المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وأما رجاله فخمسة: - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ١

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تنبيه:

- ‌ كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري

- ‌مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى

- ‌طبقات الصحابة

- ‌ما قيل في عدَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌بعض ما قيل في فَضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم

- ‌ومما هو وارد في فضلهم من الأحاديث:

- ‌الترتيبُ في فضلِ الصَّحابةِ

- ‌في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة

- ‌ما قيل في محبة الصحابة

- ‌ما قيل فيمن سَبَّ الصحابةَ

- ‌الِإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة

- ‌ فروعً

- ‌فيما تُعْرَفُ به الصُّحبة

- ‌في عدالة الصحابة

- ‌في المكثرين رواية وفتوى

- ‌فِيْمَنْ يقالُ لَهُمُ: العبادلة

- ‌فيمن لهم أتباع في الفقه

- ‌فيمن انتهى إليهم العلمُ من الصَّحابةِ

- ‌في عدد الصحابة وطِباقِهم

- ‌في ترتيبهم في الفضل

- ‌في أول من أسلم من الصحابة

- ‌في آخرهم موتًا

- ‌حقيقة التابعين وطبقاتهم

- ‌أفضل التابعين

- ‌الفقهاء السبعة

- ‌المُخَضْرَمونَ

- ‌فائدتان

- ‌نبذة من السيرة النبوية

- ‌ما يُقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية

- ‌موت والده عبد الله

- ‌مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌عام ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌الشهر الذي وُلِدَ فيه

- ‌في أي يوم من الشهر ولد

- ‌اليوم الذي ولد فيه

- ‌على أنه ولد ليلًا

- ‌فضل ليلة المولد على ليلة القدر

- ‌إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم

- ‌رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم

- ‌موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌موت جده عبد المطلب

- ‌قصة بحيرى الراهب

- ‌قصة نسطورا الراهب

- ‌وقت البعثة

- ‌مخرجه إلى المدينة

- ‌مكثه بمكة بعد البعثة

- ‌قدومه المدينة

- ‌قيامه بالمدينة

- ‌عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم

- ‌سِنه عليه الصلاة والسلام

- ‌أزواجه عليه الصلاة والسلام

- ‌أولاده عليه الصلاة والسلام

- ‌أسماؤه عليه الصلاة والسلام

- ‌معنى محمَّد

- ‌معنى أحمد

- ‌خاتَم النُّبُوّة

- ‌تنبيه:

- ‌ تعريف البخاري

- ‌زهده وحسن سيرته

- ‌ثناء أشياخه عليه

- ‌ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه:

- ‌عجيب حفظه

- ‌فضائِلُ الجامعِ الصحيح

- ‌ما وقع له مع محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ

- ‌رجوعه إلى بخارى

- ‌مبادئ علم الحديث

- ‌سند المؤلف المتصل بالبخاري

- ‌ كتاب بدء الوحي

- ‌باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌تنبيه:

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌أنواع الرواية:

- ‌الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ

- ‌أقسام التدليس

- ‌أولها: تدليس الإِسناد:

- ‌والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ

- ‌الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد

- ‌رواية الأقران

- ‌إبدال الرسول بالنبي وعكسه:

- ‌الغريب

- ‌العزيز

- ‌المشهور

- ‌ المتواتر

- ‌ الفرد

- ‌الحديث الثاني

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌الحديث الثالث

- ‌وأما رجاله فستة

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجالُهُ ثلاثةٌ:

- ‌تنبيه:

- ‌الحديث الخامس

- ‌وأما رجاله فخمسة:

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌الحَديث السابع

- ‌الرجال أربعة:

- ‌ كتاب الإِيمان

- ‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإِسلام على خمس

- ‌2 - باب دعاؤكم إيمانكم

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله أربعة:

- ‌3 - باب أمور الإِيمان

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله ستة:

- ‌4 - باب المُسلم مَنْ سَلم المسلمون من لِسانِهِ ويده

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله ستة:

- ‌ورجال التعليقين خمسة:

- ‌5 - باب أي الإِسلام أفضل

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌6 - باب إطعام الطعام من الإسلام

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة:

- ‌7 - باب من الإِيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبَّ لنفسهِ

- ‌الحديث السادس

- ‌ورجال الطريقين ستة:

- ‌8 - باب حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإِيمان

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال الإِسناديْن سبعة:

- ‌9 - باب حلاوة الإِيمان

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌11 - باب

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌12 - باب من الدّين الفِرار مِنَ الفتن

الفصل: ‌وأما رجاله فخمسة:

جمعهُ في صدره، والثانيةُ تلاوتُه، والثالثة تفسيرُه وإيضاحهُ.

وجبريلُ هو ملَكُ الوحي المُفَضَّلُ به على جميع الملائكة، وهو الموكل بإنزال العذاب والزلازل والدمادِم، ومعناه: عبد الله بالسِّريانية. لأن "جبر" عبد و "إيل" اسم من أسماء الله تعالى، فقيل: الله، وقيل: الرحمن، وقيل: الرزاق، كما روي عن عكرمة وابن عكرمة وابن عباس، وقيل: إن الإِضافة في هذه الأسماء مقلوبةٌ فإيل هو العبد، وأوله اسم من أسماء الله تعالى: ومعنى الجبر عند العجم موافق لمعناه في العربية: وهو إصلاح ما فسد، وجبر ما وَهَى من الدين، وفيه تسعُ لغات جَبرئيل بفتح الجيم وسكون الباء بوزن سَلسبيل، وجَبْرَئِل بحذف الياء كجَحِمْرِش، وجَبريل بحذف الهمزة مفتوح الجيم كشمويل، وبوزن قِنديل، وجِبرالّ بلام مشددة، وجِبرائيل بوزن جِبراعيل، وبوزن جِبراعِل بحذف الياء، وجَبْرين بفتح الجيم وبالنون بدل اللام، وجِبرين بكسر الجيم وبالنون أيضًا، وقد قُرىء بأربع منها في المتواترة قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص: جِبريل كقنديل، وقرأ ابن كثير: جَبريل كشَمْويل، وقرأ حمزة والكسائي: جَبْرَئيل كسَلْسَبيل، وقرأ عاصم: جَبْرَئِل كجَحَمُرش، وقُرِىءَ بالبواقي في الشواذ.

‌وأما رجاله فخمسة:

الأول: موسى بن إسماعيل المِنْقري مولاهم أبو سَلَمة التَّبُوذَكي البَصْري، قال عباسٌ الدُّوري، عن ابن معين: ما جلستُ إلى شيخ إلا هابني وعَرَف لي، ما خلا هذا التَّبُوذَكي، وقال: عددتُ ليحيى بن معينَ ما كتبنا عنه خمسًا وثلاثين ألف حديث، وقال الحسين بن الحسن الرّازي، عن ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: سمعتُ ابنَ معين وأثنى على أبي سلمة، وقال: كان كَيِّسًا، وكان الحجاجُ بن مِنْهال رجلًا صالحًا، وأبو سَلَمة أتقنُهما، وقال أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: موسى بن إسماعيل ثقة صدوق، وقال ابنُ المَديني: من لا يكتُب عن أبي سلمة

ص: 287

كتب عن رجل عنه، وقال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه فقال: ثقة، كان أيقظ من الحجَّاج، ولا أعلم أحدًا مِمَّن أدركناه أحسنَ منه حديثًا، وقال ابنُ سَعْد: كان ثقةً كثير الحديثِ، وذكره ابنُ حِبَّان في "الثقات"، وقال: كان من المتقِنين، ويُروى أن ابن معين قال له في حديث: وجدته على ظهر كتابك، لم أجده في صدره، فاحلِف لي أنك سمعتَهُ، فَخَلَفَ له، وقال بعد ذلك: واللهِ لا كَلَّمتُك أبدًا، وقال العِجْلي: بصريٌّ ثقة، وقال ابن خراش تكلم الناس فيه وهو صدوق.

روى عن: جرير بن حازم، وهَمَّام بن يحيى، ووُهَيب بن خالد، وحمّاد بن سَلَمة، وعبد العزيز الماجِشون، ومُعْتَمِر بن سُليمان، وعبد الواحد بن زياد، وخلق.

وروى عنه البخاري، وأبو داود، وروى الباقون عنه بواسطة الحسن ابن علي الخَلَّال، والذي رواه مسلم عنه حديث أم زرع وحدَه، وروى عنه الذُّهلي، وعبيد الله بن فَضَالة ويحيى بن معين، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم.

وآخر من حدث عنه أبو خليفة الفَضْل بن الحُباب، وروى عنه خَلقٌ كثيرٌ.

مات بالبصرة ليلة الثلاثاء لثلاثَ عَشرة خلت من رجب، ودُفن يوم الثلاثاء سنة ثلاث وعشرين ومئتين.

والمِنْقَري في نسبه: بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف نسبة إلى مِنْقَر بن عبيد بن مُقاعِس، واسم مقاعس: الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعيد بن زيد مناة بن تميم، قال ابنُ دُريد: مِن نَقَرْتُ عن الشيءِ: كشفتُ عنه.

والتَّبُوذَكي بفتح التاء المثناة من فوق، وضم الباء المُوَحَّدة، ثم واو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: نسبة إلى تَبُوذَك: بلدة نُسب إليها، لأنه نزل

ص: 288

دار قوم من أهلها، أو لأن قومًا من أهلها نزلوا في داره، وقيل: لأنه اشترى دارًا بِتَبُوذك، وقال السمعانيُّ: نسبة إلى بيع السَّماد -بفتح السين المهملة- وهو السِّرجين يوضع في الأرض ليَجُود نَباتها، وقال ابن ناصر: نسبة إلى بيع ما في بطون الدجاج من الكبد والقلب والقانصة.

الثاني: الوَضّاحُ بن عبد الله اليَشْكُري، مولى يزيد بن عطاء، أبو عَوانة الواسطي البزار، كان من سبي جُرجان، قال هشام بن عبيد الله الرّازي: سألتُ ابن المبارك: مَن أروى الناسِ أو أحسنُ الناس حديثًا عن مُغيرة؟ قال: أبو عَوانة، وقال ابن مهدي: كتاب أبي عَوانة أثبت من حفظ هُشَيم، وقال يحيى القَطَّان: ما أشْبهَ حديثه بحديثهما، يَعني أبا عَوانة وشعبةَ وسفيان، وقال عفان: كان أبو عَوانة صحيحَ الكتاب كثيرَ العَجْم والنَّقْط، وكان ثَبْتًا، وأبو عَوانة في جميع أحواله أصحُّ حديثًا عندنا من هُشَيم. وقال أحمد: إذا حَدَّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حَدَّث من غير كتابه ربما وَهِمَ، وقال ابنُ مَعين: أبو عَوانة جائزُ الحديث، وحديثُ يزيدَ بنِ عطاء ضعيفٌ، ثَبَّتَ حديثَ أبي عوانة، وأسْقَط مولاه يزيد بن عطاء، وقال أبو زُرعة: ثقة إذا حدث من كتابه، وقال أبو حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غلط كثيرًا، وهو صدوق ثقة، وهو أحَّبُّ إليَّ من أبي الأَحْوصِ، ومن جَرير، وهو أحفظ مِن حَمّاد بن سلمة، وقال أحمد: ما أشبهَ حديثَ أبي عَوانة بحديث شُعبة والثَّوْري، قال: وكان أمينًا ثقةً، وكان مع أمانته وثقته يَفْزَع من شعبة، فأخطأ شُعبة في اسم خالد بن عَلْقمة، فقال: مالك بن عُرْفُطة، فتابعه أبو عَوانة على خَطئه بعد أنْ كان رواه على الصواب، وقال ابنُ مهدي: أبو عَوانة وهُشيم كهَّمام وسعيد، إذا كان الكتاب فكتاب أبي عوانة وهمام وإذا كان الحفظ فحفظ هشيم وسعيد، وقال ابنُ سعد: كان ثقةً صدوقًا، ووُهَيب أحفظُ منه، وقال تَمْتَامٌ عن ابن معين: كان أبو عَوانة يقرأ ولا يكتُب، وقال الدُّوري: سمعتُ ابنَ معين، وذكر أبا عوانة وزهيرَ بن معاوية، فَقَدَّم أبا عَوانة. وقال موسى بن إسماعيل: قال أبو عوانة: كل شيء قد حدثتُك به

ص: 289

فقد سمعت، وقال العِجْلي: أبو عَوانة بصريٌّ ثقةٌ، وقال ابنُ شاهين في "الثقات": قال شعبة إذا حدثكم أبو عَوانة عن أبي هُريرة فصدقوه، وقال ابن المديني: كان أبو عَوانة في قتادة ضعيفًا، لأنه كان قد ذهب كتابهُ، وكان أحفظَ من سعيد، وقد أَغْرب في أحاديثَ، وقال يعقوبُ بن شيبة: ثبتٌ، صالح الحفظ، صحيحُ الكتاب، وقال ابن خِراش:. صدوقٌ في الحديث، وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجمعوا على أنه ثقة ثبتٌ حجةٌ فيما حدث به من كتابه، وإذا حدث من حفظه ربما غَلِطَ.

واختلف في سبب عِتقه على أوجه، فقال ابن عَدِيٍّ: كان مولاه قد فَوَّض له في التجارة فجاء سائلٌ، فقال له: أعطني درهمين لأنفعك، فأعطاه فدار السائل على رؤساء البصرة، فقال: بَكِّروا على يزيد بن عطاء، فقد أعتق أبا عَوانة، فاجتمع إليه الناسُ فأَنِفَ من أن ينكر حديثه، وأعتقه حقيقةً، وحكى ابنُ حِبَّان قصةَ عِتقِه، فقال: كان يزيدُ بن عطاء حجَّ ومعه أبو عَوانة، فجاء سائل إلى يزيدَ فسأله فلم يعطهِ شيئًا، فلحقه أبو عَوانة، فأعطاه دينارًا، فلما أصبحوا وأرادوا الدفعَ من المُزْدَلِفَةِ، وقف السائلُ على طريق الناس فكلما رأى رِفقة قال: أيها الناس اشكُروا يزيد ابن عطاء، فإنه تقرب إلى الله تعالى اليوم بِعِتق أبي عَوانة، فجعل الناسُ يمرون فوجًا بعد فوج إلى يزيد يشكرون له ذلك، وهو ينكر، فلما كثروا عليه قال: من يستطيع ردَّ هؤلاء؟ اذهب فأنت حرٌّ، وحكاها أَسْلمُ بن سَهْل على صفة أخرى، وهي أن أبا عَوانة كان له صديق قاصٌّ، وكان يحسن إليه، فأراد أن يكافِئَهُ، فكان لا يجلِسُ مجلسًا إلا قال: ادعوا الله تعالى ليزيد بن عطاء فإنه قد أَعتق أبا عَوانة.

رأى الحسنَ، وابن سيرين، وسمع من معاوية بن قُرَّة حديثًا واحدًا.

وروى عن الأَشْعث بن أبي الشَّعْثاء، والأسودِ بن يزيد، وقَتادة، والأَعْمش، والحكم بن عُتَيْبة، ومنصور بن المُعْتَمر، وسعيد بن مَسْروق، وسِمَاك بن حرب، وخلق كثير.

ص: 290

وروى عنه شعبة، ومات قبله، وابن عُليَّة، وأبو داود، وأبو الوليد الطَّيالسي، والفضل بن مُساوِرٍ صِهرُهُ، وعبد الرحمن بن مَهْدي، وحجاج ابن مِنْهال، وخلقٌ كثير.

مات في ربيع الأول سنة ست وسبعين ومئة.

والواسطيُّ في نسبه نسبة إلى واسطٍ: مدينة اخْتَطَّها الحجاج بن يوسف بين الكوفة والبصرة في أرض كسكر، وهي نصفان على شاطىء دِجلة، وبينهما جِسرٌ من سفن، وسميت واسطًا لأن منها إلى البصرة خمسين فرسخًا، ومنها إلى الكوفة خمسين أيضًا، وإلى الأهواز كذلك، وإلى بغداد كذلك.

واليَشْكُرِيُّ في نسبهِ نِسبةً إلى يَشْكُر أبو قبيلتين عظيمتين في ربيعة، يَشْكُرُ بن علي بن بكر بن وائل بن قاسِط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة، وفي الأَزْدِيَشْكر بن مبشر بن صعب.

الثالث: موسى بن أبي عائشة المخزومِيُّ الهَمْدانيُّ -بإسكان الميم- أبو الحسن الكوفي، مولى آل جَعْدة بن هُبَيْرة.

قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري يحسن الثناء عليه، وقال ابن عُيينة: حدثنا موسى بن أبي عائشة، وكان من الثقات، وقال ابن مَعين: ثقة، وقال جَرير: كنت إذا رأيت موسى ذكرت الله تعالى لرؤيته، وذكره ابن حِبّان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: تُريبُني -بفتح التاء ثلاثي مجرد- روايةُ موسى بن أبي عائشة حديثَ عبيد الله بن عبد الله في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حَجَر: عني أبو حاتم أنه اضْطَرَبَ فيه، وهذا من تَعَنُّتِهِ، وإلا فهو حديث صحيح، وقال يَعْقوب بن سفيان: كوفي ثقة.

روي عن عبد الله بن الهاد بن شَدَّاد، وسليمان بن صُرَد، ويقال: مرسل، وسعيد بن جُبَيْر، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود،

ص: 291

وعَمْرو بن شُعيب، وغيلان بن جَرير، وغيرهم.

وروى عن شعبة، والسفيانان، وأبو عَوانة، وإسرائيل، وزائدةُ، وآخرون، وأبو عائشة لا يعرف اسمه.

والهَمْداني في نسبه نسبة إلى هَمْدان بفتح فسكون، وبالدال المهملة: قبيلةٌ باليمن من حِمْيَر، واسمه أَوْسَلَةُ بنُ مالك بن زيد بن أَوْسَلَة ابن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كَهْلان بن سبأ، والنسبة هَمْداني على لفظه.

وأما الهَمَذاني بفتح الهاء والميم والذال المعجمة، فهو نسبة إلى هَمَذان محركة، بلدة من كُور الجبل، بينها وبين الدِّينَوَرِ أربع مراحل، بناها الهَمَذان بن الفلوج بن سام بن نوح عليه السلام، فتحها المغيرةُ بن شعبة سنة أربع وعشرين على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب في جُمادى الأولى، وهي أحسن البلاد هواءً، وأطيبها وأنزهها، وما زال محلًّا للملوك، ومعدِنًا لأهل الدين والفضلِ لولا شتاؤه المفرِط، بحيث قد أُفْرِدَت فيه كتب، وذُكر في الشعر والخطب، قال كاتب بكر:

هَمَذَانُ مُتْلِفَةُ النُّفوسِ وَبَرْدُها

الزَّمْهَريرُ وَحَرُّها مأمونُ

غَلَبَ الشِّتاءُ مَصيفَها ورَبيعَها

فَكَأَنَّما تَمُّوزها كانُونُ

وسأل عمر بن الخطاب رجلًا: من أين أنت؟ فقال: من هَمَذان.

فقال: أما إنها مدينةُ همٍّ وأذىً يجمُدُ قلوبُ أهلِها كما يجمُدُ ماؤها، والنسبة إلى القبيلة في المتقدمين أكثر، وإلى المدينة في المتأخرين أكثر، ولا يُمكن استيعاب هؤلاء ولا هؤلاء، وممن خرج من الغالب وسُكِّنَ من المتأخرين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن سعيد بن عُقْدة، وأبو الفضل محمد بن محمد بن عطاف، وجعفر بن علي، وعلي بن عبد الصمد السَّخاوي، وعبد الحكم بن حاتم.

قال العراقي:

........................ وفي النَّسَبْ

هَمْدانُ وهو مطلقًا قِدْمًا غَلَبْ

ص: 292

وممن هو بفتح الميم والذال المعجمة أحمد بن المراد بن حمويه الهمذاني، قيل: إن البخاري حدث عنه في الشروط.

الرابع: سعيدُ بن جُبَيْر بن هشام الأسَدِيّ الوَالبيّ مولاهم أبو عبد الله أو أبو محمد الكوفي، قال مَيْمون بنُ مِهْران: مات سعيدٌ وما على ظهر الأرض أحدٌ إلا وهو يحتاج إلى علمه، وكان يقال له: جهبذ العلماء، وقال جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، يقول: أليس فيكم ابنُ أم الدَّهْماء؟ -يعني سعيد بن جُبير- وقد قال له ابن عباس: حدث. فقال له: أحدث وأنت ها هنا؟! فقال: أليس من نعمة الله أن تحدث وأنا شاهد؟ فإن أصبت فذاك، وإن أخطأت علمتك، وكان لا يستطيع أن يُكْتَبَ مع ابن عباس في الفُتيا، فلما عَمِيَ كُتب، فبلغه ذلك، فغضِب، وقال ابن إياس: قال لي سعيد بن جبير: أمسك علي القرآن، فما قام مِن مجلس حتى ختمه. وقال خُصيف: كان من أعلم التّابعين بالطلاق سعيد بن المسيِّب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير مُجاهد بن جَبْر، وأجمعَهم لذلك كلِّه سعيد بن جُبير وقال أَصْبَغُ بن زايد الواسِطيُّ: كان له ديك يقوم من الليل لصياحه، فلم يَصِح ليلة حتى أصبح، فلم يستيقِظْ سعيد، فَشَقَّ عليه ذلك، فقال: ماله قَطَعَ الله صوته؟ فما سُمع له صوتٌ بعد ذلك، فقالت له أمه: لا تدعُ علي شيء بعدها. وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: كان فقيهًا عالمًا عابدًا ورعًا فاضلًا، وقال أبو القاسم الطَّبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين، وقال يحيى بن سعيد: مرْسَلاتُ سعيد أحبُّ إليَّ من مرسلات عطاء ومُجاهد، وكان سفيان يُقَدِّم سعيدًا على إبراهيم في العلم، وكان أعلم من مجاهد وطاووس، ورأى عبد الملك بن مروان كأنه بال في المحراب أربع مرات، فوجه إلى سعيد بن جبير من يسأله، فقال: يَمْلِكُ من ولده لصُلبه أربعة، فكان كما قال، فإنه وَلِيَ من ولده لصُلبه الوليدُ، وسُليمان، ويزيدُ، وهشامُ، وقيل للحسن البصريّ: إن الحجاج قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم أئت على فاسق ثقيفٍ، فوالله لو أن مَنْ بين

ص: 293

المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار، كان يختم القرآن في كل ليلتين.

وقال عثمان بن بوذويه: كنت مع وَهْب بن مُنَبِّه، وسعيد بن جُبير يوم عرفة، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله كم لك منذ خفت من الحجاج؟ قال: خرجتُ عن امرأتي وهي حاملٌ فجاءني الذي في بطنها وَقَدْ جُرِح وجههُ.

كان يكتب لعبد الله بن عُتبة بن مسعود، حيث كان على قضاء الكوفة، ثم كتب لأبي برده بن أبي موسى، ثم خرج مع ابن الأشعث في جملة القراء، فلما هُزِم ابن الأشعث هرب سعيدُ بن جُبير إلى مكة، فأخذه خالد بن عبد الله القسري وكان واليًا على مكة يومئذ، وبعث به إلى الحجاج بن يوسف مع إسماعيل بن واسطٍ البَجَلي فقال له الحجّاج: ما اسمُك؟ قال: سعيدُ بن جُبير. قال: بل أنت شقي بن كُسَير. قال: بل كانت أمي أعلَمَ باسمي منك. قال: شَقِيَتْ أمك وشَقِيت أنت. قال يعلَم الغيبَ غيرُك. قال: لأبَدِّلَنَّكَ بالدنيا نارًا تلظى. قال: لو علمت أنَّ ذلك بيدك لاتّخذتك إلهًا. قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة وإمام الهدى. قال: فما قولك في علي أهو في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلتُها وعَرَفت من فيها عَرَفت أهلها. قال: فما قولُك في الخلفاء؟ قال: لستُ عليهم بوكيل. قال: فأيُّهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي. قال: فأيُّهم أرضى له؟ قال: علمُ ذلك عند الله، يعلم سرهم ونجواهم. قال: أبيت أن تَصْدُقَني. قال: إني لم أُحبَّ أن أكذبك. قال: فما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يَضْحَك مخلوق خُلق من طين، والطين تأكله النار؟ قال: فما بالُنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزَّبَرْجَدِ والياقوت، فجمعه بينَ يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لِتَتَّقيَ به فزعَ يوم القيامة فصالحٌ، وإلا فَفَزْعَةٌ واحدة تُذْهِلُ كُلَّ مرضعةٍ عما أرضعت، ولا خير في شيءٍ جُمع للدنيا إلا ما طاب وَركا، ثم دعا الحجاج بالعُود والنَّاي، فلما ضُرب بالعود ونُفخ في الناي، بكى سعيدٌ، فقال: ما يُبكيك هو اللعب؟ قال: هو الحزن، فأما النفخ فذكرني يومًا عظيمًا يوم

ص: 294

يُنْفخ في الصور، وأما العود فشجرة قُطِعت في غير حق، وأما الأَوْتار فمن الشّاء نُبْعَثُ معها يوم القيامة. قال الحجاج: ويلَكَ يا سعيد. قال: لا ويلَ لمن زُحْزحَ عن النار وأدخل الجنة. قال الحجاج: اختر يا سعيد أَيَّ قتلة أقتُلُك. قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتُلني قتلة إلا قتلك الله بها يومَ القيامة. قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عُذر. قال الحجاج: اذهَبوا به فاقتُلوه، فلما خرج ضَحِكَ، فأخبر الحجاج بذلك فَرَدَّهُ، وقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جراءتك على الله وحِلم الله عليك، فَأَمَرَ بالنِّطع فبُسطَ، وقاَل: اقتُلوه. قال سعيد: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] قال: وجِّهوا به لغير القبلة. قال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قال: كُبُّوه لوجهه. قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] قال الحجاج: اذبَحُوه. قال سعيد: أما إنّي أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وأن محمدًا عبدُه ورسوله، خُذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد فقال: اللهم لا تُسلِّطْهُ على أحد يقتله بعدي، وكان قَتْلُه في شعبان سنة خمس وتسعين للهجرة بواسطٍ، ومات الحجاج بعده في شهر رمضان من السنة المذكورة، ولم يُسَلِّطْه الله عز وجل على أحد يقتُلُه بعده إلى أن مات.

وكان سعيد يقول يوم أُخِذَ: وَشَى بي واشٍ في بلد الله الحرام: أكله إلى الله تعالى: يعني خالد بن عبد الله القَسْرِيّ.

وقيل: إن الحجاج قال له لما أُحضر إليه: أما قَدِمْتَ الكوفة وليس بها إلَّا عربي فجعلتك إمامًا؟ فقال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضَجَّ أهل الكوفة، وقالوا: لا يَصْلُح للقضاء إلا عربي، فاستقضيت أبا بُردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته أن لا يقطع أمرًا دونك؟ قال: بلى، قال: أما جعلتك في سُمّاري وكلُّهم رؤوس العرب؟ قال: بلى. قال: أما أعطيتك مئة ألف درهم، تفرقها في أهل الحاجة في أول ما رأيتك، ثم لم أسأَلْك

ص: 295

عن شيءٍ؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: بَيْعةٌ كانت في عُنُقي لابن الأشعث. فغضب الحجاج، ثم قال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك من قبل؟ والله لأَقْتُلَنَّك، يا حارس اضرب عنقه، فضرب عنقه، ولما قتله سال منه دم كثير فاستدعى الحجاج الأطباء، وسألهم عنه، وعمن كان قتله قبله فإنه كان يسيل منه دم قليل، فقالوا له: هذا قتلته ونفسُهُ معه، والدم تَبَع للنفس، ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف، فلذلك قل دمهم، فلما حضرت الحجاج الوفاة، كان يغيب ثم يفيق ويقول: مالي ولسعيد بن جبير؟ وقيل: إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذًا بمجامع ثوبه، ويقول له: ياعدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورًا، ويقول: مالي ولسعيد بن جبير؟ ويقال: إن الحجاج رُئِيَ في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك، فقال: قتلني بكل قتيل قَتَلْتُهُ قتلةً، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلةً.

وروى محمد بن حبيب أن سعيد بن جبير كان بأصبهان يسألونه عن الحديث فلا يحدث، فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل: يا أبا محمد كنت بأصبهان لا تحدث، وأنت بالكوفة تحدث، فقال: انشُرْ بَزَّكَ حَيْثُ يُعرف.

أكثر رواياته عن عبد الله بن عباس، أخذ منه القراءة عَرْضًا، وسمع منه التفسير، وروى عن ابن الزبير، وابن عمر، وابن مَعْقِل، وعَدي بن حاتم، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هُريرة، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وعمر، وابن ميمون، وعائشة، وغيرهم.

وروى عنه: ابناه عبد الملك وعبد الله، ويعلي بن حكيم، ويَعلي بن مسلم، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأبو الزُّبير، والأعمش، ومنصور بن المُعْتَمِر، والمغيرة بن النعَمان، ووَبَرة بن عبد الرحمن، وخلق كثير.

والوالبيُّ في نسبه: نسبة إلى والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن

ص: 296

أسد بن خُزيمة بطن من أسد، وإليه ينتسب أيضًا مسلم بن معبد شاعر إسلامي، وفي الأسْد -بسكون السين-: والبة بن الدُّؤَل بن سعد مَناة، وفي بَجيلة: والبة بن مالك بن سعد، وقال عمر بن سعيد بن أبي حسين: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعِيَ ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟.

الخامس: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مَناف ابن قُصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل لُبابة الكبرى بنت الحارث أخت مَيْمونة أم المؤمنين، كان يقال له "البحر" لِكثرة علمه، و"الحبر" و"حبر هذه الأمة" و"فقيهها" و"ترجمان القرآن"، وهو والد الخلفاء، وأحدُ العبادلة الأربعة باتفاق.

وهم هو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وقيل: بدل ابن العاص عبد الله بن مسعود وهو ضعيف.

وهو أيضًا أحد الستة المكثرين في الحديث من الصحابة.

وأكثرهم في الحقيقة فتوى ابن عباس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بقوله:"اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكتابَ" وفي رواية: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدينِ وَعَلِّمْهُ التَّأويل" وفي رواية: "اللَّهُمَّ علمه الحكمة وتأويل الكتاب" وفي رواية: "اللَّهُمَّ بارِك فيه، وانْشُر منه، واجعَلْه من عبادِك الصالحين" وفي رواية "اللَّهُمَّ زِدْه علمًا، وفِقهًا".

وهو معدود من الصحابة الذين لهم أتباع في الفقه يَرَوْن علمهم وفتياهم، ومعه عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، والمكثرون أكثرهم أبو هريرة لأنه روى خمسة آلاف حديث وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثًا، ثم ابن عمر لأنه روى ألفين وست مئة وثلاثين، ثم أَنَس لأنه روى ألفين ومئتين وستة وثمانين، ثم عائشة لأنها روت ألفين ومئتين وعشرة، ثم ابن عباس لأنه روى ألفًا وست مئة وستين، ثم جابر لأنه روى ألفًا وخمس مئة

ص: 297

وأربعين، وزاد العراقي سابعًا وهو أبو سعيد الخُدري لأنه روى ألفًا ومئة وسبعين وإلى هذا أشار العراقي بقوله:

............................. وهُمْ

عُدُولٌ قيلَ لا مَن دَخلا

في فِتيةٍ والمُكْثِرونَ سِتَّهْ

هم أنَسُ ابنُ عمر الصِّدِّيقَهْ

والبَحْرُ جَابِرٌ أبو هُرَيْرَهْ

أكْثَرُهُمْ وَالبَحْرُ في الحَقِيقَهْ

أكثَرُهم فتوى وهْوَ ابنُ عُمرا

وابنُ الزُّبيرِ وابنُ عمرو قَدْ جَرَي

بينَهُم بالشُّهْرَة العَبَادِلَهْ

لَيْسَ ابن مَسْعُودٍ ولا مَنْ شاكَلَهْ

وهْوَ وَزَيْدٌ وابنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ

في الفِقْه أتْباعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ

ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنه وبنو هاشم في الشعب قبل الهجرة بثلاث، وقيل بخمس، وهو يقارب ما في الصحيحين عنه:"أقْبَلْتُ وأنا راكب على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهَزْتُ سن الاحتلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار" الحديث، وفي الصحيح عن ابن عباس:"قُبِض النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا خَتين". وفي رواية: "مختون" وفي رواية: "وكانوا لا يختِنون الرجل حتى يُدرك".

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحبه، ويدنيه، ويقربه، ويشاوره مع جِلَّةِ الصحابة، وروى الزُّهري أن المهاجرين قالوا لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ فقال: ذاكم فتى الكهول، له لسان سُؤول، وقلب عَقول.

وروى زيد بن أسلم أنه كان يُقَرِّبُ ابن عباس، ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك، فمسح رأسك، وتَفَلَ في فيك، وقال:"اللَّهُم فَقِّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل".

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمه إليه وقال: "اللَّهْمَّ علمه الحكمة".

وفي مسند أحمد من طريق كُرَيْب أن ابن عباس أخبره قال: صليتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حِذَاءَهُ، فلما أقبل على صلاته خَنَسْتُ، فلما انصرف قال لي: ما شأنك؟ قلت: يا رسول

ص: 298

الله أو ينبغي لأحد أن يُصَلِّي حذاءك، وأنت رسول الله، فدعا لي أن يزيدني الله علمًا وفهمًا.

وروى ابن سعد من طريق طارق، عن ابن عباس: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على ناصِيَتي، وقال:"اللهم علمه الحكمة، وتأويل الكتاب".

وأخرج ابن سعد أيضًا من طريق عكرمة، قال: أرسل العباس عبدَ الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق ثم جاء، فقال: رأيت عنده رجلًا لا أدري مَنْ هو؟ فجاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي قال عبد الله، فدعاه، فأجلسه في حِجْره، ومسح رأسه، ودعا له بالعلم.

وأخرج الزُّبير بن بَكّار، عن محمد بن أبي كَعْب، عن أبيه أنه سمعه يقول: كان عنده ابن عباس، فقام، فقال: هذا يكون حبر هذه الأمة، أَوْفى عقلًا وحَشْمًا ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين.

وأخرج ابن سعد أيضًا بسند صحيح، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس خَلَفًا.

وفي تاريخ عباس الدُّوري، عن ابن أبي نَجِيح: ما رأيت مثل ابن عباس قطُّ، ولقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة.

وكان يقال له: حبر العرب، ورُوي أن الذي لقبه بذلك جَرْجِير ملك الغرب ، وكان قد غزا مع عبدالله بن أبي سَرْح إفْريقِيَّةَ، فتكلم مع جَرجير، فقال: ينبغي إلا أن تكون حبر العرب.

ومن طريق أبي أمامة، عن مجاهد، قال: ابن عباس يسمّى البحر لكثرة علمه.

وفي "الجَعْدِيّات" عن شعبة بن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد: سألت البحر عن لحوم الحمر، وكان ابن عباس يُسمى البحر الحديث،

ص: 299

وأصله في البخاري، وكان عمر يستشيره ويقول: غَوّاصٌ.

وقال سعيد بن المُسَيِّب: ما رأيت أَحْضَرَ فهمًا، ولا أَلَبَّ لُبًّا ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حِلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمُعْضلات.

وقال عِكْرمة: كان ابن عباس إذا مر بالطريق قالت الناس: أَمَرَّ المِسْكُ أو ابن عباس؟.

وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا نطق قلت: أفصح الناس، وإذا حدث قلت: أعلم الناس.

وقال عطاء: ما رأيت قَطُّ أكرمَ من مجلس ابن عباس، أكثر فقهًا، وأعظم خشية؛ إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده يَصْدُرهم كلهم من واد واسع.

وقال طاووس: رأيتُ سبعينَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس.

وعن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور، فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سَمِعَتْ هذا الدَّيْلَمُ لأسلمت. وفي رواية: لو سمعته فارس والروم لأسلمت.

وقال أبو وائل: قال رجل: والله إني لأشتهي أن أقبِّلَ رأسه من حلاوة كلامه. وقال سعيد بن جُبَير: كنت أسمع الحديث من ابن عباس، فلو يأذن لي لقبلت رأسه.

وقال مَيْمون بنُ مِهران: لو أتيت ابن عباس بصحيفة فيها ستون. حديثًا لرجعت ولم تسأله عنها، ورأيتَ الناس يسألونه فَيَكْفُونك.

وسُئِل ابن عمر عن شيءٍ، فقال للسائل: سل ابن عباس فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد. وعن عبد الله بن دينار، أن رجلًا سأل

ص: 300

عبد الله بن عمر عن قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ، فاسأله، ثم تعال فأخبرني، فذهب إلى ابن عباس، فسأله، فقال: كانت السماء رَتْقاء لا تُمْطر، والأرض رتقاء لا تُنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، فرجَع الرجل، فأخبر ابن عمر، فقال: لقد أُوتي ابن عباس علمًا صدقًا، هكذا، لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا.

وروى عكرمة عنه أنه قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لِرجل من الأنصار: هَلُمَّ فنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك، أفَتَرى الناس يفتقرون إليك؟ قال: فترك ذلك وأقبلت أسأل، فإن كان لَيبلُغُني الحديث عن رجل، فآتي بابه وهُو قائِلٌ فأتوسد روائي على بابه يسفي الريح علي من التراب، فيَخْرُج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم هلّا أرسلت إلي فآتِيَكَ. فأقول لا أنا أحق أنْ آتيك، فأسأُلُه عن الحديث، فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فقال: هذا الفتى كان أعقل مني.

وروى عنه أبو سَلَمَة أنه قال: وجدت علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيلُ عند باب أحدهم، ولو شئت أن يُؤذن عليه لأذِن لكن أبتغي بذلك طيب نفسه.

ورُوي عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت، فأخذ ابن عباس بركابه، فقال: لا تَفْعَلْ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا أُمِرْنا أن نَفْعَلَ بعلمائنا، فقبل زيد بن ثابت رأسه، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.

وعن ابن مسعود أنه قال: نِعْمَ تَرْجُمانُ القرآن ابنُ عباس، لو أدرك أسناننا ما عَشِره منا رجل.

ص: 301

وقال مجاهد: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس، إلَّا أنْ يقول قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعند الدارمي وابن سعد بسند صحيح عن عبد الله بن أبي يزيد: كان ابن عباس إذا سُئِل فإن كان القرآن أخبر به، فإن لم يكن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، فإن لم يكن وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن قال برأيه. وفي رواية ابن سعد: اجتهدَ رأيَهُ.

وفي البَيْهَقيِّ عن عبد الله بن بُرَيْدة، قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتَشْتِمُني وَفِيَّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدِل في حكمه، فأحبه، ولعلي لا أقضي عليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث يُصيبُ البلد من بلدان المسلمين، فأفرح به، وما لي بها سائمة ولا راعية، وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فودِدْت أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم.

وعن يزيد بن الأَصَمِّ: خرج معاوية حاجًّا، ومعه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلُب العلم.

وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس الحلالِ، والحرامِ، والعربيةِ، والأنسابِ، وأحسبه قال: والشعر.

وعن عُبيد الله بن عبد الله قال: ما رأيت أحدًا كان أعلم بالسنة، ولا أجَلَّ رأيًا، ولا أثقب نظرًا من ابن عباس.

وقال القاسم بن محمَّد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلًا قطُّ، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه.

ويُروى أن معاوية نظر إلى ابن عباس يومًا يتكلم، فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، وقال متمثلًا:

إذا قَالَ لَمْ يَتْركْ مَقالًا لِقائلٍ

مُصيبٌ وَلَمْ يَثْن اللِّسانَ على هُجْرِ

ص: 302

يُصَرِّفُ بالقَوْل اللِّسانَ إذا انْتَحى

ويَنْظُرُ في أعطافِهِ نَظَرَ الصَّقْرِ

وقال عطاء: كان الناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعها، وناس يأتون للعلم والفقه ما منهم إلا يُقْبِل عليهم بما شاؤوا.

وروى أبو الحسن المدائني، عن أبي بَكْرة، قال: قدم علينا ابن عباس البصرة، وما في العرب مثله حَشْمًا، وعِلمًا، وثيابًا، وجمالًا، وكمالًا.

وأخرج الطبراني من طريق أبي الزِّنَادِ أن حسانَ بن ثابت، قال: كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراء حاجة فطلبناها إليه بجماعة من الصحابة منهم عبدُ الله بن عباس، وكانت حاجةً صعبة شديدة، فاعتل علينا، فراجعوه إلى أن عَذَروه وقاموا، إلا ابنَ عباس، فلم يزل يُراجِعُه بكلام جامع، حتى سَدَّ عليه حاجته، فلم يَرَ بُدًّا من أن يقضيَ حاجتنا، فخرجنا من عنده وأنا آخذٌ بيد ابن عباس، فمررنا على أولئك الذين كانوا عَذَرُوا وضَعُفوا، فقلت: كان عبد الله بن عباس أولاكم به، قالوا: أجل، فقلت أمدحه:

إذا ما ابن عَبّاسٍ بَدَا لَكَ وَجْهُهُ

رَأَيْتَ لَهُ في كُلِّ أحوالِهِ فَضْلًا

كَفَى وشَفَى ما في النُّفُوسِ وَلَمْ يَدَعْ

لِذِي أَرَبٍ في القولِ جدًّا ولا هزْلا

سَمَوْتَ إلى العَلْيا بِغَيرِ مَشَقَّةٍ

فَنِلْتَ ذُراها لَا دَنِيًّا وَلَا وَغْلا

خُلِقْتَ حليفًا لِلْمُروءَةِ والنَّدى

بليجًا وَلَمْ تُخْلَق كهامًا وَلَا خبلا

وذكر خليفةُ أن عليًّا ولّاه البصرة، وكان على الميسرة يوم صفين، واستخلف أبا الأسود على الصلاة، وزيادًا على الخراج، وكان استكتبه، فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى قُتِلَ علي، فاستَخْلف عبد الله بن الحارث، ومضى إلى الحجاز.

وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يُفتي الناس في رمضان وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتى يفقههم.

ص: 303

وقال محمود بن سلام سعى ساعٍ إلى ابن عباس برجل، فقال: إن شئت نظرنا، فإن كنت كاذبًا عَاقَبْناك، وإن كنت صادقًا نَفَيْناك، وإن شئت أَقَلْتُك. قال: هذه.

وفي كتاب "الجليس" للمعافى نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر، وقد بَرَعَ بكلامه، فقال: مَنْ هذا الذي نزل عن القوم في سِنِّه، وعلاهم في قوله؟ قالوا: هذا ابن عباس. فأنشأ يقول:

إنّي وَجَدْتُ بَيَانَ المَرْءِ نَافِلَةً

تهدي له، وَوَجَدْتُ العِيِّ كالصَّمَمِ

المَرْءُ يَبْلى وَتَبْقى الكَلْمُ سائِرَةً

وَقَدْ يُلام الفتى يوماً وَلَمْ يَلُمِ

وفي "تاريخ" يعقوب بن سُفيان، من طريق يزيد بن الأَصَمِّ، عن ابن عباس، قال: قدم على عمر رجل، فسأله عن الناس، فقال: قرأ منهم القرآن كذا وكذا. فقال ابن عباس: ما أُحب أن يُسأل عن آي الاقرآن. قال: فَزَبَرَني عمر، فانطلقت إلى منزلي، فقلت: ما أراني إلا قد سقطت من نفسه، فبينا أنا كذلك إذ جاءني رجل، فقال: أجب، فأخذ بيدي، فخلا بي، فقال ما كرِهْت مما قال الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فاستغفر الله. قال: لَتُحَدِّثَني. قلت: إنهم متى تنازعوا اختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا، قال: لله أبوك، لقد كنت أكتمها النّاسَ.

وأخرج أحمد، عن عكرمة أن ابن عباس بلغه أن عليًّا حَرَّق أُناسًا، فقال: لم أكن لِأحُرِّقَهم

الحديث، فبلغ عليًّا قوله، فقال: ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهَنَات.

وفي "المجالسة" من طريق المدائني، قال علي في ابن عباس: إنَّك لَتَنْظُر إلى الغيب من سِتر رقيق لعقله وفطنته.

وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عبد الله بن شَبيب قال: قالت عائشة: هُو أعلم الناس بالحج.

وفي "فوائد" المقرئ من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن

ص: 304

مسعود، أن عمر كان يأخذ بقول ابن عباس في العُضَلِ، وعُمَرُ عُمَرُ.

وعن هشام بن عُروة: سألت أبي عن ابن عباس، فقال: ما رأيت مثل ابن عباس قطُّ.

ورُوي أن عبد الله بن صَفْوان بن أُمَيَّةَ مَرَّ يومًا بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومرَّ بدار عُبيد الله بن عباس فوجد فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير، وقال: أصبحتَ والله كما قال الشاعر:

فَإِنْ تُصِبْكَ من الأيّام قارِعةٌ

لَمْ نَبْكِ منكَ على دُنيا ولا دينِ

قال: وما ذاك يا أعرج، قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مَكْرُمة، فدعا عبدَ الله بن مُطيع، وقال انطلق إلى ابني عباس، وقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: اخرجا عني أنتما ومن انضوى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت، فقال عبد الله ابن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان، رجل يطلُبُ فقهًا، ورجل يطلب فضلًا، فأيَّ هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطفيل عامر بن وَاثلة الكناني، فجعل يقول:

لا دَّر دُّر الَّليالي كيف تُضحِكُنا

مِنها خطوبٌ أعاجيبٌ وَتُبْكينا

ومِثلُ ما تُحدثُ الأيّامُ مِن غِيَرٍ

في ابن الزُّبير عن الدُّنيا يُسَلّينا

كُنّا نَجيءُ ابن عبّاسٍ فَيُسمعُنا

فِقْهًا ويُكسِبُنا أجرًا ويَهْدينا

ولا يزالُ عُبيدُ اللهِ مُتْرعةً

جِفَانُهُ مُطعِمًا ضيفًا ومِسْكينا

فَالبِرُّ والدينُ والدُّنيا بدارهمُ

نَنالُ منها الّذي نَبْغي إذا شينا

إنَّ النّبيُّ هو النُّور الذي كُشطتْ

به عَماياتُ ماضِينا وبَاقينا

ورَهطُه عِصمَةٌ في ديننا لهُمُ

فَضلٌ علَينا وَحَقٌّ واجِبٌ فينا

فَفيم تَمنَعُنا مِنهُم وتَمنعُهُم

مِنّا وتُؤذيهم فِينا وَتُؤذينا

ولَستَ فَاعْلَم بأَولاهُم بهِ رَحِمًا

يا ابنَ الزُّبيرِ ولا أولى به دِينا

لَنْ يُؤِتيَ الله إنسانًا بِبُغضِهِمُ

في الدّينِ عِزًّا ولَا في الأرضِ تَمكينا

ص: 305

وكان رضي الله عنه قد عمي في آخر عمره، ورُوي عنه أنه رأى رجُلًا

مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَعْرِفْهُ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أَرأَيتَهُ" قال: نعم. قال: "ذلك جِبْريلُ، أما إنَّك سَتفقدُ بَصَركَ" فعمي في آخر عمره وهو القائل:

إن يأْخُذ الله من عَينيَّ نُورهُما

ففي لِساني وقَلْبي مِنهُما نورُ

قَلْبي ذَكِيٌ وعَقلي غَيرُ ذي دَخَلٍ

وفي فَمي صارِمٌ كالسَّيْفِ مَشْهُورُ

وروى مجاهدٌ عنه أنه قال: رأيت جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم مرتين.

له ألف وست مائة حديث وستون حديثًا، اتفقا على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بمئة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وأمِّه أم الفَضْل، وأخيه الفضل، وخالته مَيْمونة، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عَوف، ومُعاذ بن جَبل، وأبي ذرٍّ، وأُبيِّ بن كَعب، وخالد بن الوليد وهو ابن خالته، وأبي هُريرة، وأسامة بن زَيد، وخلق.

وروى عنه ابناه علي ومحمد، وابن أخيه محمَّد بن علي، وأخوه كَثير ابن العباس، وابن أخيه عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وابن أخيه الآخر عبد الله بن مَعيد بن عباس، ومن الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثَعْلبةُ بن الحكم اللَّيثي، وأبو الطُّفَيل، وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين أبو أُمامة بن سَهْل بن حَنيف، وسعيد بن المسَيِّب، وسعيد بن جُبير، وأبو سَلَمةَ بن عبد الرحمن، وعطاء، وطاووس وكُرَيْب، ومُجاهد، وعَمرو بن دينار، وابن خالته عبد الله بن شَداد بن الهاد، وابن خالته الأخرى يزيد بن الاصم، وخلق كثير.

مات رضي الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة سبعين، وصلى عليه محمد بن الحَنَفِيَّة، ولما سُوِّي عليه التراب، قال: مات والله اليوم حبر هذه الأمة، وفي رواية: رَبّانِيُّ هذه الأمة.

ص: 306