الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - باب أمور الإِيمان
بالإِضافة البيانية، أي: بيان الأمور التي هي الإِيمان، لأن الأعمال عند المؤلف هي الإِيمان، أو بمعنى اللام، أي: باب الأمور الثابتة للإِيمان في تحقيق حقيقته، وتكميل ذاته، وفي رواية أبي ذَرٍّ:"أمْر الإِيمان" بالإِفراد على إرادة الجنس، ثم قال:
"وقول الله تعالى" بالجر عطف على أمور، وفي رواية:"عز وجل" بدل قوله: "تعالى".
وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] البرُّ قُرىء بالنصب على أنه خبر مقدم، وأن تولوا هو الاسم، وقُرىء بالرفع على أنه اسم وأن تُولوا خبر، والبِرُّ اسم جامعٌ لكل خير وفعل مَرْضِيّ.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بتخفيف لكن، والبرُّ مبتدأ، وخبره من آمن بالله، وقُرىء لكن بالتشديد، ونصب البر على الاسمية.
وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] على حذف مضاف، أي. برُّ من آمن، أو يؤول البر بالبارّ باسم الفاعل، قيل: الخطاب لأهل الكتاب، لأن اليهود تُصلي قِبَل المغرب إلى بيت المَقدس، والنّصارى قِبَل المشرق، وذلك أنهم أكْثَر والخَوْض في أمر القبلة حين تَحَوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أن البر التوجه إلى قبلته، فرد عليهم، وقوله:{وَالْكِتَابِ} جنس كتاب الله أو القرآن، وقوله:{عَلَى حُبِّهِ} قيل: الضمير للمال، أي: على حبِّ المال والشح به كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أيُّ الصَّدقةِ أفْضَلُ؟ قال: "أنْ تَتَصَدَّق وأنْتَ صَحيحٌ شَحيحٌ تأْملُ الغِنَى وتَخْشَى الفقر ولا تمهل حتّى إذا بَلَغَتِ الحُلْقُوم قُلتَ لِفُلان كذا ولِفلانٍ كذا، ألا وَقَد كَانَ لِفُلان كذا" أخرجه الشيخان وغيرهما. أو الضمير للإِيتاء المفهوم من: {وَآتَى الْمَالَ} وعلى فيهما
بمعنى مع، أو الضمير لله تعالى، وعلى أجلية، كقوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
وقوله: {ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} أي: القرابة، واليَتَامى المحاويج منهما، ولم يُقَيِّد لعدم الإِلباس، لأن إيتاء الأغنياء هِبة لا صدقة، وقدم ذوي القُربى لأن إيتاءهم أفضل، لقَوْله عليه الصلاة والسلام كما في أحمد والتِّرْمِذيّ:"الصَّدَقَة عَلَى المِسْكِين صَدَقَةٌ، وعلى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصلةٌ".
وقوله: {وَالْمَسَاكِينَ} جمع مسكين، وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسْكَنَتْهُ بحيث لا حراك به، أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس كالمِسْكير الدائم السكر.
وقوله: {وَابْنَ السَّبِيلِ} المراد به المسافر المُنْقطع، وجُعِلَ ابنًا للسبيل لملازمته له، كمَا يُقال للصِّ القاطع: ابن الطريق، وقيل: هو الضيف، لأن السبيل يُعرف به.
{وَالسَّائِلِينَ} أي: الذين ألجأتهُمُ الحاجة إلى السؤال، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم:"لِلسَّائِلِ حَقٌّ وإن جَاءَ عَلَى فرسٍ" وقيل: المساكين السابق ذكرهم، الذين لا يَسْألون وتُعْرَف حاجتهم بحالهم، وإن كان ظاهرهم الغنى، وأراد بالسّائلين المساكين الذين يَسْألون، فتُعرف حالهم بسؤالهم.
وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} أي في تخليصها، عامٌّ في إعانة المُكاتَبِين، وفكِّ الأُسارى، وابتياع الرِّقاب للعِتْق قُربةً، والرَّقَبَة مجازٌ عن الشخص.
وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} عطف على صلة من، والمراد المفروضة، كالزكاة في قوله:{وَآتَى الزَّكَاةَ} والمراد بما مر من إيتاء المال نوافلُ الصدقات، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، واختُلف هل هي باقيةٌ أو نُسِخَت؟ والصحيحُ بقاؤها، لقوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} عَطف على من آمن. {إِذَا عَاهَدُوا} أي: الله أو الناس.
وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} منصوب على المَدْح، بتقدير أخُصُّ أو أمدح، ولم يعطِف لبَيانِ فضلِ الصَّبر على سائرِ الأعمال، والبَأساءُ شِدَّةُ الفقر لأن البأساءَ في الأموال، والضَّرّاء في الأبْدان.
وقوله: {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: وقت شدة القتال في سبيل الله، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد، لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدّى الصبر إلى الأوَّلَيْن بفي لأنه لا يعد الإِنسان من الممدوحين إذا صَبَرَ علي شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له، وأما إذا أصاباه وقتًا ما، وصَبَرَ، فليس فيه مدحٌ كثيرٌ إذ أكثر الناس كذلك، وأتى بحين في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات.
وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: أولئك الموصوفون بما ذَكَرَهم الذين صدقوا في إيمانهم وادعاء البر واتباع الحق.
وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} عذاب الله بتجنب معاصيه، وامتثال أوامره، وأتى بخبر أولئك الأول موصولًا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد، بل صار كالسَّجِيّة لهم، وهذه الآية جامعة للكمالات الإِنسانية بأسرها، إذ هي تنحصر في ثلاثة أشياء، صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة للخلق، وتهذيب النفس في المعاملة مع الله، وقد أشير إلى الأول بقوله:{مَنْ آمَنَ} إلى {وَالنَّبِيِّينَ} ، وإلى الثاني بقوله:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى {وَفِي الرِّقَابِ} ، وإلى الثالث بقوله:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} إلى آخرها، ولذلك وُصِف المسْتَجْمِع لها بالصدق، نظرًا إلى
إيمانه واعتقاده، وبالتقوى اعتبارًا لمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق.
ووجه استدلال المؤلف بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، يظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره أن أبا ذَرٍّ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان، فتلا عليه {لَيْسَ الْبِرَّ ....} إلخ.
ورجاله ثقات، ولم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإِيمان، ووجه الاستدلال هو أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون، والجامع بين الآية والحديث هو أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر كما هي داخلة في مسمى الإِيمان، فإن قيل ليس في المتن ذكر التصديق، أجيب بأنه ثابت في أصل هذا الحديث عند مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله، ولم يسقه تمامًا. من فتح الباري.
ثم استدل المؤلف لذلك أيضًا بآية أخرى فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآية بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير وقول الله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويُحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيرًا لقوله:{الْمُتَّقُونَ} ، أي المتقون هم الموصوفون بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخرها، وكان المؤلف أشار إلى إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما.
ومن ثم ذكر ابن حِبّان أنه عد كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه من الإِيمان، وكل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإِيمان، وحذف المكرر فبلغت تسعًا وتسعين، وقوله: الآية، يجوز فيها النصب بتقدير اقرأ، والرفع مبتدأ حذف خبره أي والآية دليل.
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} قد لتحقيق ما يحصل في المستقبل وتنزيله منزلة الواقع، فإنها تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، أي:
فاز المؤمنون، ظفروا بمقصودهم، ونَجَوْا من كل مكروه، قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] والمؤمنون جمع مؤمن، وهو المصدق بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره، وكان المؤمنون يتوقعون نوع البشارة منه تعالى، فصَدَّر السورة بما دَلَّ على ثبوت متوقعهم على أبلغ وجه، بأن أدخل قد على المضارع البارز في صورة الماضي الدالِّ على التحقيق، فكأنه قال: قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح بالإِيمان، ويجوز أن يكون جواب قسم محذوف فيزداد تأكيدًا على تأكيد.
وقوله: {خَاشِعُونَ} ظاهرًا وباطنًا، فالخشوع الظاهري التمسك بآداب الصلاة كقصر الأبصار في مواضع السجود، لأن الخشوع فعل قلب يظهر أثره في الجوارح، لحديث:"لَوْ خَشَعَ قَلبُ هذا لَخَشعتْ جوارحُه" والباطني استحضار عظمة الله تعالى، ومنه أن لا يحدث نفسه بأمر لا يتعلق بالصَّلاة، وأن يتدبر ما يجري على لسانه من القراءة والذكر، وأن لا يلتفت، لحديث:"لَا يَزَال الله مقبلًا على العَبْد ما لم يَلْتَفِت، فإذا التفتَ أعْرَضَ عنه" قال في "الجواهر": قد نَصَّ أئمتنا على وجوب الخُشوع في الصلاة، قال الغَزّالي: كل ما يَشغَلُك عن معاني قراءتك فهو وسواسٌ، ثم أتبع وصفهم بالخشوع وصفهم بالإِعراض عن اللغو، جمعًا لهم بين فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، بقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] والمراد باللغو كل ما لا يَعُودُ على الشخص منه فائدة في الدين أو الدنيا، قولًا كان أو فعلًا أو مكروهًا أو مباحًا، كالهَزْل واللَّعب، وضياع الأوقات فيما لا يعني، والتوغل في الشهوات، وغير ذلك مما نهى الله تعالى عنه، فبالجملة ينبغي للإِنسان أن يُرى ساعيًا في حسنةٍ لمعادِهِ، أو دِرهم لمعاشِه، ومن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وهذا كالتتمة للصلاة، فلذا فَصَّلَ به بينها وبين الزكاة التي هي أختها، وفيه مبالغات بجعل الجملة اسمية، وبناء الحكم على الضمير، والتعبير عنه بالاسم، وتقديم الصلة عليه، وأقَامَ الإِعراض مقام الترك
ليدل على بعدهم عنه رأسًا مباشرة، وتسببًا وميلًا وحضورًا، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] الزكاة الواجبة أو كل عمل صالح، وفاعلون مؤدون عبر عن المزكي بالفاعل تحاشيًا عن التكرار، والزكاة تقع على المعنى والعين، والمراد الأول لأن الفاعل يفعل الحدث لا المحل الذي هو موقعه، أو الثاني على تقدير مضافٍ، وإنما وصفهم بأدائها بعد الوصف بالخشوع ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، أي: مانعون لها عن كل ما لا يَحِلُّ وطؤَه بوجه من الوجوه.
وقوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] على هنا بمعنى من أي مانعون لها إلا من أزواجهم، أو المعنى حافظون لها على أزواجهم لا يبذُلونها إلا على أزواجهم، فعلى هذا "على" صلة لحافظون، من حفِظْت المال على اليتيم، وأحْفَظُ على عِنَان فرسي، أي حافظون فروجهم. على الأزواج لا تَتَعدّاهُنَّ ولا يبذُلونها إلا عليهن، فهو تأكيدٌ.
وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أي السَّراري، عبر بما دون من وإن كان المقام يقتضي من لأن الإِناث ناقصات، ولا سيما الأرقاء ففيهن شبه بالبهائم في حل البيع والشراء، والسراري جمع سرية بالضم، وهي في الأصل الأمَة التيِ بُوِّئَتْ ببيت، مأخوذة من السر وهو الجماع أو الإِخفاء لأن الإِنسان كثيرًا ما يُسِرُّها ويَسْتُرُها عن حرَّتِهِ، أو من السرور لأنها تَسُرُّ مالِكَها.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإنهم أي الحافظون غير ملومين في إتيانهن، وفيه إشارة إلى أنه مباح لا ثواب فيه ولا عِقاب، وهذا ما لم يُقْصَد به التعفف عن الحرام، وإن قصد فندبٌ يثاب عليه، وربما وجب في بعض الأحوال لما في "البخاري" أنهم قالوا: يا رسول الله أيأْتي أحدنا