الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصود من الإتيان بشيء يسير من السيرة النبوية، وإن كان علماء أهل التآليف فيها، تكفلوا بها، وأتوا في تآليفهم فيها بما لا يقبل الزيادة، وكادت سيرته صلى الله عليه وسلم تحصر.
نبذة من السيرة النبوية
وها أنا أذكر منها نبذة مختصرة، تبركًا بالإتيان بها في أول الكتاب، ولأن بعض العلماء قال: إن ذاته صلى الله عليه وسلم الشريفة هي موضوع علم الحديث رواية من حيث إنه نبي، وموضوع الفن لا بد من معرفته وتعريفه، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم معروفًا عند جميع المسلمين، ولكن أذكر ما أَذْكُرُهُ تيمنًا بسيرة أسعد الخلق صلى الله عليه وسلم ثم بعد ما أذكر منها أذكر شيئًا من تعريف البخاري، صاحب هذا التأليف المقصود كشف خباياه، فأقول:
اعلم أن أول ما خلق الله من شيء على ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن جابر، رضي الله تعالى عنه نور النبي صلى الله عليه وسلم -من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ، ولا قلمٌ، ولا جنةٌ، ولا نارٌ، ولا سماءٌ، ولا أرضٌ، ولا شيءٌ من الأشياء؛ فلما أراد الله أن يخلقَ الخَلْقَ، قسم ذلك النور أربعة أجزاء .. إلخ الحديث الطويل، وقد نقلناه مُسْتَوْفى في كتابنا "الفتوحات الربانية" في الرسالة العاشرة.
ثم لما خلق الله آدم، جعل ذلك النور المحمدي في جبينه، وصار من ذلك الوقت كلما حملت زوجة بولد يكون جَدًّا له، عليه الصلاة والسلام، ينتقل ذلك النور إلى جبينها، وإذا وُلِدَ ذلك المولودُ انتقل إلى جبينه إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم ولأجل هذا أخرج أبو نُعَيْم، والخَرائِطِيُّ وابن عساكر، عن ابن عباس، قال:
لما خَرَجَ عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مَرَّ به على كاهنة من قبالة؛ قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر الخَثْعَمِيّة، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله؛ فقالت له: لك مثل الِإبل التي نحرت عنك، وقع
علي الآن، لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ثم خرج به حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زُهْرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذٍ أفضل امرأة في قريش نسبًا، وموضِعًا، فزعموا أنه دخل عليها حين مَلَكَها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين في شعب أبي طالب، عند الجَمْرة، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عَرَضَتْ، فقال لها: ما لك لا تَعْرِضين علي اليوم ما عرضت علي بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فيّ، فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء. وفي رواية عن ابن عباس: أن المرأة من بني أسد بن عبد العُزّى، واسمها قَتِيلة أو رَفيقة بنت نَوْفَل، وفي هذه الرواية أنه أجابها بقوله:
أَمّا الحَرَامُ فَالمَمَاتُ دُونَهُ
…
وَالحِلُّ لا حِلٌّ فَأَسْتَبِينُهُ
فَكَيْفَ بِالأَمْرِ الذي تَبْغِينَهُ
…
يحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ ودِينَهُ
ولأجل هذا النور، سجد رئيس فِيَلَةِ أَبْرهة -الذي كان لا يسجُدُ لأبرهة- لعبد المطلب لما نظر في وجهه. وفي النُّطْقِ المفهوم أنه قال له: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب.
وقد اتفق أهل العلم بالأنساب والأخبار، وسائر العلماء بالأمصار، على رفع نسبه إلى عدنان، واختلفوا اختلافًا كثيرًا، فيما بين عدنان وإسماعيل، وفيما بين إبراهيم ونوح، عليهما الصلاة والسلام. وقد جمع في "فتح الباري" أكثر من عشرة أقوال. ولأجل الاضطراب الشديد والخلاف أعْرَضتُ عن سياق النسب بين عدنان وإسماعيل. وقد روي في "مسند الفردوس" أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز مَعدِّ ابن عدنان ثم يمسك، ويقول:"كذب النسابون" مرتين أو ثلاثًا، لكن قال السُّهَيْلِيُّ: الأصحُّ في هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود. وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9].
قال: كذب النسابون يعني أنهم يدَّعون علم الأنساب، والله تعالى نفى علمها عن العباد. وروي عن عمر أنه قال: إنما ينتسب إلى عدنان، وما فوقه لا يُدرى ما هو. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بينَ عدنان، وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون. وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدًا يعرف بعد عدنان. وسئل مالك عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك، وقال: من أخبره بذلك؟ وروي ذلك عنه في رفع نسب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ فالذي ينبغي الإعراض عنه.
والنسب المتفق عليه هو أنه محمَّد بن عبد الله الذبيح بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد على الصحيح. قيل: سمي به لأنه ولد وفي رأسه شيبة، وقيل: اسمه عامر، وكنيته أبو الحارث بابن له هو أكبر أولاده.
وإنما قيل له: عبد المطلب، لأن أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب وهو بمكة حيث أدركته الوفاة: أدرك عبدَك بيثرب؛ فمن ثَم سُمِّيَ عبدَ المطلب.
وقيل: إن عمَّه المطلب جاء به إلى مكة رديفه وهو بهيئة بَذَّة؛ فكان يُسأل عنه، فيقول: هو عبدي حياء أن يقول: هو ابن أخي. فلما أدخله وأحسن حاله، أظهر أنه ابن أخيه؛ فلذلك قيل له: عبدُ المطلب. وهو أوَّل من خضب بالسواد من العرب، وعاش مئة وأربعين سنة. وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار. وعبد المطلب، ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له: هاشم، لأنه كان يهشِمُ الثريدَ لقومه في الجدب، وفي ذلك قال الشاعر:
عَمرو العُلى هَشَم الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
…
ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
وهاشم بن عبد مناف، واسمه المغيرة، ابن قُصي، بضم القاف تصغير قَصي، أي: بعيد سمي بذلك، لأنه تقصى مع أمه فاطمة بنت سعد من بني عُذرة، ونشأ مع أخواله مِن كلب في باديتهم، واسمه زيد وقيل: يزيد، وكان يُدعى مجمعًا، لأنه جمع القبائل من قريش حين انصرافه إليها. وفيه يقول الشاعر:
أبوكم قُصَيٌّ كان يُدعى مُجمِّعًا
…
به جمَّع اللهُ القَبَائِلَ مِن فِهْرِ
وذلك حين اشترى قُصي من خاله أبي غبشان -بضم المعجمة وسكون الموحدة- واسمه المحرِّش "باسم الفاعل" ابن حُليل "بالتصغير" ابن عمرو ابن لحي، أخو أم قصي، حُبّى -بضم المهملة وتشديد الموحدة مع الإمالة- إمرة البيت بأذوادٍ من الإبل، وقيل: بِزِقِّ خمر، وكان في عقله شيء فخدعه. وجمع بطون بني فِهر، وحارب خُزاعة حتى أخرجهم من مكة، وغلب على أمر البيت، وشرع لقريش السقاية والرِّفادة؛ فكان يصنع الطعام أيامَ مِنى، والحياض للماء، فيُطعم الحجيج ويسقيهم، وهو الذي عَمَّرَ دار الندوة بمكة، فإذا وقع لقريش شيء، اجتمعوا فيها، وعقدوه بها. وكون اسم أمه حُبّى هو الذي في "الفتح"، وما مَرَّ من تسميتها فاطمة لابن عبد البر، وهو (ابن كلاب) واسمه حكيم، وقيل: عروة. وكلاب إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب جمع كلب، لأنهم يريدون الكثرة كما تَسَمَّوْا بسباع. وسئل أعرابي؛ لمَ تسمون أَبناءَكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئبٍ، وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا، يريدون أن الأبناء عدةٌ للأعداء، وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. وهو (ابن مرة ابن كعب) وهو أول من جمع العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم، فَيَخْطُبُهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويُعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، والِإيمانِ به، ويُنشد في ذلك أبياتًا منها:
وليتني شَاهِدٌ فَحْوَاء دَعْوَتهِ
…
حِينَ العشيرة تَبْغي الحَقّ خِذلانا
وهو "ابن لؤي" تصغير اللأي بوزن العصي، وهو الثور الوحشي "بن غالب بن فهر" واسمه قريش وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه، فكناني لا قرشي، على الصحيح، ويأتي ما في ذلك من الخلاف. وهو "ابن مالك بن النضر" واسمه قيس "ابن كنانة بن خُزيمة" تصغير "خزمة" بن
مدركة واسمه عمرو "بن إلياس" بكسر الهمزة في قول وبفتحها في قول، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل قال السهيلي: وهذا أصح. وهو أول من أهدى البُدْنَ إلى البيت الحرام. ويُذْكَرُ أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج. وهو "ابن مضر" وهو أول من سَنَّ الحُداء للابل، وكان من أحسن الناس صوتًا. وهو بضم الميم وفتح الضاد، يقال: إنه سُمِّي به، لأنه كان مولعًا بشرب اللبن الماضر، أي: الحامض؛ وفيه نظر، لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة. نعم، ويمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفًا به حالة التسمية. وهو "ابن نزار" بكسر النون من النزر وهو القليل.
قيل: لأنه لما ولد، ونظر أبوه إلى نور محمَّد صلى الله عليه وسلم بين عينيه فرح فرحًا شديدًا، وأطعم، وقال: إن هذا كلَّه نزر في حق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك. وهو "ابن معد بن عدنان".
قال ابن دِحْية: أجمع العلماءُ -والِإجماعُ حجة- على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوره.
وروى الطبراني، بإسناد جيد، عن عائشة، قالت:"استقام نسبُ الناس إلى مَعَدِّ بن عدنان". وروى ابن سعد من حديث عمرو بن العاص، بإسناد فيه ضعف، مرفوعًا "أنا محمَّد بن عبد الله" وانتسب حتى بلغ النضر بن كِنانة قال: فمن قال غير ذلك فقد كذب. وروى ابنُ حبيب في "تاريخه" عن ابن عباس، قال:"كان عدنان ومعد وربيعة ومضر، وخزيمة، وأسد، على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير" وروى الزبير ابن بكار من وجه آخر عن ابن عباس: "لا تسبوا مُضَرَ، فإنه كان قد أسلم". هذا نسبُه عليه الصلاة والسلام المتفق عليه من جهة الأب.
أما من جهة الأم، فأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب إلى آخر النسب الشريف الزهرية، تزوَّجها عبد الله بن عبد المطلب، وهو ابن ثلاثين سنة. وقيل: كان يومئذ ابن خمس وعشرين سنة.