المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادي عشر - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ١

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تنبيه:

- ‌ كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري

- ‌مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى

- ‌طبقات الصحابة

- ‌ما قيل في عدَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌بعض ما قيل في فَضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم

- ‌ومما هو وارد في فضلهم من الأحاديث:

- ‌الترتيبُ في فضلِ الصَّحابةِ

- ‌في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة

- ‌ما قيل في محبة الصحابة

- ‌ما قيل فيمن سَبَّ الصحابةَ

- ‌الِإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة

- ‌ فروعً

- ‌فيما تُعْرَفُ به الصُّحبة

- ‌في عدالة الصحابة

- ‌في المكثرين رواية وفتوى

- ‌فِيْمَنْ يقالُ لَهُمُ: العبادلة

- ‌فيمن لهم أتباع في الفقه

- ‌فيمن انتهى إليهم العلمُ من الصَّحابةِ

- ‌في عدد الصحابة وطِباقِهم

- ‌في ترتيبهم في الفضل

- ‌في أول من أسلم من الصحابة

- ‌في آخرهم موتًا

- ‌حقيقة التابعين وطبقاتهم

- ‌أفضل التابعين

- ‌الفقهاء السبعة

- ‌المُخَضْرَمونَ

- ‌فائدتان

- ‌نبذة من السيرة النبوية

- ‌ما يُقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية

- ‌موت والده عبد الله

- ‌مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌عام ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌الشهر الذي وُلِدَ فيه

- ‌في أي يوم من الشهر ولد

- ‌اليوم الذي ولد فيه

- ‌على أنه ولد ليلًا

- ‌فضل ليلة المولد على ليلة القدر

- ‌إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم

- ‌رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم

- ‌موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌موت جده عبد المطلب

- ‌قصة بحيرى الراهب

- ‌قصة نسطورا الراهب

- ‌وقت البعثة

- ‌مخرجه إلى المدينة

- ‌مكثه بمكة بعد البعثة

- ‌قدومه المدينة

- ‌قيامه بالمدينة

- ‌عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم

- ‌سِنه عليه الصلاة والسلام

- ‌أزواجه عليه الصلاة والسلام

- ‌أولاده عليه الصلاة والسلام

- ‌أسماؤه عليه الصلاة والسلام

- ‌معنى محمَّد

- ‌معنى أحمد

- ‌خاتَم النُّبُوّة

- ‌تنبيه:

- ‌ تعريف البخاري

- ‌زهده وحسن سيرته

- ‌ثناء أشياخه عليه

- ‌ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه:

- ‌عجيب حفظه

- ‌فضائِلُ الجامعِ الصحيح

- ‌ما وقع له مع محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ

- ‌رجوعه إلى بخارى

- ‌مبادئ علم الحديث

- ‌سند المؤلف المتصل بالبخاري

- ‌ كتاب بدء الوحي

- ‌باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌تنبيه:

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌أنواع الرواية:

- ‌الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ

- ‌أقسام التدليس

- ‌أولها: تدليس الإِسناد:

- ‌والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ

- ‌الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد

- ‌رواية الأقران

- ‌إبدال الرسول بالنبي وعكسه:

- ‌الغريب

- ‌العزيز

- ‌المشهور

- ‌ المتواتر

- ‌ الفرد

- ‌الحديث الثاني

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌الحديث الثالث

- ‌وأما رجاله فستة

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجالُهُ ثلاثةٌ:

- ‌تنبيه:

- ‌الحديث الخامس

- ‌وأما رجاله فخمسة:

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌الحَديث السابع

- ‌الرجال أربعة:

- ‌ كتاب الإِيمان

- ‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإِسلام على خمس

- ‌2 - باب دعاؤكم إيمانكم

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله أربعة:

- ‌3 - باب أمور الإِيمان

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله ستة:

- ‌4 - باب المُسلم مَنْ سَلم المسلمون من لِسانِهِ ويده

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله ستة:

- ‌ورجال التعليقين خمسة:

- ‌5 - باب أي الإِسلام أفضل

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌6 - باب إطعام الطعام من الإسلام

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة:

- ‌7 - باب من الإِيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبَّ لنفسهِ

- ‌الحديث السادس

- ‌ورجال الطريقين ستة:

- ‌8 - باب حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإِيمان

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال الإِسناديْن سبعة:

- ‌9 - باب حلاوة الإِيمان

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌11 - باب

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌12 - باب من الدّين الفِرار مِنَ الفتن

الفصل: ‌الحديث الحادي عشر

فحديثه عنده هو من جملة الترجمة التي قبله، وعلى إثباتها فهو متعلق بها أيضًا، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله، مع تعلقه به كصنيع مصنفي الفقهاء، ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة، لما توافقوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند عقبة مني في الموسم، وبايعوه على إعلاء توحيد الله تعالى وشريعته، فسماهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصار لذلك، وقد كانوا قبل ذلك يُسَمَّوْن بني قَيْلة -بقاف مفتوحة وياء ساكنة- وهي الأم التي تجمع القبيلتين، ثم إن في متن الحديث المذكور ما يتعلق بمباحث الإِيمان من وجهين آخرين، أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإِيمان، كامتثال الأوامر، وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافرٌ أو مخلدٌ في النار، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

‌الحديث الحادي عشر

18 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:«بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.

[الحديث 18 - أطرافه في: 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468].

ص: 535

قوله: "وكان شهد بدرًا" يعني حضر الوقعة الكائنة بالمكان المعروف ببدر، وهي أول وقعة قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، وتأتي في المغازي، يحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلًا، إذا حُمل على أنه سمع ذلك من عُبادة، أو الزُّهري فيكون منقطعًا.

وكذا قوله: "وهو أحد النقباء" جمع نقيب، وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم، وكانوا اثني عشر رجلًا.

وقوله: "ليلة العَقبة" أي: بِمنى، والعقبة الموضع المرتفع العالي من الجبل، والواو في قوله:"وهو"، وقوله:"وكان" هي الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت، ولا ريب أن كون شهود عُبادة بدرًا وكونه من النقباء صفتان من صفاته، ولا يجوز أن تكون الواو للحال ولا للعطف كما في قوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] فإنها جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنه لا يتوسط الواو بينهما، كما في قوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب، قاله الزَّمَخْشَريّ، وتعقبه ابن مالك بأن ما قاله من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسدٌ، لم يقله أحد من النحاة، وأن ما علله به غير مناسب، لأن الواو تَدُلُّ على الجمع بين ما قبلها وما بعدها، وذلك مستلزم لتغايرهما، وهو ضد لما يراد من التأكيد، فلا يَصِحُّ أن يقال للعاطف مؤكد، وأيضًا لو صلحت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلُح للحال، نحو: إن رجلًا رأيُهُ سديدٌ لسعيدٌ، فرأيه سديد جملة نعت بها، ولا يصحُّ اقترانها بالواو لعدم صلاحيتها للحال، بخلاف، ولها كتاب معلوم فإنها جملة يصلُح في موضعها الحال، لأنها بعد نفي، وأجيب عن الزَّمَخْشرِيّ بأن المراد من الالتصاق عنده ليس الالتصاق اللفظي بل المراد عنده الالتصاق المعنوي، والواو تؤكد الثاني دون الأول.

ص: 536

وقوله: "إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال" محكية لقال ساقطة بعد قوله: "إن عبادة بن الصامت"، والساقطة هي خبر إن، لأن قوله:"وكان" وما بعدها معترض بين إن وخبرها الساقط من أصل الرواية هنا، ولعلها سقطت من ناسخ بعده، واستمر بدليل ثبوتها عند المصنف في باب من شهد بدرًا، والتقدير: أن عُبادة بن الصامت قال: إن رسول الله .. الخ، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف "قال" خطًّا لكن حيث يتكرر في مثل: قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، ولأحمد عن أبي اليمان بهذا الإِسناد: أن عُبادة حدثه.

وقوله: "وحوله عِصابة من أصحابه" حول الشيء ما أحاط به، وقد تقدم في حديث هِرَقْل ما فيه من اللغات، وهو ظرف خبر مقدم لعصابة، ومن أصحابه صفة لعصابة، والعِصابة بكسر العين الجماعة من العَشَرة إلى الأربعين، ولا واحدَ له من لفظه، وقد جمعت على عَصائب وعُصُب، وأشار بهذا إلى المبالغة في ضبط الحديث، وأنه عن تحقيق وإتقان.

وقوله: "بايعوني" زاد في باب وفود الأنصار: "تعالَوا بايِعُوني" والمبايعة على الإِسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه، سميت بذلك تشبيهًا بالمعاوضة المالية، كأن كل واحد منهما يبيع ما عنده من صاحبه، فمن طرف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعد الثواب، ومن طرفهم التزام الطاعة، نحو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وقد تُعرف بأنها عقد الإِمام العهد بما يأمر الناس به.

وقوله: "على أن لا تُشركوا بالله شيئًا" أي على ترك الإِشراك، وهو عام لأنه نكرة في سياق النهي، وهو كالنفي، وقَدَّمه على ما بعده لأنه الأصل.

ص: 537

وقوله: "ولا تسرِقوا" فيه حذف المفعول ليدُلَّ على العموم.

وقوله: "ولا تقتُلوا أولادَكم" خصهم بالذكر لأنهم كانوا في الغالب يقتلونهم خشية الإِملاق، أو لأنه قَتْلٌ وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد وأكثر، وقد كان شائعًا فيهم، وهو وأد البنات، وقتل البنين خشية الإِملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم.

وقوله: "ولا تأتوا" بحذف النون، ولغير الأربعة "ولا تأتون".

وقوله: "ببُهتانٍ" هو بضم الباء، وهو الكذب الذي يَبْهَت سامعَه أي: يدهشه لفظاعته، كالرمي بالزنى مثلًا.

وقوله: "تفترونه" من الافتراء، أي: الاختلاق.

وقوله: "بين أيديكم وأرجلكم" أي من قِبَل أنفسكم، فَكَنّى باليد والرجل عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال له: هذا بما كسبت يداك، والمعنى حينئذٍ لا تأتوا ببهتان من قِبَل أنفسكم، وقيل: المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يُترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأنَّ المعنى: لا ترموا أحدًا بكذب تزورونه في أنفسكم، ثم تَبْهتون صاحبه بألسنتكم، أو المراد: لا تَبْهتوا الناس كفاحا، وبعضُكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلت كذا بين يَدَي فلان، وعلى هذا فذكر الأرجل إنما هو تأكيد، ويُحتمل أن يكون قوله:"بين أيديكم" أي في الحال، وقوله:"وأرجلكم" في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل، وقيل: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكَنّى بذلك عن نسبة المرأةِ الولدَ الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولًا.

وقوله: "ولا تعصوا" في رواية الإِسماعيلي في وفود الأنصار: "ولا

ص: 538

تعصوني" وهو موافق للآية.

وقوله: "في معروف" المعروف هو ما عُرِف من الشارع حسنُه نهيًا وأمرًا، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وقيل: قُيِّد به تطييبًا لخاطرهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا به، وقال النَّوَوِيّ: يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني ولا أحَدًا ولي الأمر عليكم في معروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقًا بشيء بعده، وخُصَّ ما ذكر من المناهي بالذكر دون غيره للاهتمام به، وإذا قيل: لِمَ اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب أنه لم يُهملها، بل ذكرها على طريق الإِجمال في قوله:"ولا تعصوا" إذ العصيانُ مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، ولأن اجتناب المفاسد مقدَّمٌ على اجتلاب المصالح، والتخلّي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل.

وقوله: "فمن وَفَّى منكم" بالتخفيف والتشديد وهما بمعنى، أي: ثبت على العهد.

وقوله: "فأجره على الله" أي: فضلًا ووعدًا أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما وفي رواية الصُّنابِحِيّ في "الصحيحين" الإِفصاح بتعيين العوض، فيقال:"بالجنة" وعبر هنا بلفظ على للمبالغة في تحقيق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء، وسيأتي في حديث معاذ تفسير حق العباد على الله إذا أطاعوه بأنه لا يُعذِّبهم، والمراد بالحق في الحديث المذكور: المتحقق الثابت الذي لا يجوز عليه الكذب، ولا الخلف في الوعد، فإنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا حكم للعقل، لأنه كاشف لا موجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق القول في هذا البحث.

ص: 539

وقوله: "ومن أصاب من ذلك شيئًا" بنصب شيئًا مفعول أصاب الذي هو صلة من الموصول المتضمن معنى الشرط.

وقوله: "فَعُوقِب" أي: به، كما رواه أحمد، أي: بسببه.

وقوله: "في الدنيا" أي: بأن أقيم عليه الحد.

وقوله: "فهو" أي: العقاب المفهوم من عوقب.

وقوله: "كفارة له" فلا يُعاقب عليه في الآخرة. وفي رواية الأربعة حذف له، وعموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فالمرتد إذا قُتِل علي ارتدادِهِ لا يكون القتل كفارة له، وهذا بناء على أن قوله مِن ذلك شيئًا يتناول جميع ما ذكر، وهو ظاهر، وقيل: يحتمل أن يُراد ما بعد الشرك، بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون، فلا يدخل حتى يُحتاج إلى إخراجه ويؤيده رواية مسلم عن عُبادة في هذا الحديث:"ومَنْ أتى منكم حَدًّا" إذ القتل على الشرك لا يُسمى حدًّا، لكن يُعَكِّرُ على هذا أن الفاء في قوله:"فمن" لتُرَتِّب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإِشراك، وما ذكر في الحد عرفي حادث، فالصواب الأول، وكون المراد بالشرك الشرك الأصغر الذي هُو الرياء لا يَصِحُّ لأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، ولأنه عقب الإِصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك، وأنه مخصوص، وكون الحدود كفارة لأهلها هُو الذي ذهب إليه أكثر العلماء لهذا الحديث، ولما رواه التِّرمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب من ذلك، ففيه:"مَنْ أصابَ ذنبًا فعُوقِب عليه في الدنيا، فالله أكرم من أن يُثَنِّي العقوبة على عبده في الآخرة" وهو عند الطَّبراني بإسناد حسن من حديث أبي تَميمة الهُجَيْميّ، وله أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا:"ما عُوقب رجلٌ على ذنبٍ إلا جعله الله كفارةً لما أصاب من ذلك الذنب" ولأحمد من حديث خُزَيْمة بن ثابت: "من أصاب ذنبًا أقيم عليه ذلك الذنب فهو كفارة

ص: 540

له" وذهب بعض العلماء إلى الوقف لحديث أبي هُريرة: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" أخرجه الحاكم في "المستدرك" والبزار من رواية مَعْمر، وهو صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن مَعْمر، وقال الدَّارقُطنيّ: إن عبد الرزاق تفرد بوصله عن مَعمر.

قال في "الفتح" وصله آدم بن أبي إياس عن مَعمر فهو صحيح، وعلى ذلك يُجمع بينه وبين حديث الباب وما معه، بأن حديث أبي هُريرة ورد أولًا قبل أن يُعَلِّمَهُ الله، ثم أعلمه، وما عورض به هذا الجمع من تأخر إسلام أبي هُريرة وتقدم حديث الباب إذ كان ليلة العقبة الأولى، مردود بما حرره في "الفتح" من أن حديث أبي هُريرة سابق على حديث الباب، وأن المبايعة المذكورة لم تكن ليلة العقبة، وإنما هي بعد فتح مكة، وآية الممتحنة كما هو مصرح به في الأحاديث، فقد أخرج البخاري في كتاب الحدود عن الزُّهري في حديث عُبادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما بايَعَهم قرأ الآية كلها، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: قرأ النساء، ولمسلم عن الزهري قال: فتلا علينا آية النساء، قال:{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وللنسائي عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا تبايعوني على ما بايع عليه النساء، أن لا تشركوا بالله شيئًا الحديث. وللطَّبراني عن الزُّهري بهذا السند أيضًا:"بايَعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايَعَ عليه النساء يَوْم فتح مكة" ولمسلم عن عُبادة في هذا الحديث "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء" فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، وبعد فتح مكة، وبعد صُدور بيعة النساء، وذلك بعد إسلام أبي هُريرة بمدة، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خَيْثمة في "تاريخه" عن أيوب، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أُبَايِعُكُم على أن لا تُشركوا بالله شيئًا" فذكر نحو حديث عُبادة، ورجاله ثقات، وقد قال إسحاق بن رَاهَوية: إذا صح الإِسناد إلى عمرو بن شعيب

ص: 541

فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عُمر، وإذا كان عبد الله بن عَمرو الذي هو جد عَمرو بن شعيب أحد من حضر البيعة، وليس هو من الأنصار، ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هُريرة، وضح تغاير البيعتين بيعة الأنصار ليلة العقبة، وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، شهِدَها عبد الله بن عمرو، وكان إسلامه بعد الهجرة بمدة طويلة، ومثل ذلك ما رواه الطبراني عن جَرير، قال:"بايَعَنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على مثل ما بايَعَ عليه النساء" وكان إسلام جَرير متأخرًا عن إسلام أبي هُريرة على الصواب، وإنما حصل التباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة مما يَتَمَدَّحُ به، فكان يذكرها إذا حَدّث تنويهًا بسابقيَّته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء، عقب ذلك توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك، والحق أنها لم تقع على ذلك، ونَصُّ ما وقعت عليه على ما رواه ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار:"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه، وفي كتاب الفتن عن عُبادة بن الصامت أيضًا، قال:"بايَعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره" الحديث، وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني عن عُبادة أنه جرت له قصة مع أبي هُريرة عند معاوية بالشام، فقال: يا أبا هُريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق، ولا نخاف بالله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي بايعناه عليها، فذكر بقية الحديث، وقد ذكرت في المقدمة عدد العقبات،

ص: 542

وعدد أهلها، فبان من هذا أن الذي وقع في بيعة العقبة ليس هو الواقع في البيعة المذكورة في هذا الحديث، ونظير ما وقع في هذا الحديث ما أخرجه أحمد عن محمَّد بن إسحاق عن عُبادة بن الوليد بن عُبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن جده عبادة بن الصامت، قال: وكان أحد النقباء، قال:"بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيعة الحرب، وكان عُبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء وعلى السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا" الحديث، فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في "الصحيحين" كما يأتي في الأحكام ليس فيه هذه الزيادة، والصواب أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة، لأن الحرب إنما شُرع بعد الهجرة، ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق وردها إلى ما تقدم، وقد اشتملت روايته على ثلاث بيعات، بيعة العقبة وقد صرح بأنها كانت قبل أن يُفْرَضَ الحرب في رواية الصُّنابِحِيّ عن عُبادة عند أحمد، والثانية: بيعة الحرب ويأتي في الجهاد أنها كانت على عدم الفرار، والثالثة: بيعة النساء أي التي وقعت على نظير بيعة النساء، والراجح أن التصريح بذلك وهم من بعض الرواة، ويعكر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق عن الصُّنابِحيّ عن عبادة أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتفق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء لضبطها بالقرآن، ونظيره ما وقع في "الصحيحين" أيضًا عن الصُنابحي عن عُبادة قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بايعناه على أن لا نشرك باللهِ شيئًا الحديث، فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد ما قررته أن قوله: إني من النقباء الذين بايعوا أي ليلة العقبة على الإِيواء والنصر وما يتعلق بذلك ثم قال بايعناه إلى آخره أي في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإِتيان بالواو العاطفة في قوله: وقال بايعناه.

وعليك برد ما أتى من الروايات موهمًا أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نهجت إليه فيرتفع الإِشكال بذلك، ولا يبقى بين

ص: 543

حديثي أبي هُريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة، هذا حاصل ما لخّصه في "الفتح" قائلًا: إنما أطلت في هذا الموضع لأني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي.

وقوله: "فعوقب به" أعم من أن تكون العقوبة حدًّا أو تعزيرًا، ورُوي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، لأنه لم يصل إليه حق، قال في "الفتح": بل وصل إليه حق، وأي حق، فإن المقتول ظلمًا تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حِبّان وغيره أن السيف مَحّاءٌ للخطايا.

وعن ابن مسعود قال: إذا جاء القتل محا كلَّ شيء. رواه الطَّبراني، وله عن الحسن بن علي نحوه، وعن عائشة مرفوعًا: لا يمر القتل بذنب إلا محاه، قال: فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا، ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل.

قلت: جميع ما استدل به لا دليل فيه إلا الجملة الأخيرة التي هي: "ولو كان إلخ"، وأما تكفير ذنوب المقتول بقتله ظلمًا فليس فيه وصول حق له من القاتل، إنما فيه أن الله يكفر عنه ذنوبه بما حصل له من الظلم، سواء عوقب القاتل أو لم يعاقب، وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام فيه نظر، ويدل للمنع قوله الآتي:

"ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله" فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، لكن بَيَّنَت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه، ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب، ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وهو قول المعتزلة، ووافقهم ابن حَزْم والبَغَويّ من المفسرين وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] وأجيب بأن هذا في عقوبة الدنيا بدليل التقييد بالقدرة عليه.

ص: 544