومالِك، والأوْزَاعي، وابن جُرَيج، ومَعْمر، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم، ونَقله أبو القاسم اللّالَكَائيّ في كتاب "السنة" عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق بن رَاهَوَيه، وروى بسندِه الصحيح عن البُخَاريّ، قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلفُ في أن الإِيمان قول وعمل، ويزيد وينقُص، وأطْنَبَ ابن أبي حاتم والّلالَكَائيّ في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصّحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإِجماع منهم، وأخرج الخلال

ص: 378

في كتاب "السنة" أن الشافعي وأحمد استدلّا على أن الأعمال تدخل في الإِيمان بآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] قال الشّافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية، وأخرج الحاكم، في "مناقب الشافعي" عن الرَّبيع قال: سمعت الشَّافعي يقول: الإِيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشّافِعِي من "الحِلْية" من وجه آخر عن الربيع، وزاد: يزيد بالطّاعة، وينقُص بالمعصية، ثم تلا:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] وكونه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لم يخالف فيه أحد، وما رُوِي عن مالك من أنه توقف عن القول بنقصانه، إنما هو خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج، ثم استدل المصنف على زيادة الإِيمان بثماني آيات من القرآن العظيم، مُصَرِّحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة.

قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وفي رواية: "وقال" بالواو، وهذه الآية في سورة الفتح، وقال تعالى في سورة الكهف:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] أي: بالتوفيق والتثبيت، وهذه الآية ساقطة في بعض الروايات.

وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] وفي رواية "يزيد الله" بإسقاط الواو، هدى أي: بتوفيقه، وهذه الآية في مريم.

وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: بين لهم ما يتقون، أو أعانهم على تَقْواهم، أو أعطاهم جزاءَها، وهذه الآية في القتال.

{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] أي: بتصديقهم بأصحاب النار المذكورين في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} وهذه الآية في المدثر.

وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

ص: 379

[التوبة: 124] أي: بزيادة العلم الحاصل من تدبرها، وبانضمام الإِيمان بها، وبما فيها إلى إيمانهم، وهذه في سورة براءة.

وقولُه جلّ ذكرُه: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] أي لعدم التفاتهم إلى من ثَبَّطَهم عن قتال المشركين، بل ثبت يقينهم بالله، وازداد إيمانهم، قال البيضَاوي: وهو دليل على أن الإِيمان يزيد وينقص، وهذه في آل عمران.

وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] أي لما رأوا الخطب أو البلاء في قصة الأحزاب، لم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله ومواعيده، وتسليمًا لأوامره ومقاديره.

ثم استدل المؤلف أيضًا على قَبُول الزيادة بقوله: "والحُبُّ في الله والبُغض في الله مِنَ الإِيمان" الحب مبتدأ خبره من الإِيمان، وجه الاستدلال به هو أن الحب والبغض يتفاوتان، وهما من الإِيمان، فتكون الزيادة والنقص في الإِيمان، وهذا التعليق لفظُ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي ذَرٍّ وأبي أُمَامة، ولفظ أبي ذَرٍّ:"أفضَلُ الأعمالِ الحُبُّ في الله والبُغض في الله" ولفظ أبي أُمامة: "مَنْ أحَبَّ لله وأبغَضَ لله وأعطى لله ومَنَعَ لله فَقَدِ استكمَلَ الإِيمانَ" وللتِّرمِذي من حديث مُعاذ بن أنَس نحو حديث أبي أُمامة، وزاد أحمد فيه:"ونَصَحَ لله" وزاد في أخرى "ويَعْمَل لِسانُهُ في ذكر الله" وله عن عمرو بن الجَمُوح: "لَا يَجدُ العبد صَريحَ الإِيمانِ حتّى يُحِبّ لله ويُبْغِض لله" ولفظ البراء عند ابن أبي شَيبَة "أوْثَقُ عُرى الإِيمان الحُبّ في الله والبُغضُ في الله" وقوله: "الحُبّ في الله" كلمة في أصلها للظرفية، ولكنها هنا للسببية، أي: بسبب طاعة الله تعالى، ومعصيته، كقوله تعالى:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] وقوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} [النور: 14] وقوله عليه الصلاة والسلام: "دَخَلتِ امرأة النَّار في هِرَّة" أي: بسبب هرة.

ص: 380

ثم ذكر المؤلف ستة آثار معلقة كلها بصيغة الجزم الدالة على صحتها.

الأول: وكتبَ عمر بن عبد العزيز إلى عَدِيّ بن عَدِيّ: إنَّ للإِيمان فَرائضَ وشرائعَ وحُدودًا وسُنَنًا، فمَنِ استكملها استكمَل الإِيمان، ومَنْ لم يستكملها لم يَسْتَكْمِل الإِيمان" فإن أعِش فسأُبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمُت فما أنا على صُحْبَتِكم بحريص.

وقوله: "إن للإِيمان" كذا ثبت في معظم الروايات باللام، و"فرائض" بالنصب على انها اسم إن، وفي رواية ابن عساكر:"فإن الإِيمانَ فرائضُ" على أن الإِيمان اسم إن، وفرائض خبرها.

وقوله: "وشرائع" أي عقائد دينية.

وقوله: "وحُدودًا" أي منهيات ممنوعة.

وقوله: "وسُنَنًا" أي مندوبات.

وقوله: "فإن أعِش فَسَأبيِّنُها لكُم" أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم، مجملة، وليس في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الحاجة هنا لم تتحقق، والغَرَض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول: إن الإِيمان يزيد وينقص، حيث قال: استكمل ولم يستكمل، فالمراد هنا أنها من المكمِّلات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإِيمان إيمانا.

والتعليق المذكور وصله أحمد بن حَنْبل، وأبو بَكر ابن أبي شَيْبة في كتاب الإِيمان لهما، من طريق عيسى بن عَاصم، وأخرج أبو الحسن عبد الرحمن بن عُمر بن يزيد رُسْتَه في كتاب الإِيمان تأليفه بإسناد صحيح.

ورجاله اثنان:

الأول: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن

ص: 381

أميّة بن عبد شمس الأُمَوي القُرَشي المدني ثم الدِّمَشقي، أمير المؤمنين، الإِمام العادل، أحد الفقهاء الرّاشدين، أمه أم عاصم حفصةُ بنت عاصم ابن عُمر بن الخطاب.

قال ابن سعد: ولد سنة ثلاث وستين، وكان ثقة مأمونا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمام عَدْلٍ. وقال عبد الله بن داود: ولد مَقْتَل الحُسين سنة إحدى وستين.

وذكر سَعيد بن عُفير أنه كان أسمر دقيق الوجه، نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته أثر نَفْحَة دابَّةٍ، قد وَخَطَه الشيب، وقال ضَمْرَةُ بن رَبِيعة: حدثنا أبو علي ثَرْوان مولى عمر بن عبد العزيز أنه دخل اصْطَبْل دوَابِّ أبيه وهو غلامٌ فضربه فرسٌ فَشَجّه، فجعل أبوه يمسح عنه الدم، ويقول: إن كنت أشَجّ بني أمية إنك لسعيد.

ورُوِي عن الضّحاك بن عثمان، أن عبد العزيز بن مروان ضم ابنه عُمر إلى صالح بن كَيْسان، فلما حجّ أتاه، فسأله عنه، فقال: ما خَبَرْتُ أحدًا الله أعظم في صدره من هذا الغلام.

وقال داود بن أبي هِنْد: دخل علينا عُمر بن عبد العزيز من هذا الباب، فقال رجل من القوم: بَعَثَ إلينا الفاسقُ بابنه هذا يتعلم الفرائض والسُّنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفةً، ويسير سيرة عمر بن الخطاب، قال داود: فوالله ما مات حتى رأينا ذلك فيه.

وقال مَالِك بن أنَس: كان سعيد بن المُسِّيب لا يأتي أحدًا من الأمراء غيره. وقال مجاهد: أتيناه نُعَلِّمُه فما بَرحْنا حتى تعلَّمنا منه. وقال مَيْمون ابن مِهران: ما كانت العلماء عند عُمر بن عبد العزيز إلا تلامذةً. وقال ايوب: لا نعلمُ أحدًا ممن أدْرَكنا كان آخَذَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وقال أنس: ما رأيت أحدا أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذا الفتى، وقال محمد بن علي بن الحسين: لكل قوم نَجِيبةٌ ونجيبةُ بني أمية عمر بن عبد العزيز، وإنه يُبْعث يوم القيامة وحده، وروي عن رَباح بن عُبيدة،

ص: 382

قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، وشيخ يتوكأ على يده، فسألته، فقال: رأيتَهُ؟ قلت: نعم، قال: ما أحسِبُك إلَّا رَجُلًا صالحًا، ذلك أخي الخَضِر، أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة، وأني سأُساعَدُ فيها، وقال ابن عَوْن: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قام على المنبر، فقال: أيها الناس، إن كرهتموني لم أقُم عليكم، فقالوا: رضينا، فقال ابن عون: الآن قد طاب الأمر، ولما ولي الخلافة سُمِع صوت لا يُدْرى قائله يقول:

مِن الآن قَد طابَتْ وقَرَّ قَرَارُها

عَلَى عُمَر المَهدِيِّ قَامَ عَمُودُها

وهو أول من اتَّخَذ دار الضيافة، وفرض لابن السبيل، وأزال ما كانت بنو أمية تذكر به عليًّا على المنابر، وجعل مكانه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية، وكتب إلى عماله أن لا يُقَيِّدوا مسجونًا بقيدٍ فإنه يَمْنعُ من الصلاة، وكتب إليهم: إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم، فتذكروا قدرة الله تعالى عليكم، ونَفَاد ما تأتون إليه، وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بسببهم، وكتب إلى عامله عَدِيِّ بن أرطأة بالبَصْرة: عليك بأربع من السنة فإن الله تعالى يُفْرِغُ فيها الرحمة إفراغا: أول ليلةٍ من رِجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتا العيد.

ولما امتنع من الخِلافة، وخطب على الناس بذلك، ولم يرضَوا سواه، خطبهم كلى المِنبر، فقال: أيُها الناس، إني لا أعطي أحدًا باطلًا، ولا أمنع أحدًا حقًا، أيها الناس، من أطاع الله وجَبَت طاعته، ومن عصى الله وجَبَت معصيتُهُ، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، ثم نزل دار الخلافة، وهتك السُّتور، وأمر ببيعها، وجعل ثمنها في بيت المال، ثم ذهب لِيَقِيل، فقال له ولده عبد الملك: يا أبت ما تريد أن تصنع؟ قال: أي بُنَيّ، أقيل. قال: تَقِيلُ ولا تَرُدُّ مظالم المسلمين؟ قال: بنيَّ إني سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيشَ إلى الظهر؟ قال: ادنُ مني، فدنا منه، فقبله، وقال: الحمدُ لله

ص: 383

الذي أخرج مني من يُعينُني على ديني، فخرج وأمر مناديًا ينادي: من له مظلمة فَلْيرفعها، فأتاه ذِمِّيٌّ من أهل حمص، وقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله، قال له: وما ذاك؟ قال له: إن العبّاس بن الوَليد اغتَصَبنِي أرضي، وكان العبّاس حاضرًا، فقال له: ما تقول يا عباس؟ قال له: إن الوليد أمير المؤمنين اقتطعها لي، وهذا كتابه، فقال للذِمّي: ما تقول؟ قال: أسألك كتاب الله؟ فقال: كتاب الله أحق أن يُتَبَع من كتاب الوليد، فردها عليه، ثم جعل لا يَدَع شيئًا مما كان بأيدي أهل بيته من المظالم إلَّا رَدّه مظلمةً مظلمةً، ولما استُخْلِف قُوِّمَت ثيابه وما يتعلق به من الملبوس فعدل اثني عشر درهمًا.

وحدث سليمان بن دَاود أن عَبدَة بن أبي لُبابة بعث معه بدراهم ليفرِّقها في فقراء الأمصار، قال: فأتيتُ الماجشُون، فسألته، فقال: ما أعلم أن فيهم اليوم محتاجا، أغناهُم عمرُ بن عبد العزيز. وقال البُخاريُّ: قال مالك، وابن عيينة: عمر بن عبد العزيز إمام. ورُوِي عن فاطمة بنت عبد الملك أنها قالت: ما اغتسل عُمر رضي الله تعالى عنه منذ وَلِي الخلافة لا من حُلُم ولا من جَنَابة، نهارُه في أشغال الناس وردِّ المظالم، وليله في عبادة ربه، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:

نَهارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وغَفْلةٌ

ولَيلُك نَوْمٌ والرَّدى لَكَ لازمُ

يَغُرُّكَ مَا يَفْنَى وتَفْرَحُ بالمُنى

كَمَا غَرَّ بالَّلذات في النَّومِ حَالِمُ

وشُغلُكَ فيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ

كذلك في الدُّنيا تَعِيش البَهائمُ

ولما وُضِعَ في قبره هَبَّت ريح شديدة، فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خطٍّ فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم، براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار، فأخذوها ووضعوها في أكفانه، وقيل: سبب البراءة هو أنه وقع في زمانه غلاءٌ عظيمٌ، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلًا منهم لِخِطابِه، فتقدم إليه، وقال: يا أمير المؤمنين، إنا وفدنا إليك

ص: 384

من ضرورة عظيمةٍ في بيت المال، ومالُه لا يخلو إما أن يكون لله، أو لِعباده، أو لك، فإن كان لله فهو غنيٌّ عنه، وان كان لعباده فآتِهم إياه، وإن كان لك فتصدَّق به علينا، إن الله يُجْزي المتصدقين، فتغرغرت عينا عمر وقال: هو كما أمرت، وأمر بقضاء حوائجهم، فقُضِيت، وهَمَّ الأعرابيُّ بالانصراف، فقال له عمر: أيها الرجل، كما أوصلت حوائج عباد الله إليّ، فأوصل حاجتي وارفع فاقتي إلى الله تعالى، فقال الأعرابي: إلهي اصنع بعُمَر بن عبد العزيز كصنيعه في عبادك، فما استَتَمَّ كلامه حتى ارتفع غيمٌ عظيمٌ، وأمطرت السماء مطرًا كثيرًا، فجاء في المطر بَرَدَةٌ كبيرةٌ، فوقعت على جرّة، فانكسرت، فخرج منها كغدٌ مكتوبٌ فيه: هذه براءةٌ من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار.

يقال: إنه شدد على أقاربه، وانتزع كثيرًا مما في أيديهم، فتبرَّموا به، وسمّوه، ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه، وقال له: وَيْحَك ما حملك على أن سقيتني السُّم؟ قال: ألف دينار أُعطِيتها، قال: هاتِها، فجاء بها، فوضعها في بيت المال، وقال لخادمه: اخرُج بحيث لا يراك أحدٌ.

وكان لا يأخذ من بيت المال شيئًا، وقيل له: إن عمر بن الخطاب كان يأخذ درهمين، فقال: إن عمر لم يكن له مال، وأنا مالي يُغنيني.

واشتَرَى قبره بدَيْر سمعان من صاحبه بأربعين درهمًا، وكان مرضه تسعة أيام، ومات بدَيْر سمعان يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومئة.

تولى الخلافة سنة تسع وتسعين، ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر كخلافة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه، وأوصى أن يُدْفَن معه شيء كان عنده من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وأظفاره، وقال: إذا مُتُّ فاجعلوه في كفني، ففعلوا ذلك، ودَيْر سمعان هو المعروف بدَير النَّقيرة من عمل مَعَرَّة النُّعمان، فقبره هو هذا المشهور هُناك، ولما جاء نعُيه قال الحسن

ص: 385

البصري: مات خير الناس.

روى عن: أنَس، والسّائب بن يزيد، وعبد الله بن جَعفر، ويوسف ابن عبد الله بن سلّام، وخولة بنت حَكِيم. مرسل، واستوهب من سَهْل ابن سعد قدحًا شرب فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وروي عن عُروة بن الزُّبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والربيع بن سَبْرَة الجُهَنِيِّ، وعدة.

وروى عنه: أبو سَلَمَة بن عبد الرحمن وهو من شيوخه، وابناه عبد الله وعبد العزيز، وأخوه زَبّان بن عبد العزيز، وابن عمه مَسْلَمَةُ بن عبد الملك ابن مروان، والزُّهْريُّ، وأبو بكر محمَّد بن عُمر بن حَزْم، وأيوب السَّخْتِياني، وعَنْبَسةُ بن سعيد بن العاص، وآخرون.

والأُمَويُّ في نسبه نسبةً إلى أُمَيَّةَ، ومر الكلام عليه في تعريف شُعيب ابن أبي حمزة، وليس له في البُخاري سوى حديث واحد رواه في الاستقراض من حديث أبي هُريرة في الفلس.

وفي الرواة عمر بن عبد العزيز بن عِمْران بن مِقْلاص روى له النَّسائي، وفيهم في غير الستة عمر بن عبد العزيز الأنصاري مولى زيد بن ثابت، روى عنه أبو داود في المراسيل، وفيهم عمر بن عبد العزيز مولى بني هاشم، روى له الخطيب، وأما عمر فكثير لا يُحصى.

تنبيه: قال الإِمام أحمد بن حنبل يُروى في الحديث "إن الله يبعثُ على رأس كل مئة عام مَن يُصَحِّح لهذه الأمة دينَها" فنظرنا في المئة الأولى. فإذا هو عمر بن عبد العزيز.

قال النووي: في "تهذيب الأسماء" حمله العلماء في المئة الأولى على أنه عمر، وفي الثانية على أنه الشافعي، وفي الثالثة على ابن شُرَيح، وقال الحافظ ابن عساكر: هو أبو الحسن الأشعري، وفي الرابعة على ابن أبي سَهْلٍ الصُّعْلُوكيّ، وقيل: القاضي الباقِلّاني، وقيل: أبو حامد الإِسْفَراييني، وفي الخامسة على الغزّالي.

ص: 386

قال الكِرْماني: لا مطمح لليقين فيه فللحنفِيّة أن يقولوا: هو الحسن ابن زياد. في الثانية، والطَّحاوي في الثالثة، وأمثالهما، وللمالكية: إنه أشهب في الثانية، وهلم جرا، وللحنابلة: إنه الخلّال في الثالثة، والزاغوني في الخامسة، إلى غير ذلك، وللمحدثين إنه يحيى بن مَعِين في الثانية، والنّسائي في الثالثة، ونحوهما، ولأولي الأمر: إنه المأمون، والمُقتدر، والقادر، وللزُّهَاد: إنه معروفٌ الكَرْخِيُّ في الثانية والشِّبْليُّ في الثالثة، ونحوهما، وإن تصحيح الدين متناول لجميع أنواعه، مع أن لفظة "من" تحتمل التعدد في المصحح، وقد كان قبيل كل مئة مَنْ يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت وهو حيٌّ عالم مُشار إليه.

الثاني: عديُّ بن عَدِي -بفتح العين فيهما- ابن عَمِيرة -بفتح العين- ابن فَرْوة بن زُرَارة بن الأرْقَم بن النُّعمان بن عَمرو بن وَهْب بن رَبيعة بن الحارِث بن عَدِيّ بن رَبيعة بن مُعَاوية الكِنْدِيُّ أبو فَرْوَةَ الجَزَرِيُّ التابعيُّ.

قال البخاري: عَدِي بن عَدِي سيد أهل الجزيرة، وقال ابن سعد: كان ناسكًا فقيها، وهو صاحب عمر بن عبد العزيز، وولي الجزيرة وأرْمِينيةَ وأذْربيجان لسليمان، وكان ثقةٌ إن شاء الله. وقال عبد الله بن أحمد: لا يُسألُ عن مثله، وقال ابن معِين، والعِجليُّ، وأبو حاتم: ثقة. وعن مَسلَمَة بن عبد الملك قال: إن في كِندةَ لثلاثة إنَّ الله لَيُنَزِّلُ بهمُ الغيثَ وينصرُ بهم على الأعداء: رَجاءُ بن حَيْوة، وعُبَادة بن نُسَي، وعَدِيُّ بن عَدِي. وقال عبد الله بن أحمد، عن أحمد: لا يُسأل عن مثله. وقال ابن سعد: كان على قضاء الجزيرة أيام عمر بن عبد العزيز.

وقد فَرَّق غيرُ واحد، منهم ابن حبان، بين عَدِيّ بن عدي الكِندي الذي روى عنه أبو الزُّبير، وبين صاحب هذه الترجمة، والله تعالى أعلم.

روى عن: أبيه، وعمه العُرس بن عَميرة وهما صحابيان، وأبي عبد الله الصُّنابِحي، ورجاء بن حَيْوة، والضّحاك بن عبد الرحمن بن عَرْزَب.

ص: 387

وروى عنه: أيوب، وجَرير بن حازِم، وأبو الزُّبير، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، ومَيْمُون بن مهْران الجزَريّ وغيرهم.

روى له: أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجة، وليس في "الصحيحين" و"الترمذي" شيء له.

مات سنة عشرين ومئة.

والكِندِيُّ في نسبه نسبةً إلي كِندة بكسر الكاف على المشهور، قال في "تاج العروس": قال شيخنا: ورأيتُ من ضَبَطَه بالفتح أيضًا في كتب "الأنساب" قال: وسمعت أهل عُمان والبَحْرين الكِنْدِيّين، يقولون كُنْدة بالضم، وهو لقب ثَوْر بن عُقَير بن عَدِيّ بن الحارث بن مرة بن أُدَد أبو حيّ من اليمن، وقال الهَمْداني: هو ثَوْر بن مُرْتع بن معاوية، وقيل: ثَوْر ابن عُبَيد الحارث بن مُرَّة، ونقل عن العباب: ثور بن عَنْبس بن عَدِيّ، وفي "روض" السُّهَيْلي: إن كِندة بنو ثَوْر بن مُرْتَع بن أُدَد بن زَيْد، ويقال: إنهم بنو مُرْتَع بن ثَوْر، وقد قيل: إن مُرْتعًا هُو ثور، وكندةُ أبوه. وقال ابن خلكان: إن مُرْتعًا كمُحْدث هو والد ثَوْر، وإن ثَوْر بن مُرْتع هو كِندة، وفي "الصحاح" هو كندة بن ثَوْر، قال شيخنا: والذي جزم به أكثر شراح "الحماسة" و"ديوان امرئ القيس" أن ثورًا ولد كندة لا لقبه، قال ابن دُرَيد: سمي به لأنه كَنَدَ أباه النعمة، ولحق بأخواله. قيل: أصله من قولهم أرض كنود، أي: لا تنبت شيئًا، وقيل: لكونه كان بخيلًا، وقيل: لأنه كَنَدَ أباه أي: عَقَّه.

والجَزَري في نسبه نسبةً إلى الجزيرة واحدة جزائر البحر، سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض، والجزيرة أرض بالبصرة ذات نخيل، بينها وبين الأُبُلَّةِ وجزيرة قُور -بضم القاف- وهو ما بين دجلة والفرات، وبها مدن كبار، ولها "تاريخ" ألّفَهُ الإِمام أبو عَرُوبة الحَرّاني، وإذا أطلقت الجزيرة ولم تُضف إلى العرب فإنما يُراد بها هذه.

ص: 388

وهذا الأثر مع كونه معلقًا يسمى مقطوعًا، فالمعلق مر الكلام عليه في الرابع، والمقطوع هو قول التابعي وفعله إذا خلا عن قرينة الرَّفْع والوَقْف، ومثل التابعي من دونه، يُجْمع على مقاطيع ومقاطع، والشافعيُّ يعبر بالمقطوع عن المُنْقَطِع، وهو ما لم يتصل إسناده كما يأتي قريبًا إن شاء الله، والمقطوع من مباحث المتن، والمنقطع من مباحث الإِسناد، وعكس الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون البَرْدَعي ما قال الشافعي فجعل المنقطع هو قول التابعي.

والبَرْدَعيُّ نسبة إلى بَرْدَعة بفتح الباء والدال المهملة، بلدة من أقصى بلاد أذْرَبيجان، مُعَرّب برده دان، لأن مَلِكًا منهم سبَا سَبْيًا وأنزلهم هنالك، وإلى المقطوع أشار العِرَاقيُّ، فقال:

وَسَمَّ بالمَقْطُوع قَوْلَ التّابِعِي

وفِعْلَه وقد رَأى للشّافِعِيّ

تعبِيرَهُ بِهِ عَنِ المُنقَطَعِ

قُلْتُ وعَكْسُهُ اصْطِلَاحُ البَرْدَعي

وإذا علمت الصحيح في المقطوع، ومغايرته للمنقطع، فلا بدَّ من معرفة المنقطع للتمييز بينهما، وينشأ من ذِكره ذكر المُعْضَل.

فالمُنقَطِع هو ما سَقَط من سنده راوٍ واحد غير الصحابي، وإن تَعَدَّدَ سقوطُه في مواضع بحيث لا يَزيد السّاقِط منها على واحدٍ، فيكون منقطعًا في مواضع، فخرج بالواحد المُعضل، مع أن الحاكم يسميه أيضًا منقطعًا، وخرج بغير الصحابي المُرْسَل كما مر تعريفه. وقيل: المُنقَطِع ما لم يَتَّصِل سنده، ولو سقط منه أكثر من واحد، فَيَدْخُل فيه المرسل، والمُعْضَل، والمُعَلّق. قال ابن الصلاح: إن هذا هو الأقرب معنى لا استعمالًا، لأن الانقطاع ضد الاتصال، فيصدق بالواحد وبالجميع وبما بينهما، وقد صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم، ولكن أكثر استعمالهم القول الأول، فأكثر ما يُسْتَعْمَل فيه المُنقطِع ما رواه مَنْ دون التابعي عن الصحابي، كمالك عن ابن عمر، وأكثر ما يُستعمَل فيه المُرسَل ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 389

والمُعْضَل بفتح الضاد ما سقط منه اثنان متواليان من أي موضع كان، وإن تعددت المواضع، كان الساقط الصحابي والتابعي أو غيرهما، فيدخل فيه قول المصنفين: قال النبي صلى الله عليه وسلم. كما قيل بمثله في المُرْسَل، والمُنْقَطِع، والمُعْضَل اسم مفعول من أعْضَلَه فلان، أي: أعياه، فهو مُعْضَل، فكان المحدث الذي حدث به أعضله وأعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه، ويقال: المعضِل للمشكل أيضًا، وهو حينئذ بكسر الضاد وبفتحها، على أنه مشترك، ومن المُعْضَل حذف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابي، ووقف المتن. على التابعي، كقول الأعمش، عن الشعبي: يُقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا؟ فيقول: ما عَمِلته، فيُخْتَم على فيه، فتنطِقُ جوارحُه ولسانه، فيقول لجوارحه: أبْعَدَكُنَّ الله ما خاصَمْت إلا فيكن، رواه الحاكم، وقال عُقْبَة: أعْضَلَهُ الأعمش، وهو عند الشَّعبيّ متصل مسند، رواه مسلم من حديث فُضَيل بن عُمر، عن الشَّعبِيّ، عن أنَس، قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فضَحِكَ، فقال:"هَلْ تَدرونَ مِمَّ ضَحِكْتُ؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"مِنْ مُخاطَبَة العبدِ ربَّهُ يوم القيامة، يَقُول: يا ربِّ ألَم تُجِرْني من الظّلم؟ فيقول بلى، فقال: فإني لا أُجِيزُ اليومَ على نفسي شاهدًا إلا مني، فيقول: كفى بنفسِك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتِبين اليوم عليك شهودًا، فيُخْتَم على فيه، ثم يقال لأركانه: "انطِقِي". الحديث، قال ابن الصَّلاح، وجَعْل هذا القسم من المعضل جيدٌ حسنٌ، لأن هذا الانقطاع بواحدٍ مضمومًا إلى الوَقْف يَشتَمِل على الانقطاع باثنين، الصحابيّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك باستحقاق اسم الإِعضال أولي، وأشار العراقيُّ إلى المُنقَطِع والمُعْضَل بقوله:

وَسَمِّ بالمنْقَطِع الّذي سَقَطْ

قَبْلَ الصَّحابِيِّ بهِ راوٍ فَقَطْ

وقِيل ما لَمْ يَتَّصِل، وقَالَا

بأنَّهُ أقْرَبُها اسَتِعْمالا

والمُعْضَلُ السّاقِطُ منه اثْنانِ

فَصَاعِدًا ومِنْهُ قسمٌ ثانِ

حَذْفُ النَّبيّ والصَّحابيِّ معا

وَوَقفُ مَتْنِهِ على مَنْ تَبعَا

ثم ذكر البخاري بعد هذا الأثر: وقال إبراهيم {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}

ص: 390

أي: ليزداد بصيرة وسُكونًا بمُضامَّةِ العيان إلى الوحي والاستدلال، فإن عَيْن اليقين فيه طُمَأنينة ليست في علم اليقين، ففيه دِلالة على قَبُول التصديق اليقيني للزيادة، وعند ابن جَرير بسند صحيح إلى سعيد بن جُبَير أي: يزداد يقيني، وعن مُجَاهد: لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أن نبينا عليه الصلاة والسلام قد أُمِر باتّباع مِلّتِه كان كأنه ثبت عن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وإنما فصل المصنف بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص، ومن هذه بالإِشارة، وإبراهيم أحد أولي العزم، ومنه جميع الأنبياء ما عدا ثمانية، يجمعهم قولُ القائل:

وعَنْه حاد آدمٌ شيثُ الوَصي

إدريسُ نوحٌ هودُ يونُسٌ يَصِي

لُوطٌ وصَالِحٌ فذي ثمانُ

حَادُوا عن الخَلِيلِ واسْتَبَانوا

وهو ابن آزَرَ، وآزَرُ هو تارح بفتح الراء المهملة، وفي آخره حاء مهملة، فآزَرُ اسم، وتارَح لقبٌ له، وقيل: عكسه، قال ابن هشام: هو إبراهيم بن تارَح وهو آزرُ بن ناحُور بن أسْرَع بن أرْغُو بن فَالح بن شَالخْ بن أرْفَخَشْد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أحنج بن يرد بن مهلاييل ابن قاني بن فانوش بن شِيْت بن آدم عليه السلام، ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرنا، وإن اختلفوا في ضبْطها، وإبراهيم اسم عِبْرانيّ، معناه: أبٌ رَحيم، وكان آزَرُ من أهل حَرّان، ووَلَدَ إبراهيم بكوثا من أرض العراق، وكان يَتَّجِرُ في البَزِّ، وهاجر من أرض العراق إلى الشام، وبلغ عمره مئة وخمسًا وسبعين سنة، وقيل مئتي سنة، ودُفن بالأرض المقدسة، وقبرُه معروفٌ بقرية حَبْرون بالحاء المهملة، وهي التي تسمى اليوم ببلدة الخليل.

الأَثر الثاني: وقال مُعاذ: اجْلِس بِنا نْؤمِن ساعةً. أي نزداد إيمانا بذكر الله، لأن معاذًا كان مؤمنًا، أيَّ مُؤمن.

وقال النَّووي معناه: نتذاكر الخير، وأحكام الآخرة، وأمور الدين، فإن ذلك إيمان. وقال أبو بكر بن العَرَبي: لا تَعَلُّق فيه للزيادة، لأن معاذًا

ص: 391

إنما أراد تجديد الإِيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضًا، ثم يكون أبدًا مجددًا كلما نَظَر أو فكر. قال في "الفتح": وما نَفَاه أوّلا، أثبته آخرًا، لأن تجديد الإِيمان إيمان، أي: فيكون زيادةً في الإِيمان الأصلي.

وفي الأثر إبهام المأمور بالجلوس، وهو الأسْوَدُ بن هِلال كما يأتي قريبًا، وهُو المُحَاربي الكُوفي أبو سلام، ذكره البارودي وجماعة ممن ألف في الصحابة لإِدراكه، وقال ابن سعد عن الأسود: هاجرت زَمَنَ عُمر فذكر قصة ذكرها ابن حِبّان، وقال أحمد: ما علمت إلَّا خيرًا، وقال ابن مَعِين والنَّسائي: ثقة، وقال العِجْلِيّ: كان جاهليًّا، وكان رجلًا من أصحاب عبد الله. روى عن معاذ بن جَبَل، وعمر وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه أشْعَثُ بن أبي الشَّعْثَاء، وأبو إسحاق السَّبِيعيُّ، وإبراهيم النَّخَعِيُّ، وغيرهم. مات زمن الحجّاج بعد الجَمَاجِم، قيل: سنة أربع وثمانين.

وهذا التعليق وصله أحمد، وأبو بكر أيضًا بسند صحيح إلى الأسود ابن هِلال، قال: قال لي معاذٌ .. الخ.

ومعاذ: هو مُعَاذ بن جَبَل بن عَمرو بن أوْس بن عائِد بن عَدِيّ بن كَعب ابن عمرو بن أدي بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم بن عَدِيّ ابن بابي بن تميم بن كعب بن سَلَمَة، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخَزْرَجي، الإِمام المقدم في علم الحلال والحرام.

قال الواقِديّ وغيره: كان معاذ بن جبل طُوَالًا، حسن الشَّعر أكحل العينين، أبيض، بَرَّاقَ الثَّنايا لم يولد له قَطُّ، وقيل: إنه وُلد له ولدٌ يُسَمى عبد الرحمن، وإنه قاتل معه يوم اليَرْموك، وبه كان يُكْنى أبا عبد الرحمن، وهو أحد السبعين الذين شَهِدوا العقبة من الأنصار، وآخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مَسْعود، وقيل آخى بينه وبين جَعْفر بن أبي طالب، شَهِد العقبة، وبدرًا، والمشاهد كلَّها.

وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيًا إلى الجَنَد من اليمن، يُعَلِّم الناس شرائع الإِسلام، ويقضي، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين

ص: 392

باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سَعيد على صَنْعاء، والمهاجر بن أبي أميّة على كِندة، وزياد بن لَبيد على حَضْرَمُوت، ومعاذ بن جَبَل عَلى الجَنَد، وأبي موسى الأشْعَري على زَبِيد وزَمْعَة وعَدَن والساحل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن:"بِمَ تقضي؟ " قال: بما في كتاب الله، قال:"فإن لَمْ تجِد؟ " قال: بما في سنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد؟ " قال أجتهد رأيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يُحِبُّ رسولُ الله".

قال ابن إسحاق: والذين كَسَروا آلهة بني سَلَمَة معاذُ بن جبل، وعبد الله بن أُنيس، وثَعْلبة بن غنمة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلَمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بن جَبَل" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي معاذُ بن جَبَلٍ يوم القيامة إِمامَ العلماءِ".

وروي عن خالد بن مَعْدان، قال: كان عبد الله بن عُمر، يقول: حدِّثونا عن العاقِليْن العالميْن، قيل: من هما؟ قال: هما معاذُ بن جَبَل وأبو الدَّرْدَاء. وروى الشعبيُّ عن فَرْوة الأشجعِيّ، قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود، فقال: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يَكُ من المشركين.

فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] فأعاد قوله: إن معاذًا

فلما رأيته أعاد عرفت

أنه تَعَمَّد الأمر فسكت، فقال: أتدري ما الأمة؟ ومن القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلَم الخيرَ ويُؤتَمُّ به ويُقتدى، والقانِتُ: المطيعُ لله تعالى، وكان مُعاذ بن جَبَل معلمًا للخير مطيعًا لله تعالى ولرسوله. وَوَرَدَ: يأتي معاذٌ يومَ القيامة أمام الناس برَتْوَة، أي: بمهلة، وهي بفتح الراء، وسكون التاء، وواو مفتوحة، وعَدَّه أنَس بن مالك من الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في "الصحيح". وفيه عن عبد الله بن عَمرو:"اقْرَؤوا القرآن مِن أرْبَعَة"، فذكره فيهم.

ص: 393

وكتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحين بعَثه إلى أهل اليمن: "بَعَثْتُ لكم خَيْرَ أهْلي" وقال له صلى الله عليه وسلم حين بعثه إليه: "إنىِ قد عَرَفتُ بلاءك في الدِّين، والذي قد رَكِبَك في الدَّيْن، وقد طيبت لك الهدية، فإن أُهْدي لك شيءٌ فاقْبَل"، فرَجَع حين رَجَعَ بثلاثين رأسًا أُهْديت له، وقال له لما ودعه:"حفِظَك الله من بين يديك، ومن خلفِك، وعن يمينِك، وعن شِمالِك، ومن فوقِك، ومن تحتِك، ودَرَأ عنك شرور الإِنْسِ والجِنِّ".

ورُوي عن كَعب بن مالك، قال: كان معاذ بن جَبل رَجُلًا شابًّا جميلًا، من أفضل شباب قومه، سَمْحا لا يُمسك. فلم يزل يدان حتى أغلق ماله كله من الدين، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطلب إليه أن يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا لمعاذ من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله كله في دينه، حتى قام معاذ بغير شيءٍ، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى طائفة من أهل اليمن لِيَجْبُرَهُ فمكث معاذ باليمن أميرا، وكان أول من اتَّجَر في مال الله هو، فمكث حتى أصاب وحتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم قال عُمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل، فدع له ما يُعِيشُهُ وخذ منه سائره، فقال له أبو بكر: إنما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليَجْبُرَه ولست بَآخذ منه شيئًا إلا أن يُعطيني، فانطلق إليه عُمر إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك لمُعاذ، فقال له معاذ: إنما أرسلني إليه النبي صلى الله عليه وسلم لِيَجْبُرَني، ولست بفاعل، ثم أتى معاذٌ عمرَ، وقال: قد أطَعْتُك، وأنا فاعل ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في حَوْمَة ماء قد خشيت الغرق، فخلصتني منه يا عمر، فأتى معاذٌ أبا بكر، فذكر ذلك كله له، وحلف أنه لا يكتُمُه شيئًا، فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئًا، قد وهَبْته لك، فقال عمر: هذا حين حَلَّ وطاب، فخرج معاذٌ عند ذلك إلى الشام.

وفي "سنن" أبي داود عنه، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:"إني لأُحِبُّكَ" الحديث، في القول دُبُرَ كل صلاة.

ص: 394

وقال أبو نُعَيم في "الحِلية" إمام الفقهاء، وكنز العلماء، وكان من أفضل شباب الأنصار حِلمًا وحياءً وسَخاءً، وكان وسيمًا جميلًا.

وعن الزُّهريِّ قال: أصاب الناسَ طاعون في الجابية، فقام عمرو بن العاص، فقال: تَفَرَّقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار، فقام مُعاذ بن جَبَل، فقال: لقد كنت فينا وأنت أضلُّ من حمار أهلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"هُو رَحْمَةٌ لهذِه الأُمَّة" اللهم اذكر معاذًا، وآل معاذٍ فيمن تذكره بهذه الرحمة. وقال عمر: عَجَزَتِ النِّساء أن يلِدْن مثل معاذٍ، ولولا معاذٌ لَهَلَك عمر.

له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة وسبعة وخمسون حديثًا، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد.

روى عنه ابن عبّاس، وأبو قَتادة، وجَابرٌ، وأنس، وابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي أوْفَى، وأبو أُمَامة الباهِليُّ، وأبو ثَعلبة الخُشَني، وعبد الرحمن بن سَمُرة العَبْشَمِيّ، وجابر بن سَمُرة السُّوائي.

وروى عنه: جمع من كبار التابعين،

استعمله عمر على الشام حين مات أبو عبيدة، فمات من عامه ذلك بالطاعون، فاستعمل موضعه عَمرو بن العاص، والطاعون الذي مات به هو طاعون عَمْواس بفتح العين المهملة وسكون الميم، موضع بين الرملة وبيت المقدس، وكان سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

وفي سنة سبع عشرة رجع عمر بن الخطاب من سرغ بجيش المسلمين ليلًا يقدمهم على الطاعون، ثم عاد في العام المقبل سنة ثمانين عشرة حتى أتى الجابية، فاجتمع إليه المسلمون، فَجَنَّدَ الأجْناد، ومَصَّرَ الأمْصار، وفرضَ الأُعْطِية والأرزاق ثم قَفَل إلى المدينة.

وليس في الصحابة معاذُ بن جَبَل سواه، وأما معاذ فكثيرٌ نحو أحد

ص: 395

وعشرين، وفي الرواة أيضًا كثير.

وهذا الأثر المعلق يسمى عند أهل المصطلح بالموقوف، وهو ما وقف على الصحابي، ولم يُتَجاوَز به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا مع خُلُوِّه من قرينة الرَّفْع، وسواء اتصل السند بالصحابي أو انقطع، وبعض أهل الفقه من الشافعية يسمون الموقوف أثرًا، والمرفوع خبرًا، وأما المحدثون، فقد قال النَّوَوِيُّ: إنهم يطلقونه على المَرْفُوع والمَوْقُوف، وإن وُقِفَ الأثر على غير الصحابي من تابعي أو من دونه، فقَيِّدْه بمن وَقف عليه، بأن تقول: موقوفٌ على فلان، أو وقفه فلان على فلان، وأشار إليه العراقي بقوله:

وسَمِّ بالمَوْقُوفِ ما قَصَرْتَهُ

بصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ

وبَعْضُ أهْلِ الفِقهِ سَمّاهُ الأثَرْ

وإِنْ تَقِفْ بغيرِهِ قَيِّدْ تَبَرْ

الأثر الثالث: وقال ابنُ مسعود: اليقينُ الإِيمانُ كلَّه.

أكده بكل لدِلالتها كأجْمَع على التبعيض للإِيمان، إذ لا يؤكد بهما إلا ذو أجزاء يَصِحُّ افتراقهما حِسًّا أو حكمًا، وتعلق بهذا الأثر من يقول: إن الإِيمان هو مجرد التصديق، وأجيب بأن مراد ابن مسعود أن اليقين هو أصل الإِيمان، فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح كلها للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة، حتى قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وَقَعَ في القلب كما يَنْبغي، لطار اشتياقًا إلى الجنة هربًا من النار، وهذا التعليق طرف من أثر وصله الطَّبَرَانيٌّ بسند صحيح، وبقيته: والصَّبْرُ نصف الإِيمان. وأخرجه أبو نُعَيم في "الحلية" والبَيْهَقيّ في "الزهد" من حديثه مرفوعًا، ولا يَثْبُت رفعه.

وعبد الله بن مسعود هو: ابن مسعود بن غَافِل بالغين المعجمة والفاء ابن حَبيب بن شمخ بن مَخزوم ويقال ابن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهِل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن الياس بن مُضَر أبو عبد الرحمن الهذَلِيّ حليف بني زُهْرَة، كان أبوه مسعود بن غافِل قد حالف في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن زُهْرة،

ص: 396

وأم عبد الله بن مسعود أم عبد بنت عبد وُدِّ بن سَواء بن قديم بن صَاهِلة بن كاهِل من بني هُذَيل أيضًا.

كان إسلامه قديمًا في أول الإِسلام، حين أسلم سعيد بن زَيْد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، قبل إسلام عمر بزمانٍ، وسبب إسلامه ما رواه زِرُّ ابن حُبَيش، عن ابن مسعود، قال: كنت أرعى غنمًا لِعُقْبَة بن أبي مُعَيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:"يا غلامُ، هل من لبن؟ " فقلت: نعم، ولكني مؤتمنٌ، فقال:"هل من شاة حائل لم يَنْزُ عليها الفحل؟ " فأتيته بشاة، فمسح ضَرْعَها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضَّرع:"اقلِص" فقَلَص، ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله علِّمني من هذا القول، فمسح برأسي، وقال: يرحمك الله فإنك غُلَيم مُعَلَّم.

وهو أحد العبادلة الأربعة على قولٍ كما مر، وأحد الذين لهم أتباع في الفقه كما مر في ترجمة ابن عباس.

قال ابن عبد البرّ: ثم صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يَلجُ عليه ويُلبِسُه نعليه، وإذا جلس أدخلهما في ذِراعه، ويمشي أمامه، ويَسْتُرُه إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذْنك على أن تَرْفَعَ الحجابَ وتَسْمَعَ سوادي، حتى أنْهاك" وكان يُعْرف في الصحابة بصاحب السِّواد والسِّواك، قال علقمة: قال لي أبو الدرداء: أليس فيكم صاحبُ النعلين والسِّواك والوِساد، شهد بدرًا والحُديبيَّة، وهاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين.

وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في حديث العشرة كما رُوي بإسناد حسن جيد، عن سعيد بن زيد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء، فذكر عشرة في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحةُ، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عَوْف، وسَعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود.

ص: 397

رُوي عنه أنه قال: رأيتني سادس ستة وما على وجه الأرض مسلم غيرنا.

آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزُّبير قبل الهجرة، وبعدها بينه وبين سَعْد ابن مُعاذ، وقيل: أنس، وهو أول من جَهَرَ بالقرآن بمكة. ورُوِي عن علي يرفعه:"لو كنتُ مؤمرًا أحدًا" وفي رواية: "مُستخلفًا من غيرِ مشورةٍ لأَمَّرْتُ ابن أمِّ عبد" وفي رواية: "لاسْتخلَفْت" وقال فيه صلى الله عليه وسلم: "من سَرَّهُ أن يقرَأ القرآن كما أُنْزِل فلْيقْرأ على قراءة ابن أمِّ عبد" ورُوي عن زِرٍّ عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بين أبي بكر وعمر، وعبد الله بن مسعود يُصلي، فافتتح بالنِّساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن أحَبَّ أن يقرأ القرآنَ غَضًّا كماْ أُنْزِل فلْيَقْرأ على قراءةِ ابنِ أمِّ عبد" ثم قعد يسأل، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:"سَلْ تُعْطَهْ" وقال فيما سأل: اللهُمَّ إني أسألُك إيمانًا لا يَرْتَدُّ، ونَعيمًا لا يَنفدُ، ومُرافَقَة نَبيِّكَ صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخُلْد، فأتى عمرُ عبد الله يُبَشِّرُهُ، فوجد أبا بكر خارجًا قد سبقه، فقال: إن فَعَلْتَ لقد كُنت سبّاقًا للخير. وقال فيه أيضًا: "رَضِيتُ لأُمَّتِي ما رَضِي لها ابنُ أُمِّ عبد وسَخِطْتُ لأُمَّتي ما سَخِط لها ابنُ أمِّ عبد" وقال أيضًا: "اهْدُوا هَدْي عمّار، وتمَسَّكُوا بهَدْي ابنِ أُمِّ عبد" ورُوي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يَصْعَد شجرة، فيأتيه بشيءٍ منها، فنظر أصحابه إلى حموشة ساقَيْه، فضَحِكوا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما يُضْحِككُم؟ لَرِجْلاهُ عند الله أثقل في الميزان من أُحُد".

وعن أبي موسى، قال: قدمت أنا وأخي المدينة، وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجلٌ من أهل البيت، لما نَرَى من دُخوِله ودُخول أمّه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة مع عمار بن ياسر، وكتب إليهم: إنيّ قد بعثت اليكم بعمارٍ أميرًا، وعبد الله معلمًا ووزيرًا، وهما من نُجباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وقال فيه

ص: 398

عمر: كَنِيفٌ مُلىءَ علمًا.

وعن أبي وائل قال: لما أمَرَ عثمانُ في المصاحف بما أمَرَ، قام عبد الله بن مسعود خطيبًا، فقال: أيأمُرُني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ والذي نفسي بيده لقد أخَذْتُ مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورةً، وإن زيدَ بن ثابت لَذُو ذُؤابَةٍ يلعبُ به الغِلمان، والله ما نزل من القرآن شيءٌ إلا وأنا أعلم في أيِّ شيءٍ نَزَلَ، وما أحدٌ أعلم بكتاب الله منّي، ولو أعلم أحدًا تُبَلِّغنِيه الإِبِلُ أعلم بكتاب الله مني لأتَيْتُه، ثم استحيا مما قال، فقال: وما أنا بخيرِكم، وفي الخَلْق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أنكر أحد عليه ذلك، وَلا رَدَّ ما قال.

ومن طريق الأعْمَشِ، قال: قال زَيْد بن وَهْب: لما بَعَثَ عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة، اجتمع الناس إليه، وقالوا: أقِم، ونحن نَمْنَعُك أن يصل إليك شيءٌ تكرهُه، فقال: إنه له عليَّ حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفِتَنٌ لا أحِبُّ أن أكون أولَ مَن فَتَحَها، فَرُدَّ الناس، وخرج إليه.

وعن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلًا قد أسْبَلَ إزاره، فقال: ارفع إزارَكَ، فقال: وأنت يا ابن مسعود فَارْفَع إزارك، فقال: إني لست مثلَكَ إن بساقيَّ حموشة، وأنا آدم الناس، فبلغ ذلك عمر، فضرب الرجل، وقال له: أتَرُدُّ على ابن مسعود؟! كان رضي الله عنه رجلًا قصيرًا نحيفًا، يكاد طُوال الرِّجال توازيه جلوسًا وهو قائم، وكانت له شعرةٌ تبلُغُ أذُنيه، وكان لا يُغَيِّرُ شيبَه.

وقال حُذَيفة: لقد عَلِمَ المحفُوظُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلةً، وأعْلَمِهم بكتاب الله. وروى عليُّ ابن المَدِينيّ أنه حَلَفَ بالله مَا أعلم أحدًا أشبه دَلًّا وهَدْيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرجُ من بيته إلى أن يرجِعَ إليه من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم وسيلةً إلى الله يومَ

ص: 399

القيامة، وفي رواية: من حين يخرجُ إلى أن يرجِعَ لا أدري ما يَصْنعُ في بيته. وفي رواية: حتى يواريه جدارُ بيته.

وروى وَكِيعٌ من طريق أبي طَبْيان، قال: قال لي عبد الله بن عبّاس: أيَّ القراءتين تقرَأُ؟ قلت: القراءة الأولى. قراءة ابن أُمِّ عَبْد، فقال: أجَلْ، هي الآخِرَةُ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَعْرضُ القرآن على جِبرائيل في كلِّ عام مرةً، فلما كان العام الذي قُبِض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَضَه عليه مرَّتيْن، فَحَضَر ذلك عبد الله، فعلم ما نُسِخ من ذلك وما بُدِّل.

وعن عَلْقَمةَ قال: جاء رجلٌ إلى عُمر وهو بعرفاتٍ، فقال: جئتُك من الكوفة، وتركت بها رجلًا يحكي المصحف عن ظهرِ قلبه، فَغَضِبَ عمر غضبًا شديدًا، فقال: ويْحَك، ومن هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فسكن عنه ذلك الغضب، وعاد إلى حاله، وقال: والله ما أعلم أحدًا من الناس أحقَّ بذلك منه.

وسئل علي رضي الله عنه عن قوم من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود، فقال: أما ابن مسعود فَقَرَأ القرآن، وعَلِمَ السنة، وكفى بذلك.

وعن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خُذُوا القرآن من أربعة: من ابن أمِّ عبد فبدأ به، ومعاذ بن جَبَل، وأُبَيِّ بن كعب، وسالم مولى أبي حُذَيفة. وقال صلى الله عليه وسلم:"مَن أحَبَّ أنْ يَسْمَع القرآنَ غضًّا فلْيسمَعْهُ من ابن أمِّ عَبْد". وعن تميم بن حَرام: جالسْتُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحبَّ إليَّ أن أكون في صلاحه من ابن مَسْعود. وقال فيه أبو الدَّرْداء لما بلغه نَعْيُه: ما ترك مثله، وهو من الستة الذين قال مسروق: إنهم انتهى إليهم العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونظمها العِراقيُّ بقوله:

وقَالَ مَسرُوقُ انْتَهى العِلْمُ إلى

سِتَّةِ أصحابٍ كِبارٍ نُبَلا

زَيْدٍ أبي الدَّرْداء مَعْ أُبَيِّ

عُمَرَ عبد الله مَعْ عَليّ

ثُمَّ انتَهَى لِذَيْن والبَعْضُ جَعَلْ .... الأشْعَرِيّ عن أبي الدَّرْدَا بَدَلْ

ص: 400

رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان مئة حديث وثمانية وأربعون، اتّفقا

على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين.

وروى عن: عمر، وسعد بن معاذ.

وروى عنه: ابناه عبد الرحمن، وأبو عبيدة، وابن أخيه عبد الله بن عُتْبَة، وامرأته زَيْنب الثَّقفِيَّة، والعبادِلَةُ، وأبو موسى، وأبو رافع، وأبو شُرَيح، وجابر، وأنس، وأبو جُحَيْفَة، وغيرهم، وروى عنه من التابعين: عَلْقَمَة، وأبو الأسود، ومسروقٌ، والرّبيع بن خَيْثَم، وشُرَيْح القاضي، وأبو وائل، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وزِرُّ بن حُبَيش، وعمرو بن مَيْمون، وخَلْقٌ كثيرٌ.

مات بالمدينة قبل قَتْل عُثمان سنة اثنتين وثلاثين، ودُفن بالبقيع، وقيل: بالكوفة، والأول أصح، وصلى عليه عثمان، وقيل: صلى عليه الزُّبير، ودفنه ليلًا بإيصائه إليه بذلك، ولم يَعْلم عثمان بدفنه، فعاتب الزُّبير على ذلك، وكان يوم توفي ابنَ بضعٍ وستين سنة.

قال بعض أصحابه: ما سمعت عبد الله بن مسعود يقول سُبَّةً في عثمان، وسمعته يقول: لَئِن قَتَلُوه لا يسْتَخْلِفُون مثله بعده.

وفي الصحابة عبد الله بن مسعود غيره اثنان، أحدُهُما ثَقَفِيٌّ أخو أبي عُبَيد، والثاني غِفَاريٌّ. وأما عبد الله فلا يُحصى.

وعبد الله هُو الذي قتل أبا جَهْل على قول، فرُوي عنه أنه قال: أتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني قَتَلْتُ أبا جهل. فقال: "الله الذي لا إله غيره لَأنْتَ قَتَلْتَه" فقلت: نعم، فاستَخَفَّه الفرح، ثم قال: انطلق بنا إليه" قال: "فانطلقت معه حتى قُمْتُ به على رأسه، فقال:"الحمدُ لله الذي أخْزاكَ، هذا فِرْعون هذه الأمّة، جُرُّوه إلى القَليب" قال: وكنتُ ضربتُهُ بسيفي فَلَم

ص: 401

يعْمل فيه، فأخذتُ سيفَه فضربتُهُ به حتى قَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.

الأثر الرابع: وقال ابنُ عُمر: لا يَبْلُغُ العَبْدُ حقيقةَ التَّقوى حتى يَدَعَ ما حاكَ في الصَّدر. والمراد بالتقوى: وقاية النفس عن الشرك. والأعمال السيئة، والمواظبة على الأعمال الصالحة، وسُئِل عليٌّ رضي الله تعالى عنه عن التَّقوى، فقال: هي الخوفُ من الجَليل، والعملُ بما في التنزيل، والاستعدادُ ليوم الرَّحيل.

وقوله: "يدع" أي يترك، وقد أماتوا ماضي يَدَعُ ويَذَرُ، ولكن جاء في قراءة:"مَا وَدَعَكَ ربك" بالتخفيف.

وقوله: "حَاك" بالمهملة والكاف الخفيفة، أي: تَرَدَّدَ، واضطرب، ولم ينشرِح له الصدر، وخاف الإِثم فيه، وفي بعض النسخ ما حَكَّ بتشديد الكاف، وفي بعضها ما حاك بالألف والتشديد من المحاكّة.

وفي أثر ابن عُمر إشارة إلى أن بعض المؤمنين بَلَغَ كُنْهَ الإِيمان، وبعضهم لم يَبْلُغه، فتجوز الزيادة والنقصان، وقد أخرج ابن أبي الدُّنيا عن أبي الدَّرْداء، قال: تمام التقوى أن تَتَّقي الله حتى تَتْرُك ما يُرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكون حرامًا.

قال في "الفتح" لم أر أثر ابن عمر هذا موصولًا إلى الآن، وقد ورد معناه عند مسلم من حديث النَّوَّاس مرفوعًا، وعند أحمد من حديث وابصة، وليس فيها

شيءٌ على شرط البخاري، فلذلك اقتصرعلى أثر ابن عمر.

وابن عمر: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القُرَشيُّ العَدَوِيُّ، ونسبه في نسب أبيه المتقدم في الحديث الأول، أبو عبد الرحمن، أمه زَيْنَب بنت مَظْعُون الجُمَحِيَّة، وهو شقيقُ أم المؤمنين حَفْصة، ولد سنة ثلاث من المَبْعَث النبويِّ، وهاجر وهو ابن عشر سنين، وقيل: ابن إحدى عشرة ونصف، أسلم مع أبيه، وهاجر معه، وقول من قال: إنه أسلم قبلَ أبيه،

ص: 402

وهاجر قبله، لا يُعْبأُ به، عُرِضَ يوم بدرٍ وأُحُد فاستُصْغِر، وأُجيز في الخَنْدَقِ، وهو ابن خَمْسَ عشرةَ سنة، كما ثَبَتَ في "الصحيح"، وشهد الحُدَيْبيةَ، وقال بعض أهل السِّيَر: إنه أول من بايع يومئذ، ولا يَصِحُّ، والصحيح أن أول من بايَعَ تحت الشجرة بَيْعَة الرُّضوان أبو سِنان الأسَدِيّ، وهو أحد الستة المكثرين في الحديث كما مر في ترجمة عبد الله بن عبّاس، وأحد العبادلة الأربعة كما مر هُناك أيضًا.

قال ابن عبد البَرِّ: كان لا يَتَخَلَّف عن السَّرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد مؤتة مُولعًا بالحجّ قبل الفِتْنَة، وفي الفتنة إلى أن مات، ويقولون: إنه من أعلم الصحابة بمناسِكِ الحجّ، كان رضي الله عنه شديد الوَرَع، وكان كثير الاتّباع لأثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، شديدَ التَّحَرّي والاحتياط والتَّوَقِّي في فَتْوَاه. وكلِّ ما يأخذ به نفسه. قال جابر: ما مِنّا أحدٌ أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها، ما خلا عُمر وابنه عبد الله. وقال مَيْمون بن مِهران: ما رأيت أوْرَعَ من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس.

وفي "الصحيح" عنه: كان مَنْ رأى رُؤيا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قصَّها عليه، فتمنيت أن أرى رؤيا، وكنت غلامًا عَزَبًا أنام في المسجد، فرأيت في المنام كأن ملَكَين أتياني، فذهبا بي .. الحديث، وفي آخره فقَصَصْتُها على حَفْصة، فَقَصَّتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"نِعْمَ الرَّجل عبد الله لو كان يُصلي من الليل" فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا القليل، وقال صلى الله عليه وسلم لأخته حَفْصة حين قَصَّت عليه رؤياه التي في "الصحيح" أيضًا من أنه قال: إني رأيت في يديَّ سرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكانٍ من الجنة إلا طارَت بي إليه:"إنَّ أخاكِ" أو "إن عبد الله رجلٌ صالحٌ".

وقال عبد الله بن مسعود: لقد رأيتنا ونحن متوافرونَ فما بينَنا شابٌّ أمْلَكَ لنفسه من عبد الله بن عُمر. وعن السُّديّ: رأيت نفرًا من الصّحابة كانوا يَرَوْن أنه ليس أحدٌ فيهم على الحالةِ التي فارق عليها النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر.

ص: 403

وعن سَعِيد بن المُسَيِّب: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر. وكان ابن عمر حين مات خير من بقي، وما لَعَن ابن عمر خادمًا قطُّ إلا واحدًا فأعْتَقَه، كما رُوي عن الزُّهري. ورُوي عنه أنه قال: أراد ابن عمر أن يَلْعَنَ خادمًا، فقال: اللَهُمَّ العَ، فلم يُتِمَّها، وقال: إنها كلمة ما أحب أن أقولها. وعن نافع أن ابن عمر اشتكى، فاشتُري له عُنقودٌ بدِرهم، فأتاه سائل، فقال: أعطوه إياه، فخالف إنسان آخر فاشتراه منه بدِرهم، ثم أراد أن يرجِع، فمُنِع، ولو علم ابن عمر بذلك ما أكله. وعن حَمْزة بن عبد الله بن عُمر، قال: لو أن طعامًا كثيرًا كان لابن عمر: لما شَبِع منه بعد أن يجد له آكلًا. وعن زَيْد بن أسلم، قال: جعل رجلٌ يَسُبُّ عبد الله بن عُمر، وهو ساكتٌ، فلما بَلَغَ باب داره التَفَتَ إليه، فقال: أنا وأخي عاصم لا نَسُبُّ الناس، وعن أبي الدّارِع: قلت لابن عمر: لا يزالُ الناس بخير ما أبقاك الله لهم، فغَضِبَ، وقال: إني لأحسِبُك عراقيًّا، وما يُدريك علامَ أُغْلِق بابي؟ وعن مالك: أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة، يقدم عليه وفود الناس، ولم يَخْفَ عليه شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وهو من أئمة الدين. وعنه أيضًا: كان إمام الناس عندنا بعدَ عمر زيد بن ثابت، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد بن عمر. وعن يَحْيى ابن يَحْيى: قلت لمالِك: سمعت المشايخ يَقُولون: من أخَذَ بقول ابن عمر لَم يَدَع من الاستقصاءِ شيئًا، قال: نعم. وعن أبي سَلمة بن عبد الرحمن: كان عُمر في زمانه له نُظَراء، وكان ابن عُمر في زمانه ليس له نظيرٌ. وعن عُقْبَة بن مُسلم أن ابن عمر سُئل عن شيء فقال: لا أدري، أتُريدون أن تَجْعلوا ظُهورنا جُسورًا في جَهَنَّم، تقولون: أفْتانا بهذا ابن عُمر؟ وأخرج البَغَويُّ، عن سعيد، قال: ما رأيت أحدًا أشدَّ اتقاء للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عُمر. ورُوي عن مُجاهد: صَحِبت ابن عمر إلى المدينة، فما رأيتُه يًحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا.

وعن مَيْمون بن مِهران، قال: مر أصحاب نَجْدَةَ الحَرُورِيِّ بإبِلٍ لابن عمر، فاسْتاقُوها، فجاءَه الرّاعي، وقال: يا أبا عبد الرحمن، احتسب

ص: 404

الإِبل، وأخبره الخبر، فقال: كيف تَرَكُوك؟ قال: انْفلَتُّ منهم لأنك أحب إلي منهم، فاسْتَحْلَفَه، فحَلَف، فقال: إني احْتسَبْتُك معها، فأعتقه، فقيل له بعد ذلك: هل لك في ناقتك الفلانية تُباع في السوق؟ فأرَاد أن يَذْهب إليها، ثم قال: كنت احْتَسَبْتُ الإِبل، فلأيِّ معنًى أطلب الناقة؟

وعن عبد الله بن أبي عُثمان أعْتَقَ عبد الله بن عُمر جاريةً له، يقال لها: رفثة، كان يُحِبُّها، وقال: سمعت الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وعن نافع كانت لابن عمر جارية معجبة، فاشتد عجبُهُ بها، فأعتقها، وزوجها مولى له، فأتَتْ منه بولدٍ، فكان ابن عمر يأخُذُ الصبيَّ، فيقبِّلُه، ويقول: واهًا لريح فلانة.

وفي "البَيْهَقِيّ": أعطى عبد الله بن جَعْفر في نافع لعبد الله بن عُمر عشرة آلاف درهم وألف دينار، فقيل له ماذا تَنْظُر؟ قال: فهَلَّا ما هو خيرٌ من ذلك، هو حرٌّ. وعن زَيْد بن أسْلَم: مرّ ابن عمر براع، فقال: هل من جَزَرَة؟ قال: ليس ها هنا ربها، قال: تقول له: أكلها الذِّيبُ، قال: فاتَّقِ الله، فاشترى ابن عُمر الراعي والغنَم وأعْتَقَه، ووهَبَها له. قال ابن خَلِّكان: كان ابن عُمر إذا اشتد عجبهُ بشيء من ماله قَرَّبه إلى ربه عز وجل، قال نافع: كان رقيقُه قد عَرَفوا ذلك منه، فرُبَّما شَمَّرَ أحدهم، فيلزم المسجد، فإذا رآه ابنُ عُمر على تلك الحالة الحسنة، أعْتَقَه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن والله ما بِهم إلا أن يَخْدَعُوك، فيقول: ما خَدَعَنا أحدٌ في الله إلا انْخَدَعنا له. قال نافعٌ: ما ماتَ ابن عُمر حتى أعْتَقَ ألف إنسان أو ما زاد، ونشر نافعٌ مولاه عنه علمًا جمًّا.

ورُوِي أن مروان بن الحكم دخل عليه في نفرٍ بعد قتل عُثمان رضي الله عنه، فعرضوا عليه أن يُبايعوا له، قال: وكيفَ لي بالنّاس؟ قال: تُقاتِلُهم ونُقاتِلُهم معك. قال: والله لو اجْتَمَعَ أهل الأرض عليَّ إلا أهل فَدَك ما قاتَلْتُهم، فخرجوا من عنده وهو يقول:

والمُلْكُ بَعْدَ أبي لَيْلى لِمَنْ غَلَبَا

ص: 405

وذكر مَيْمون أن ابن عُمر دخل عليه رجل، فسأله عن تلك المشاهدِ، فقال: كَفَفْتُ يدي، فلم أُقْدِم، والمقاتِلُ على الحقِّ أفْضَل. كان رضي الله عنه لوَرَعِهِ أشْكَلَت عليه حروبُ عليٍّ عليه السلام، فَقَعَد عنهُ، ثمَّ ندم على ذلك حين حضرته الوفاة، فقد روى حَبيبُ بن أبي ثابتٍ عنه أنه قال حين حَضَرَتْهُ الوفاة: ما أجِدُ في نفسي من أمر الدنيا شيئًا إلّا أنّي لم أُقاتل الفئةَ الباغية مع عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه وفي رواية: ما آسى على شيءٍ إلَّا أني لم أُقاتل معَ عليٍّ الفئةَ الباغية.

وفي "البَيْهَقيِّ" ما ذَكَر ابنُ عمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بَكَى، ولا مَرَّ بِرَبعِهم إلا غَمَّض عينيه. وعن نافع: كان ابن عُمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] بَكى حتى يَغْلِبه البكاء. كان رضي الله عنه له مِهْراسٌ فيه ماء، فيُصَلي ما قُدِّر له، ثم يصيرُ إلى فراشِه، فيُغْفِي إغفاء الطائرِ ثم يَقُوم، فيتوضأ فَيُصَلّي، ثم يرجِعُ إلى فراشهِ، فيُغْفِي إغفاء الطائر، يفعلُ ذلك في الليل أربع مرات أو خمسًا. وقيل لنافع: ما كان ابنُ عمر يَصْنَع في منزله، قال: الوُضوء لكلِّ صلاة، والمُصحف فيما بَيْنَهما. وعنه أيضًا أنه كان إذا فاتَتْه صلاةُ العشاء في الجماعة أحْيى بَقيَّة ليله. وعنه أيضًا: كان ابن عُمر يُحيي الليلَ صلاةً، ثم يقول: يا نافعُ اسْحَرْنا؟ فيقول: لا، فيعاودُ فإذا قال: أسحرْنا، قعد يستغفر الله حتى يصبح، وعنه أيضًا: كان ابن عُمر لا يَصُوم في السفر، ولا يكاد يُفْطِر في الحَضَر. وفي "البَيْهَقِيِّ" كان إذا فاتته صلاة في جماعةٍ صلى إلى الصلاة الأخرى. وقال الزُّبَيْر بن بَكّار: كان ابن عُمر يَحْفَظُ ما سَمِعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَسْألُ من حَضَر إذا غابَ عن قوله وفعله، وكان يَتَّبِعُ آثار النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل مسجدٍ صلى فيه، وكان يَعْتَرِضُ براحلته في طريقٍ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَضَ ناقته فيه، وكان لا يَتْرُكُ الحجَّ، وكان إذا وقف بعَرَفَةَ وقف في الموقف الذي وَقَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوصى أن يُدْفن في الحِلِّ، فلم يُقْدَر على ذلك من أجل الحَجّاج، ودُفِن بذي طُوى، بمَقَابر المُهاجرين.

ص: 406

وكان الحجاج قد أمر رجلًا فَسَمَّ زُجَّ رمح وزَحَمَه في الطريق، ووضع الزُّجَّ على ظَهْر قدمه، وذلك أن الحَجّاج خَطَبَ يومًا، وأخَّرَ الصلاة، فقال له ابن عمر: إن الشَّمْسَ لا تَنْتَظرُك، فقال له الحَجّاج: لقد هَمَمْتُ أن أضرب الذي فيه عيناك، قال: إن تَفْعَل فإنك سفيهٌ مُسَلَّطٌ. وقيل: إنه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج، ولم يُسْمِعْه، وإنما كان يَتَقَدَّمه في المواقف بعَرَفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يَقِفُ فيها، وكان ذلك يَعِزُّ علي الحجّاج، فأمر الحجّاجُ رَجلًا معه حَرْبة، يقال: إنها كانت مسمومةً، فلما دَفَعَ الناس من عَرَفَة، لصِق به ذلك الرجل، فأمَرَّ الحربةَ على قدمه، وهي في غَرْزِ راحِلَتِه، فمرِض منها أيّامًا، فدخل الحجّاج يعوده، فقال له: من فَعَلَ هذا بك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: وما تَصْنَعُ به، قال: قتلني الله إن لم أقْتُلْه، قال: ما أراك فاعلًا، أنت الذي أمَرْتَ الذي نَخَسني بالحربة، فقال: لا تَفعل يا أبا عبد الرحمن، وخَرَج عنه. ورُوي أنَّه قال للحجّاج حين قال له: من فعل بك؟ أنت أمرت بإدخال السِّلاح في الحرم، فلَبِث أيّامًا، ثم مات، وصلى عليه الحَجّاج، ودُفِن بذي طُوى كما مَرَّ، وَقيل: دفن بِفَخٍّ موضع قرب مكة، وقيل: بِسَرِفَ، وقيل: بالمُحَصَّبِ سنةَ اثنتين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع وسبعين، بعد قتل ابن الزُّبير بثلاثة أشهر، عاش أربعًا وثمانين، وقيل سبعًا وقيل ستًّا.

رُوِي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفا حديث وست مئة وثلاثون حديثا، اتَّفَقا على مئة وسبعين، وانفرد البُخاريُّ بأحدٍ وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين.

روى عن: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وأبي ذَرٍّ، ومُعاذ، وعائشة، وغيرهم.

وروى عنه من الصحابة: جَابر، وابن عبّاس، وغيرهما، وروى عنه بنوه سالمٌ، وعبد الله، وحَمْزة، وبِلال، وزيد، وعبد الله، وابن أخيه حفص بن عامِر، ومن كبار التابعين: سَعيد بن المُسيِّب، وأسلَم مولى عُمر، وعَلْقَمة بن وقّاص، ومَسْروق، وجُبَير بن نُفير، وعبد الرحمن بن

ص: 407

أبي ليلى، وممن بعدهم: مواليهم عبد الله بن دِينار، ونافِع، وزيد بن أسلم، وخالد، ومن غيرهم مُصعَب بن سَعد، وموسى بن طَلْحة، وعُروة ابن الزبيَر، وعطاء، وطارق، ومجاهِد، وابن سِيرين، والحسَن، وصَفْوان ابن مُحْرِز، وغيرهم.

وفي الصحابة أيضًا عبد الله بن عمر حرمي، يقال: إنه له صحبة، يُروى عنه حديث في الوضوء.

الأثر الخامس: وقال مُجاهِدٌ {شَرَعَ لَكُمْ

}: أوصَيناك يا مُحمد وإيّاهُ دِينًا واحِدًا. والمراد من هذا التعليق أن الذي تظاهرت عليه الأدِلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم، وإنما خَصَّ نوحًا عليه السلام، لما قيل: إنه الذي جاء بتحريم الحرام، وتحليل الحلال، وأول من جاء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ولا يقال: إن إياه تصحيف وقع في أصل البخاري في هذا الأثر، وإن الصواب وأنبياءه كما عند عَبْد بن حُميد، وغيره، كما يأتي، وكيف يُفرد مجاهد الضمير لِنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة؟ لأنه أجيب بأن نوحًا عليه الصلاة والسلام أُفرد في الآية، وبقية الأنبياء عليهم السلام عَطْفٌ عليهم، وهم داخلون فيما وصّى به نوحًا، وكُلُّهُم مشتركون في ذلك، فذِكْرُ واحدٍ منهم يُغْنِي عن الكُلِّ.

على أن نوحًا أقرب مذكور في الآية، وهو أولى بعَوْد الضمير إليه في تفسير مجاهد، فتفسيرُه صحيح.

وهذا التعليق وصله عَبْد بن حُميد في تفسيره، والطَّبَريُّ والفِرْيابيُّ، وابن المُنْذر في تفاسيرهم ولكن لفظهم: يا محمَّد وأنبياءه.

ومجاهِد هو مجاهد بن جَبْر -بفتح الجيم- المكِّيُّ أبو الحجّاج المخْزُوميُّ المقرىء مولى السَّائبِ بن أبي السّائب.

وقال الفَضْل بن مَيْمون: سمعت مجاهدًا يَقُول: عَرَضْتُ القُرآن على ابن عَبّاس ثلاثين مرَّةً، وقال يحيى القطَّان: مُرسلات مجاهدٍ أحبُّ إليَّ من مرسلات عَطاء، وقال الأعْمش، عن مجاهد: لو كُنت قرأتُ على

ص: 408

قراءة ابن مسعود، لم أحْتَج أن أسأل ابن عَبّاس عن كثير من القرآن. وعن مُجاهد، قال: قرأتُ القرآن على ابن عبّاس ثلاث عَرْضاتٍ، أقِفُ عند كل آية أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ وقال إبراهيم بن مُهاجر، عن مجاهد، قال: ربما آخُذُ لابن عُمر بالرِّكاب. وقال قَتَادة: أعْلَم من بَقِيَ بالتفسير مجاهد. وقال أبو بكر بن عَيّاش: قُلت للأعمش مالهم يقُولون تفسير مُجاهد؟ قال: كانوا يَرَوْن أنه يسأل أهل الكتاب. وقال ابن مَعِين وأبو زُرْعة: ثقة. وقال سَلَمَة بن كُهَيل: ما رأيتُ أحدًا أراد بهذا العلم وجه الله تعالى إلا عطاءً، وطاووسًا، ومجاهدًا. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهًا عالمًا كثير الحديث. وقال ابن حِبّان: كان فقيهًا وَرِعًا عابدًا مُتْقِنًا. وقال أبو جعفَر الطَّبَريُّ: كان قارئًا عالمًا. وقال العِجْلِيُّ: مكيٌّ تابعيٌّ ثقة. وقال الذَّهبيُّ: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به وقال الذَّهبيُّ أيضًا: قرأ عليه عبد الله بن كثير، وقال التِّرمِذِيُّ: مجاهدٌ معلوم التَّدليس، فعَنْعَنَتُهُ لا تفيد الوصلَ، ووقوع الواسطة بينه وبين ابن عَبّاس.

روى عن: عليّ، وسعد بن أبي وَقّاص، والعبادلة الأربعة، ورافع بن خُديْج، وأُسَيْد بن ظَهير، وأبي سعيد الخُدري، وعائشة، وأم سَلَمَة، وجُوَيْرِيَةَ بنت الحارث، وأبي هُريرة، وجابر بن عبد الله، وسُراقة بن مالك، وعبد الرحمن بن صَفْوان بن قُدامة، وخلقٍ كثيرٍ.

وروى عنه: أيوب السَّختياني، وعطاء، وعِكْرمة، وابن عَوْن، وعَمْرو بن دينار، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأبو الزُّبير المكي، وقتادة، وسليمان الأحْول، والأعْمش، وخلقٌ كثيرٌ.

وأنكر شُعبة وابن أبي حاتم سماعَه من عائشة، وكذا ابن معين، لكن حديثه عنها في "الصحيحين".

وقال مجاهد: قال لي ابن عمر: ودِدْت أن نافعًا يحفظ كحفظك.

مات بمكة وهو ساجدٌ سنة مئة، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: أربع ومئة، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عُمر بن الخطاب.

ص: 409

ومجاهد بن جبر ليس في الرواة غيره، ومُجاهد في الستة سواه ثلاثة.

الأثر السادس: وقال ابنُ عبّاس {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} : سَبيلًا وسُنَّة تفسير لمنهاجًا، أي: طريقًا واضحًا، وسُنَّةً، يقال: شَرَعَ يَشرع شرعًا، أي: سَنَّ فهو تفسيرٌ لشرْعة، فيكون من باب اللَّفِّ والنَّشر الغير المرتب، وسقطت الواو من:"وقال" لابن عَسَاكر.

وهذا التعليق وصله عبد الرَّزّاق في تفسيره بسندٍ صحيح، وابن عباس مَرَّ تعريفه في الخامس من بدء الوحي.

ص: 410