الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس المراد بفترة الوحي المدة المذكورة عدم مجيء جِبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. وفي البخاري في التعبير زيادة "حتى حَزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنًا غدا منه مرارًا يَتَردّى من رؤوس شواهقِ الجبال" ولكن هذه الزيادات من بلاغات الزهري، فهي ضعيفة.
وأما رجاله فستة
، وفيه ذكر خديجة، وورقة.
الأول: يَحيى بن عبد الله بن بُكَيْر القُرشيّ المَخْزوميّ مولاهم، أبو زكرياء المِصري، الحافظ، وقد ينسب إلى جده.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يُحتجُّ به، وكان يفهم هذا الشأن.
وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأصاب؛ فقد احتج به مسلم والبخاري، وكان غزير العلم عارفًا بالأثر من كبار حفاظ المصريين. قال ابن عَدِيّ: كان جار اللَّيث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده من الليث ما ليس عند أحد. وقال السّاجِيّ: صدوق، روى عن الليث فأكثر. وقال أبو داود: سمعت يحيى بن مَعين يقول: أبو صالح أكثر كتبًا، ويحيى بن بُكَيْر أحفظ منه. وقال ابن مَعين أيضًا: سمع يحيى بن بُكَير "الموطأ" بعرض حبيب، كاتب الليث، وكان شَرَّ عرض، كان يقرأ على مالك خطوط الناس، ويصحف ورقتين وثلاثة، وقال ابن مَعين أيضًا: سألني عنه أهل مصر، فقلت: ليس بشيء، وقال مَسْلَمة بن قاسم: تكلم فيه، لأن سماعه عن مالك إنما كان بعرض حبيبه، وقال الخَلِيليّ: كان ثقة، وتفرد عن مالك بأحاديث، وقال ابن قانِع: مصري، ثقة.
روى عن مالك، والليث، وبكْر بن مُضَر، وحَمّاد بن زيد، وعبد الله بن سُوَيْد المِصْري، وحمزة بن ربيعة، ومُغيرة بن عبد الرحمن الحِزامي، وجماعة.
روى البخاري عنه في مواضع، وروى عن محمَّد بن عبد الله الذي هو الذُّهلي عنه في مواضع، تارة يقول: حدثنا محمَّد ولا يزيد، وتارة
يقول: حدثنا محمَّد بن عبد الله يعني بن خالد بن فارس بن ذُؤيب الذُّهلي، وتارة ينسبه إلى جده، فيقول: حدثنا محمَّد بن خالد بن فارس. وروى ابن ماجة ومسلم له بواسطة محمَّد بن عبد الله الذُّهلي، وروى عن حَرملة ابن يحيى، وأبو زُرعة الرّازي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومات قبله، وابنه عبد الملك، ويحيى ابن مَعين، ويونُس بن عبد الأعلى، وآخرون، ولم يُخَرِّج مسلم له عن مالك، ولعله لقول الباجِيّ: وقد تكلم أهل الحديث في سماعه "الموطأ" عن مالك، مع أن جماعة قالوا: آخر من روى "الموطأ" عن مالك.
ولد سنة أربع وقيل: خمس وخمسين ومئة، ومات سنة إحدى وثلاثين ومئتين.
الثاني: الليث بن سَعْد بن عبد الرحمن الفَهْمي -بفتح الفاء وسكون الهاء- أبو الحارث، الإِمام المصري.
قال يَحْيى بن بُكْير: سعد أبو الليث، مولى قريش، وإنما افترضوا في فَهْم فنُسب إليهم، وأصلهم من أصبهان، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أصبهان. قال ابن يونُس: وليس لما قالوا من ذلك عندنا صحة؛ فالصحيح أنه فَهْمِيّ، مولى عبد الرحمن بن خالد بن مُسافر؛ وأما كونهم من أصبهان فهو حَقٌّ لقول اللَّيث: نحن من أهل أصبهان فاستوصوا بهم خيرًا، وفَهْم من قَيْس عَيْلان، ونقل غيرواحد عن الَّليْث أنه قال: دخلت على نافع مولى ابن عمر، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت من قيس، قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين.
ولد بقَلْقَشَنْدَة، وهي قرية على أربعة فراسخ من مصر، سنة أربع وتسعين.
قال ابن سعد: كان قد اشتغل بالفتوى في زمان، وكان ثقة، كثير الحديث، صحيحه، وكان سريًّا من الرجال، نبيلا، سخيًا، من
سخائه ما ذكره أبو صالح، كاتب الليث عن مالك، قال: كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا، أي احتجب، فقلنا: ليس هذا يشبه صاحبنا، قال: فسمع مالك كلامنا، فأمر بإدخالنا عليه، وقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد، قال: تشبهوني برجل كُتِبَ له في قليل عُصْفُرٍ نَصْبُغُ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينا منه ما صبغنا به ثياب صبياننا، وثياب جيراننا، وبعنا الفضل بألف دينار. وقال قُتيبة بن سعيد: قفلنا مع الليث بن سعد من الإِسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن، سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة، وكان لا يتغذى وحده، ولا يتعشى وحده إلا مع الناس. ومن طريق منصور بن عمار، قال: كنت عند الليث جالسًا فأتته امرأة، ومعها قدح، وقالت له: يا أبا الحارث! إن زوجي يَشتكي، وقد نُعِتَ لنا العسل، فقال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك مطرًا، والمطر عشرون ومئة رطل؛ فجاء الوكيل يُسارِره بشيء، فقال له الليث: اذهب فأعطِها مطرًا، إنها سألت بقدرها، وأعطيناها بقدرنا. وعن منصور قال: دخلت على الليث، وعلى رأسه خادم، فغَمَزَه، فخرج فضرب بيده إلى مصلاه، فاستخرج منه كيسًا: فرمى بها إلي، وقال لي: يا أبا السري لا تعلم به ابني فتهون عليه، فإذا فيه ألف دينار. وقال أبو حاتم ابن حِبّان: كان الليث لا يتردد إليه أحد إلا أدخله في جملة عياله، ما دام يتردد إليه، وإذا أراد الخروج، زوده بالبغلة إلى وطنه. وقال الترمذي: سمعت قُتيبة، يقول: كان الليث في كل صلاة يتصدق على ثلاث مئة مسكين. وقال الأشهب: كان الليث لا يرد سائلًا.
وقال محمَّد بن رُمْح: كان دخلُ الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه درهمًا قط بزكاة. وتال ابن وَهْب: كان الليث يصل مالكًا كل سنة بمئة دينار، وكتب مرة أن عليّ دينًا، فبعث إليه بخمس مئة دينار.
وقال يحيى بن بُكيْر: وصل الليث ابن لَهيعة لما احترقت داره بألف دينار، وحج فأهدى إليه مالك طبقًا فيه رطب، فرد إليه على الطبق ألف دينار، هكذا قال ابن حَجَر، والذي في ابن خلكان هو أن مالكًا أهدى إليه
صينية، فيها تمر فأعادها مملوءة ذهبًا، وكان يتخذ لأصحابه الفالوذَج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل كل من أكل كثيرًا أكثر من صاحبه. وقال الحارث بن مِسكين: اشترى قوم من الليث تمره بمال، ثم إنهم ندموا، فاستقالوه، فأقالهم، ثم استدعاهم، فأعطاهم خمسين دينارًا، وقال: إنهم أمَلُوا أملًا، فأحببت أن أعوضَهم.
ومن ثنائه عليه في الفقه ما قال حَرْمَلة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: الليث أنفع للأثر من مالك. وقال أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقُوموا به، وفي رواية: ضيعه قومه، وفي أخرى ضيعه أصحابه، ومعنى تضييع أصحابه له، هو أنهم لم يُدَوِّنوا فقهه كما دون فقه مالك. وقال يحيى بن بُكيْر: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك. وقال سعيد بن أيوب: لو أن مالكًا والليث اجتمعا، كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكًا فيما يريد. وقال سعيد بن أبي مَرْيم: ما رأيت أحدًا من خلق الله تعالى أفضل من الليث، وما كانت خَصْلةٌ يُتقَرَّبُ بها إلى الله تعالى، إلا كانت في الليث.
وقال أبو يَعلى: كان إمام وقته بلا مُدافعة، وكان ابن وَهْب يومًا يقرأ عليه "مسائل" الليث، فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكًا يجيب فيجيب، فقال ابن وَهْب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو، ما رأينا أحدًا أفقه من الليث. وقال هارون بن سعيد: سمعت ابن وَهْب، وذكر اختلاف الأحاديث والناس، فقال: لولا أني لقيت مالكًا والليث لضللت. وقال شُرَحبيل بن جَميل: أدركت الناس زمن هشام بن عبد الملك، والناس إذ ذاك متوافرون، وكان بمصر يزيد بن أبي حبيب، وغيره، والليث إذ ذاك شاب، وإنهم ليعرفون له فضله، وورعه، ويقدمونه. وقال ابن بُكير: ورأيتُ من رأيتُ فلم أر مثل الليث، وفي رواية: ما رأيت أكمل من الليث، كان فقيه البدن، عربيَّ اللسان،
يُحسِنُ القرآن، والنحو، ويحفظ الحديث، والشعر، حسن المذاكرة، لم أر مثله. وقال شُعَيب بن الليث: قيل لليث: إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أو كلما في صدري في كتبي؟ لو كتب ما في صدري ما وسعه هذا المركب. وقال يحيى بن بُكير: قال الليث: كنت بالمدينة، فذكر قصته، قال: فقال لي يحيى بن سعيد الأنصاري: إنك إمام منظور إليك.
وقال عبد الله بن صالح: إن مالكًا كتب إلى الليث، فقال في رسالة: وأنت في إمامتك، وفضلك، ومنزلتك، وحاجة من قبلك إليك، وذكر باقي الرسالة. وقال الشافعي أيضًا: ما فاتني أحد فأسفت عليه، ما أسفت على الَّليث. وابن أبي ذئب. وقال ابن وَهْب: كل ما كان في كتب مالك، وأخبرني من أرضى من أهل العلم، فهو الليث. وقال ابن حِبّان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه، فقهًا، وورعًا، وعلمًا، وفضلًا، وسخاءً، وقال الدَّرَاوَرْدِيّ: رأيت الليث عند ربيعة، يناظرهم في المسائل، وقد فاق أهل الحلقة. وقال أيضًا: رأيت الليث عند يحيى ابن سعيد، وربيعة وإنهما ليزحزحان له، ويعظمانه. وقال عثمان الدّارِمِيّ: قلت لابن مَعين: فالليث أحب إليك أو يحيى بن أيوب؟ قال الليث أحب إليَّ، ويحيى ثقة، قلت: فإبراهيم بن سعد أو الليث؟ قال: ثقتان، قلت: فالليث كيف حديثه عن نافع؟ قال: صالح، ثقة، وقال ابن المَدِيْنِيّ: الليث ثقة، ثبت. وقال العِجْلي: مصري، ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أنس (*): أصح الناس حديثًا عن المَقْبريّ الليث، كان يفصلُ ما روى عن أبي هريرة، وما روى عن أبيه عن أَبي هريرة. وقال عثمان بن صالح السَّهْمِيّ: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا، وكان أهل حمص ينتقِصون عليًا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عَيَّاش، فحدثهم بفضائل علي فكفوا عن ذلك. وقال أبو داود: ليس ينزل أحد نزوله، كان يكتب الحديث على وجهه.
(*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: أبيه، والله أعلم.
ومن عجيب أمره ما حَدَّث به عنه لؤلؤ، خادم الرشيد، قال: جرى بين هارون الرشيد، وبنت عمه زُبَيْدَة بنت جَعْفر كلام، فقال هارون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم فجمع الفقهاء، فاختلفوا، فكتب إلى البلدان فأحضر علماءها، فلما اجتمعوا جلس لهم، فاختلفوا، فسألهم فاختلفوا، وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس، وهو اللَّيث بن سعد، قال: فسأله، قال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته، فصرفهم، فقال: يدنيني أمير المؤمنين فأدناه، فقال: أتكلم على الأمان، قال: نعم، فأمر بإحضار مصحف، فأحضره، قال تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن، فاقرأها، ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قال: أمسك يا أمير المؤمنين! قل: والله إني أخاف مقام ربي، قال: فاشتد ذلك على هارون الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين! العهد أملك، فحلف هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! هما جنتان وليستا بجنة واحدة، قال: فسمعنا التصفيق من وراء الحجاب، والفرح، فقال له الرشيد: أحسنت وأمر له بالجوائز، والخِلع، وأمر له بإقطاع الجيزة، ولا ينصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مكرمًا. وعن عبد الله بن صالح قال: سمعت اللَّيث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد، قال: يا ليث! ما صلاح بلدكم؟ قلت يا أمير المؤمنين! صلاح بلدنا إجراء الليل، وصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكَدَرُ، فإذا صفا رأس العين صفت العين، قال: صدقت يا ليث.
قال ابن حَجَر: تتبعت كتب الخلاف كثيرًا، فلم أطلع فيها على مسألة واحدة انفرد فيها الليث عن الأئمة، من الصحابة والتابعين، إلا في مسألة واحدة، وهي أنه كان يرى تحريم أكل الجراد المَيِّت، وقد نُقل ذلك عن بعض المالكيين، قلت: مشهور مذهبنا أعني معاشر المالكية أن لا تُؤْكَلَ ميتته، ولا بد له من ذكاة، ولكن ذكاته بما يموت به، ولو لم يُعَجَّل موته، كقطع الجناح، وقد ألف ابن حَجَر العَسقَلاني رسالة،
سماها "الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية"، أدرك الليث نيفًا وخمسين رجلًا من التابعين.
روى عن: نافع، وابن أبي مُلَيْكة، ويزيد بن أبي حبيب، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وأخيه عبد ربه بن سعيد، وابن عَجْلان، وهشام ابن عُروة، وعطاء بن أبي رباح، وبُكَير بن الأشَجّ، وسعيد المَقْبري، وأبي الزِّناد، وعبد الرحمن بن القاسم.
وحج الليث سنة ثلاث عشرة فسمع من ابن شهاب بمكة، وروي عنه أنه قال: كتبت عن علم ابن شهاب الزُّهْري علمًا كثيرًا، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرُّصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى، فتركه هو وعبد الرحمن بن القاسم، وقتادة، وجعفر بن ربيعة، وخلق كثير.
وروى عنه: شعيب، ومحمد بن عَجْلان، وهشام بن سعد، وهما من شيوخه، وابن لهيعة، وهُشَيم بن بَشير، وقَيْس بن الرَّبيع، وعطاف ابن خالد، وهم من أقرانه، وابن المُبارك، وابن وَهْب، ومروان بن محمَّد، وأبو النَّضر، وأبو الوليد بن مُسلم، وسعيد بن كَثير بن غُفَير، وخلق كثير.
مات يوم الجمعة، نصف شعبان، سنة خمس وسبعين ومئة، وقبره في قَرافة مصر، مشهور يزار.
وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه، نعم من الرواة ثلاثة غيره، أحدهم: ابن أخي سعيد بن أبي مريم شيخ لأحمد بن يحيى بن خالد الشَّرقي، شيخ الطَّبراني، مات سنة تسع وثلاثين ومئتين.
والثاني: ابن أبي خالد بن نجيح، يروي عن خالد، وابن وَهْب، ذكرهما ابن يونُس في، "تاريخ مصر"، وهما متأخران عن طبقة أصحاب الليث، والثالث: متأخر عنهم، واسم جده سليمان بن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن محمَّد بن سعد، يكنى أبا عمر النَّسَفِيّ وثقه الخطيب.
الثالث: عُقَيل -بضم العين- بن خالد بن عَقيل، مكبرًا، أبو خالد الأموي مولى عثمان، وثقه أحمد، وابن سعد، والنسائي، وقال أبو زُرعة: صدوق، ثقة. وقال ابن مَعين: أثبت من روى عن الزُّهري مالك، ثم معمر، ثم عُقَيل، وفي رواية عنه: أثبت الناس. في الزُّهري مالك، ومَعْمر، ويونُس، وعُقَيل، وشُعيب، وسفيان. وقال ابن راهوية: عُقَيل حافظ، ويونس صاحب كتاب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي؛ عُقَيل أحب إليك أم يونُس؟ فقال عُقيل أحب إلى، لا بأس به، وسئل أبي أيما أثبت عُقَيل، أو مَعْمر؟ فقال: عُقِيل أثبت، كان صاحب كتاب. وقال عبد الله بن أحمد: ذُكر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عُقيل، وإبراهيم بن سعد كأنه يضعفهما، فقال: وأي شيء هو؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرْهم. وقال ابن عُيينة عن زياد بن سعد: كان عُقيل يحفظ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العُقيلي: صدوق، تفرد عن الزهري بأحاديث، وكان الزُّهري يكون بِأَيْلَة، وله بها ضَيْعة، وكان يكتب عنده هناك الماجَشُون، وكان عُقيل شرطيًا بالمدينة.
روي عن: أبيه، وعمه زياد، ونافع مولى ابن عُمر، وعِكْرمة، والحسن، وسعيد بن أبي سعيد الخدري، والزُّهري، وغيرهم.
وروى عنه: ابنه إبراهيم، وابن أخيه سلامة بن رَوْح، والمُفَضَّل بن فَضَالة، والليث بن سعد، وابن لَهيعة، وجابر بن إسماعيل. وحدث عنه يونُس بن يزيد، وهو من أقرانه، وغيرهم.
مات بمصر فجأة، سنة واحد وأربعين ومئة، وقيل سنة أربع، وليس في الكتب الستة من اسمه عُقَيل بالضم سواه، إلا يحيى بن عُقَيل الخُزاعي البَصْري، روى له مسلم، وإلا بنو عُقَيل القبيلة لها ذكر في مسلم، وما عدا الثلاثة فبفتح العين، وكسر القاف، كعَقيل بن أبي طالب، له ذكر في "الصحيحين"، قال العراقي:
عُقَيلٌ القَبِيلُ وابنُ خالدِ
…
كذا أبو يَحْيى وقَافُ وَاقِدِ
وقال سيدي عبد الله في "غر الصباح":
واضْمُم عُقَيْلَ اللَّذْ أَبوهُ خالدٌ
…
وفَتْحُ ما سِواهُ طُرًّا وارِدُ
وإنما أطلق في فتح ما سواه، لأن القبيلة، وأبا يحيى ليس لهما رواية في الكتب.
والأَيْلِيّ نسبة إلى أيْلَةَ قرية بين يَنْبُع ومصر، وعقبتها معروفة، وينسب إليها هارون بن سعيد الأَيْلِيّ، ويونس بن يزيد الأَيْلِيّ. وهؤلاء يشتبهون بالأُبُليّ بضم الهمزة والموحدة، وتشديد اللام نسبة إلىِ أُبُلَّة بلدة بقرب البصرة، قال ابن الصلاح: لم يُنسب لها إلا شَيْبان بن فَرُّوخ من شيوخ مسلم، فهو أُبُليّ، وإلى ذلك أشار العراقي بقوله بعد قوله:"وقاف واقد":
لَهُم كذا الأَيْليّ لا الأُبُليّ
…
قالَ سِوى شَيْبانَ والرّا فاجْعَلِ
وهذا النوع يسمى عند المُحدثينَ بالمُؤتَلِف والمُختلف وهو أن تتفق الأسماء أو الألقاب أو الأنساب خطًا لا لفظًا، سواء كان مرجع الاختلاف النقط أو الشكل، وهو من مهمات فن الحديث، حتى قال ابن المَدِيني: أشد التصحيف ما يقع في الأسماء، ووجهوه بأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء دال عليه، ولا بعده، والتصانيف فيه كثيرة، وأكملها بالنسبة لما قبله، كتاب "الإِكمال" للأمير أبي نَصْر بن ماكُولا، وهو قسمان: أحدهما: وهو الأكثر، ما لا ضابط له يُرجع إليه لكثرته، وإنما يعرف بالنقل والحفظ، كأَسِيْد وأُسَيْد، وحِبّان وحَبَّان وحَبَّان.
وثانيهما: ما ينضبط لقلة المتشابهين، ثم تارة يراد به التعميم، بأن يقال: ليس لهم فلان إلا كذا، وتارة به التخصيص بـ "الصحيحين" و"الموطأ" بأن يقال: ليس في كتب الثلاثة إلا كذا، وإلى تعريف المؤتلف والمختلف أشار العراقي بقوله:
واعْنَ بِما صُوْرَتُهُ مُؤْتَلِفُ
…
خَطًا ولكِنْ لَفظُهُ مُخْتَلفُ
نَحوُ سَلامٍ كُلّهُ فَثَقَلِ
وهو فصل طويل ونشير إن شاء الله لكل ما جاء منه في محله.
الرابع: محمَّد بن مسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شِهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرّة القُرشي الزُّهري الفقيه، أبو بكر الحافظ المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام.
قال البخاري عن علي بن المَدِينيّ: له نحو ألفي حديث. وقال الآجُرّي عن أبي داود: جميع حديث الزُّهري كله ألفا حديث ومئتا حديث، النصف منها مسندة، وقدر مئتين عن غير الثقات، وأما ما اختلفوا فيه فلا يكون خمسين حديثًا، والاختلاف عندنا ما تفرد به قوم على شيء. قال معمر: سمع الزُّهري من ابن عمر حديثين. وقال العِجْلي: روى عن ابن عمر نحوًا من ثلاثة أحاديث. وقال ابن سعد: كان الزُّهري ثقة، كثير الحديث، والعلم والرواية، فقيهًا، جامعًا. وقال أبو الزِّناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس. وقال ابن وَهْب عن الليث: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئًا قَطُّ فنسيه. وقال ابن مَهْدي: سمعت مالكًا يقول، قال الزُّهري: ما استفهمت عالمًا قط، ولا زدت على عالم شيئًا قط. وقال الليث: ما رأيت عالمًا قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علمًا منه، ولو سمعته يحدث في الترغيب لقلت لا يَحْسُنُ إلا هذا، وإن حدث عن الأنساب قلت لا يَعْرِف إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه نوعًا جامعًا. وروى عنه الليث أنه قال: ما نشر أحد العلم نشري، ولا بَذَلهُ بَذْلي. وقال أيوب: ما رأيت أعلم من الزُّهري، فقال له صَخْر بن جُويْرية: ولا الحسن، فقال: ما رأيت أعلم من الزُّهري، وروي عن عَمْرو بن دينار أنه قال: أي شيء عند ابن شهاب، أنا لقيت ابن عُمر ولم يلقه، ولقيت ابن عباس ولم يلقَه؛ فقدم الزُّهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه، وكان قد أُقعِد فحملوه إليه، فلم يأت أصحابه إلا بعدَ لَيْل، فقالوا له: كيف رأيت؟ فقال: والله ما رأيت مثل هذا القرشي قَطُّ. وقيل لمكحول: من أَعْلَم من رأيت؟ قال:
ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب ثلاث مرات وروى سعيد ابن عبد العزيز عن مكحول أيضًا أنه قال: ما بقي على ظهرها أعلم بسنة ماضية من الزُّهري. وقال النسائي: أحسن أسانيد تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده، والزُّهري عن عُبيد الله عن ابن عباس، وأيوب عن محمَّد عن عبيدة عن علي، ومنصور عن إبراهيم عن عَلْقمة. وقال ابن عُيينة عن عمرو بن دينار: ما رأيت أنص للحديث من الزُّهري. وقال جَعفر بن ربيعة: قلت لعِراك ابن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ فذكر سعيد بن المُسيِّب، وعُروة، وعُبيد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعًا ابن شهاب، لأنهم جمع علمهم إلى علمه. وقال مَعْمر: قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: لم يبق أعلم بسنة ماضية منه. قال معمر: وإن الحسن وضُرباءَهُ لأحياء يومئذ، وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى الآفاق: عليكم بابن شِهاب، فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بسنة ماضية منه. وقال إبراهيم ابن سعد بن إبراهيم: قلت لأبي: بم فاقكم الزهري؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يلقى في المجلس كهلًا إلا سأله، ولا شابًا إلا سأله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يلقى فيها شابًا إلا سأله، ولا كهلًا ولا عجوزًا ولا كهلة إلا سألها، حتى يحاول ربات الحِجال. قال معمر بن صالح بن كَيْسان: كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السنة، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب، ولم نكتب، فأنَجَحَ، وضَيَّعْتُ. وقال سعيد بن عبد العزيز. سأل هشام بن عبد الملك الزُّهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربع مئة حديث، ثم إن هشامًا قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفًا. وقال معمر: ما رأيت مثل الزُّهري في الفن الذي هو فيه. وقال مالك: كان من أسخى الناس، وكان سخيًّا ما له في الناس نظير.
وحضر الزهري يومًا مجلس هشام بن عبد الملك وعنده أبو الزِّناد، عبد الله بن ذَكْوان، فقال هشام: أي شهر كان يخرج العطاء فيه لأهل المدينة؟ فقال الزُّهري: لا أدري، فسأل أبو الزِّناد، فقال: من المحرم، فقال هشام للزهري: يا أبا بكر! هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس أمير المؤمنين أهل أن يستفاد منه العلم.
وكان إذا جلس في بيته وضع حوله كتبه، فيشتغل بها عن كل شيء في أمور الدنيا، فقالت امرأته يومًا: إن كتبك هذه أشد علي من ثلاث ضرائر.
وكان أبو جده، عبد الله بن شهاب، يوم بدر، مع المشركين، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد، لَئِن رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلونه، أو ليقتلُن دونه، وروي أنه قيل للزهري: شهد جدك بدرًا؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني أنه كان في صَفِّ المشركين، وكان أبوه مُسلم مع مُصعَب بن الزُّبير، ولم يزل الزهري مع عبد الملك، ثم ابنه هشام، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه.
روى عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جَعْفر، وربيعة بن عباد، والمِسْوَر بن مَخْرَمَة، وعبد الرحمن بن أزْهر، وسهل بن سعد، وأنس، وجابر، وأبي الطُّفَيْل، والسّائِب بن يزيد، ومحمود بن الرَّبِيع، ومحمد ابن لَبيد، وثَعْلَبة بن أبي مالك، وأبي أُمامة بن سَهْل بن حَنيف، ومالك ابن أوس بن الحَدثان، وخلق كثير.
وروى عنه عطاء بن أبي رَباح، وأبو الزُّبير المكي، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، وصالح بن كَيْسان، وأَبَان بن صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السَّخْتِياني، والأَوْزَاعيّ، وابن جُرَيْج، والليث، ومالك، وسفيان بن عُيينة، ومحمد بن المُنْكَدِر، ومنصور بن المُعْتَمِر، وخلق كثير.
مات بالشام سنة أربع وعشرين ومئة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة،
وأوصى أن يدفن على الطريق بقرية، يقال لها: شغبى ويَدا -بفتح الشين، وإسكان الغين المعجمة، ثم باء موحدة والقصر وبدا بفتح الباء الموحدة والدال المهملة بعدها ألف- وقيل: شغب وبدًّا: واديان وهُو الذي يدل عليه قول كُثَيِّر عَزّة:
وأَنْتِ الّتي حَبَّبْتِ شغبى إلى بَدَاً
…
إليَّ وأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُما
إذا ذَرَفَتْ عَيْنَايَ أعْتَلُّ بالقَذَى
…
وعَزَّةُ لَوْ يَدْرِي الطَّبيْبُ قَذَاهُما
وَحَلَّتْ بِهذا حَلَّةً ثُمَّ أَصْبَحَتْ
…
بِهذا فَطَابَ الوَادِيانِ كِلَاهُما
وقيل: إنه دُفن في ضيعة له، اسمها أَدَامى بفتح الهمزة والدال والميم وبعد الدال ألف وبعد الميم ألف مقصورة، وهي خلف شَغْبٍ وبَدَا، وقيل: مات ببيته بنَغَفٍ، وهي قرية عند القرى المذكورة.
والزُّهْرِيّ في نسبه نسبة إلى زهرة بن كِلاب بن مُرّة، أحد بطون قريش السابعة، وهو بطن آباء آمنة بنت وَهَب بن عبد مناف بن زُهرة، والمشهور عند جميع أهل النسب أن زُهرة اسم الرجل وشذّ ابن قُتيبة فجعله اسم امرأته، وأن ولدها غلب عليهم النسب إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب، هشام بن الكَلْبِيّ: إن اسم زُهرة المغيرة، فإن ثبت قول ابن قُتيبة، فالمغيرة اسم الأب (وزُهرة اسم امرأته) فنسب أولادها إلى أمهم، ثم غلب ذلك حتى ظن أن زهرة اسم الأب، فقيل: زُهرة بن كلاب، وزُهرة بضم الزاي بلا خلاف "من فتح الباري".
الخامس: عروة بن الزبير.
والسادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وتقدما في الحديث الذي قبل هذا.
وأما خديجة: فهي أم المؤمنين، خديجة بنت خُويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قُصَيّ بن كِلاب القرشية الأسَدِيّة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من صدقت ببعثه مطلقًا، قال الزُّبَيْر بن بَكّار: كانت تدعى قبل الإِسلام
الطاهرة، وأمها فاطمة بنت زائدة، قرشية من بني عامر بن لُؤَي، وكانت عند أبي هَالّة بن زُرارة بن النباش بن عدي التميمي أولًا فولدت له هندًا، ثم خلف عليها بعد أبي هالة عتيق بن عابد بن عبد الله بن عُمر بن مَخْزوم، ثم خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن قتادة عكس هذا أن أول أزواجها عتيق، ثم أبو هالة، ووافقه ابن إسحاق في رواية ابن بُكَير عنه، وصحح ابن عبد البَرّ الأول، والذي زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم عمها عَمْرو بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ، لأن أباها مات في الجاهلية، وقال عَمْرو بن أسد: محمَّد بن عبد الله يَخْطُبُ خديجة هو الفَحْل لا يُقْدَع أنفه، وكانت إذ تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين سنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تزوجها ابن إحدى وعشرين سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين، وهو الأكثر، وقيل: ابن ثلاثين، ولم يختلفوا أنه وُلِدَ له منها ولدُهُ كلهم حاشا إبراهيم، وأجمعوا أنها ولدت أربع بنات كلهن أدركن الإِسلام وهاجرن، وهن زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وأجمعوا أنها ولدت له ابنًا يسمى القاسم، وبه كان يكنى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قابِلَتُها سلمى مولاة صَفِيّة، وكانت تسترضع، وتعد ذلك قبل أن تلد، وأكبر أولاده القاسم، الذي كُنِي به، ثم زينب، ثم عبد الله، وكان يقال له: الطيب والطاهر ولد بعد النبوة، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رُقَيّة، ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت مات من ولده، ثم مات عبد الله أيضًا بمكة، وقيل: إن زينب أكبر من القاسم، وصححه ابن عبد البَرّ، ولم يتزوج في الجاهلية غيرها، ولا تزوج عليها من نسائه حتى ماتت، ولم تلد له من المهاري غيرها؛ وهي أول من آمن به من الرجال والنساء مطلقًا، فقد روي عن أبي رافع قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلت خديجة آخره.
وعن أبي نُعيم في "الدلائل" بسند ضعيف، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا معها إذ رأى شخصًا بين السماء والأرض، فقالت له خديجة: ادن مني، فدنا منها، فقالت: تراه؟ قال: "نعم"، قالت: أدخل
رأسك تحت درعي ففعل، فقالت: تراه؟ قال: "لا"، قالت: أبشر، هذا ملك إذ لو كان شيطانًا لما استحيا، ثم رآه بأجياد، فنزل إليه، وبسط له بساطًا، وبَحَثَ في الأرض، فَنَبَعَ الماء، فعلمه جبريل كيف يتوضأ، فتوضأ وصلى ركعتين نحو الكعبة، وبشره بنبوته وعلمه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم انصرف، فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال: سلام عليك يا رسول الله! فجاء إلى خديجة فأخبرها، فقالت: أرني كيف أراك؟ فأراها، فتوضأت كما توضأ، ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله.
قال ابن إسحاق: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من الرد عليه، فيرجع إلا ثبتته، وتهون عليه أمر الناس، وذكرت عائشة في حديث بدء الوحي، ما صنعته من نقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم لتلقي ما أنزل الله عليه، فقال لها:"لقد خشيت على نفسي" فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، وذكرت خصاله الحميدة، وتوجهت إلى وَرَقَة بن نَوْفَل وهو في "الصحيح".
وفي ابن عبد البر أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك تعني جبريل عليه السلام، فلما جاءه، قال:"يا خديجة هذا جبريل قد جاءني" فقالت: قُم يا ابن عم، فاقعُد على فخذِي اليمنى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتَحَوَّلْ إلى اليسرى، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فاجلس في حِجْري، ففعل، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، فألقت خمارَها، وحسرت عن صدرها، فقالت هل تراه؟ قال:"لا"، قالت: أبشر فإنه والله ملك، وليس بشيطان.
وكانت خديجة ذات جمال وشرف، وكانت موسرة، وكان سبب رغبتها بالرسول صلى الله عليه وسلم ما حكاه لها غلامها ميسرة بما شاهده من علامات النبوة
قبل البعثة، ومما سمعته من بَحيرا الراهب في حقه، لما سافر معه ميسرة في تجارة خديجة، وأسند الواقِدِّي قصة تزويجه بها عن نَفِيسَة بنت مُنْيَة، أخت يَعْلى ابن مُنْيَة، قالت: كانت خديجة امرأة، جلدة، شريفة، كثيرة المال، ولما تأيمت كان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، فلما أن سافر النبي صلى الله عليه وسلم في تجارتها ورجع بربح وافر، رغبت فيه، فأرسلتني رسيسًا إليه، فقلت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما في يدي شيء، فقلت: فإن كُفيت، ودُعيت إلى المال، والجمال، والكفاءة، قال: ومن؟ قلت: خديجة، فأجاب.
وروى ابن المدائِنِيّ بسند له عن ابن عباس "أن نساء أهل مكة اجتمعن في عيدٍ لَهُنَّ في الجاهلية، فتمثل لهن رجل، فلما قرب منهن نادى بأعلى صوته، يا نساء مكة إنه سيكون في بلدكن نبي، يقال له أحمد، فمن استطاع منكن أن يكون زوجًا له فَلْتَفْعَل، فحَصَبْنَهُ إلَّا خديجة فإنها عَضَّت على قوله ولم تُعَرِّض له.
وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة ما لم يثن على غيرها، وذلك في حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغَيْرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزًا من العرب قد أبدلك الله خيرًا منها؟، فغضب، وقال: لا والله ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني فيها الله الولد دون غيرها من النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبة أبدًا.
وعن عائشة أيضًا أنها قالت: ما غِرْت على امرأة ما غِرْت على خديجة، وما بي أن أكون قد أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وإنه كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة، يهديها لهن.
وفي "الصحيح" عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول:
"أرسلوا إلى أصدقاء خديجة"، قال: فذكرت له يومًا، فقال "إني لأحب حبيبها".
وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَب فيه، ولا نَصَب.
وعند مسلم من حديث أبي زرعة سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فقال: يا رسول الله هذه خديجة، أتتك، ومعها إناء فيه طعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام ومني" وأخرجه النسائي من حديث أنس جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقرأ على خديجة السلام، فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمته تعالى وبركاته.
وعن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ نساءِ العالمينَ أربعٌ، مريمُ بنتُ عِمْران، وابنةُ مُزاحم امرأة فِرْعون، وخديجةُ بنتُ خُوَيْلد، وفاطمةُ بنتُ محمَّد صلى الله عليه وسلم". وفي "الصحيحين" عن علي رفعه: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خَديجة بنتُ خُويلد"، ويفسر المراد به ما أخرجه ابن عبد البر في ترجمة فاطمة، عن عِمران بن حُصَيْن أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة، وهي وجِعَة، فقال:"كيف تجدينك يا بنية؟ " قالت: إني لوجعة وإنه لَيزيد ما بيَ، ما لي طعام آكله، فقال:"يا بنية أما ترضَيْن أنكِ سيدة نساءِ العالمينَ" قالت: يا أبتِ فأين مريم بنت عمران؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها" فعلى هذا مريم خير نساء الأمة الماضية، وخديجة خير نساء الأمة الكائنة، وتحمل قصة فاطمة، إن ثبتت على أحد أمرين: إما التفرقة بين الخيرية والسيادة، وإما أن يكون ذلك بالنسبة إلى من وجد من النساء حين ذكر قصة فاطمة.
وأخرج ابن السُنِّي بسند له عن خديجة أنها خرجت تلتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ومعها غذاؤه، فلقيها جبريل في صورة رجل، فسألها عن النبي صلى الله عليه وسلم فهابته، وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يغتاله، فلما ذكرت
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "هو جبريلُ، وقد أمَرَني أن أقرأ عليك السلام" وبشرها ببيت في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب.
ومن مزاياها أنها ما زالت تعظم النبي صلى الله عليه وسلم وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها، وقالت له لما أرادت أن يتوجه في تجارتها: إنه دعاني إلى البعث إليك ما بَلَغَني من صدق حديثك، وعظم أمانتك؛ وكرم أخلاقك، وقالت له لما خطبها: إني قد رغِبْت فيك لحسن خُلقك، وصدق حديثك، ومن طواعيتها له قبل البعثة أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة، بعد أن صار في ملكها، فوهبته له صلى الله عليه وسلم فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السَّبْق إلى الإِسلام، حتى قيل: إنه أول من أسلم مطلقًا.
وفي كتاب الزُّبَيْر بن بَكّار عن عبد الرحمن بن زيد، قال آدم عليه الصلاة والسلام: مما فَضَّلَ الله ابني عليَّ أن زوجتهُ خديجة كانت عونًا له على تبليغ أمرِ الله عز وجل، وأن زوجتي كانت عَوْنًا على المعصية.
وتقدم في ترجمة عائشة الخلاف، هل هي أفضل أم عائشة؟ وأن الصحيح أفضليتها.
كانت وفاة خديجة، وأبي طالب في عام واحد، ويقال: إنها تأخرت بعده بثلاث ليال، وكانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح، وقيل: بأربع، وقيل: بخمس، وقالت عائشة: ماتت قبل أن تُفْرض الصلاة، يعني قبل أن يُعْرَج بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: كان موتها في رَمضان، لعشرٍ خَلَوْن منه، ودفنت بالحَجُون، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها، ولم تكن الصلاة على الجنائز شرعت حينئذٍ، وروي عن يحيى بن عبد الرحمن، قال: جاءت خَوْلة بنت حَكيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! كأني أراك قد دخلتك خَلّة لفقد خديجة، قال: أجل كانت أم العيال، وربة البيت، وروي عن عبد الله بن عمير، قال: وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى خُشِيَ عليه، حتى تزوج عائشة.
وأما ورقة، فهو ورقة -بفتح الراء- بن نَوْفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ القرشي الأسدي.
قال الكِرْماني: لا شك أنه كان مؤمنًا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وأما الإِيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يعلم أن دين عيسى قد نُسخ، ولئن ثبت أنه كان منسوخًا في ذلك الوقت، فالأصح أنه آمن، لأن الإِيمان التصديق، وهو صدق، ولم يذكر ما ينافي ذلك، وقال ابن مَنْدة: اختلف في إسلام ورقة، وظاهر قوله في الحديث: يا ليتني فيها جذعًا، وما بعده يَدُلُّ على إسلامه، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره، قال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، وفي "مستدرك" الحاكم وصححه قائلًا: إنه على شرط الشيخين من حديث عائشة: أن النبي، عليه الصلاة والسلام قال: رأيت الفتى، يعني ورقة بن نوفل، وعليه ثياب من حريرٍ، لأنه أول من آمن بي وصَدَّقَني، وأخرج ابن عَدِيّ في "الكامل" عن جابر ابن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"رأيت ورقةَ في بطنان الجنة، عليه السُّنْدُسُ، وقال الزُّبَيْر: كان ورقة قد كرِهَ عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة تَسأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بَشَّرَ به موسى، وعيسى".
وأخرج الزُّبَيْر بن بَكّار عن عُروة بن الزُّبَيْر، قال: كان بلال لجارية من بني جُمَح، وكانوا يعذبونه برمضاءِ مكة، يُلْصِقون ظهره بالرَّمضاء، لكي يُشْرِكَ، فيقول: أحدٌ أحدٌ، فيمُرُّ به ورقة، فيقول: أحد أحد يا بلال! والله! لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، وهذا يدُلُّ على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام، حتى أسلم بلال، والجمع بين هذا وحديث عائشة أن يُحمل قوله: ثم لم يَنْشَب ورقة أن توفي، أي قبل أن يشتهر الإِسلام، ويؤمر النبي بالجهاد، ويُعَكِّر على هذا حديث عكرمة، عن ابن عباس، بنحو حديث عائشة، وفي آخره: لَئِنْ كان هُو، ثم أظهرَ اللهُ دينهُ، وأنا حيٌّ، لأُبْلِيَنَّ الله من نفسي في طاعة رسوله، وحسن مؤازرتهِ، فمات ورقة على نصرانيتهِ، لكن فيه عُثمان بن عَطاء، وهو ضعيفٌ،
وأخرج ابن السَّكَنِ بلفظ: رأيتُ ورقةَ على نهرٍ من أنهارِ الجنةِ، لأنه كان يقول: ديني دين زيد، وإلهي إله زيد، وقد قال لما كانت خديجة تذكر له أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذي خَدِيْجَةُ تَأْتيني لأُخبِرَها
…
وَمَا لَنَا بخَفيِّ الغيبِ من خَبَرِ
بأنَّ أحمَدَ يَأْتيهِ فيخْبِرُهُ
…
جبريلُ إنَّكَ مَبْعُوثٌ إلى البَشَرِ
فَقُلْتُ عَلَّ الّذي تَرْجِينَ يُنْجزُهُ
…
لَهُ الإِلهُ فَرَجِّي الخَيْرَ وَانْتَظِرِي
ومن شعره أيضًا:
فَإنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيْجَةُ فاعْلَمي
…
حَدِيثَك إيّانا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيلُ يأتِيهِ ومِيْكالُ مَعْهُما
…
مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلين، ويسبحه فمن ذلك قوله:
لَقَدْ نَصَحْتُ لأَقْوام وقُلْتُ لَهُم
…
أَنا النَّذيرُ فلا يَغْرُرْكُمُ أَحَدُ
لا تَعْبُدُنَّ إلهًا غيرَ خَالِقِكم
…
فَإنْ دَعَوْكُمْ فَقولوا بَيْنَنَا جَدَدُ
سُبْحَانَ ذِيْ العَرْشِ سُبْحانًا نَعُوذُ بِهِ
…
وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجمد
مُسَخَّرٌ كُلُّ ما تَحْتَ السَّماءِ لَهُ
…
لا يَنْبَغي أَنْ يُناوي مُلْكَهُ أَحَدُ
لا شَيْءَ مِما تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ
…
يَبْقَى الإِله وَيَفْنَى المَالُ والوَلَدُ
لَم تُغنِ عن هُرْمزٍ يومًا خَزائِنُهُ
…
والخُلدَ قَد حاوَلتْ عادٌ فَما خَلدوا
ولا سُليمانَ إذ تَجري الرِّياحُ لهُ
…
والإِنسُ والجِنُّ فيما بينَها تَردُ
أينَ الملوكُ التي كانت لِعزَّتها
…
من كلِّ أوبٍ إليها وافدٌ يَفدُ
حَوضٌ هنالِك مورُودٌ بلا كدَرٍ
…
لا بُدَّ من وِردهِ يَومًا كما ورَدُوا
لطائف إسنادِه فيه أن هذا الإِسناد على شرطِ الستة ما عدا يحيى، فإنَّه على شرط الشيخين، ورواته ما بين مصريٍّ ومدني، وفيه روايتُه تابعيٍّ عن تابعي، وهما الزُّهريُّ وعروةُ، وهو من مراسيل الصحابة لأنَّ عائشةَ لم تُدرك هذه القصةَ فتكونُ سَمِعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابيٍّ، وقَد مَرَّ الكلامُ على مرسلِ الصحابي في الذي قبلَه.
وهذا الحديثُ أخْرجهُ البخاري هنا، وفي التفسير والتعبير عن عبدِ الله