الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبدال الرسول بالنبي وعكسه:
بقي من لطائف السند أن البخاري، رحمه الله تعالى، ذكر في بعض رواياته لهذا الحديث:"سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام" وفي بعضها: "سمعت النبي عليه الصلاة والسلام، ويتعلق بذلك مسألة، وهي هل يجوز تغيير قال النبي إلى قال الرسول أو العكس؟ والظاهر الجواز، وإن كان الأفضل اتباع اللفظ؛ وإنما جاز لأنه لا يختلف به المعنى خلافًا لابن الصلاح القائل: الظاهر أنه لا يجوز، وإن جازت الرواية بالمعنى، لأن شرطه أن لا يختلف المعنى، وهو هنا مختلف، قال ابن حَجَر في "الفتح": وفيه نظر لأن الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأي وصف يعينها علم المقصود، ولو تباينت معاني الصفات، كإبدال اسم بكنيته والعكس، فلا فرق بين قول الراوي مثلًا عن أبي عبد الله البخاري، وعن محمَّد بن إسماعيل البخاري. ولا يَقْدَح في جواز الإِبدال المذكور ما رواه البراء بن عازِب رضي الله عنه في حديث الدعاء عند النوم، حيث قال: "وبرسولك الذي أرسلته" قال عليه الصلاة والسلام: "لا ونبيك الذي أرسلته" لأن عدم التغيير في ألفاظ الدعاء والأذكار هو الطريق، لأنها توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، وربما كان في اللفظ، سر لا يحصل بغيره ولو رادفه في الظاهر. قال ابن حجر: أو لعله أوحي إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده، أو ذكره احترازًا ممن أرسل بغير نبوة، كجِبْريل وغيره من الملائكة، فلعله أراد تخليص الكلام من اللَّبْس وإلى الراجح في المسألة أشار في طلعة الأنوار بقوله:
وأَبْدِلِ الرَّسُولَ بالنَّبيِّ
…
أَو اعْكِسَنْ في المَذْهَبِ السَّنِّي
وما رَوَى ابنُ عازِبٍ لا يَطْعَنُ
…
لأَنَّ ذَاكَ في الدُّعاءِ السّنَنُ
ونظم العراقي ما مال إليه ابن الصلاح بقوله:
وَإِنْ رَسولَ بنَبيٍّ أُبْدِلا
…
فالظاهِرُ المَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلا
وقَدْ رَجَا جوازَهُ ابنُ حَنْبَلِ
…
والنَّوَوِي صَوَّبَهُ وهْوَ جَلِيّ
ومن لطائف هذا الحديث أنه فرد غريب باعتبار، مشهور باعتبار، وليس بمتواتر كما زعم بعضهم، لأن الصحيح أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمَّد بن إبراهيم، ولم يروه عن محمَّد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد، ومنه انتشر، فقيل: رواه عنه أكثر من مئتي راوٍ، وقيل: سبع مئة من أعيانهم مالك، والثَّوْرِيّ، والأَوْزَاعي، وابن المُبارك، وحمّاد بن زيد، واللَّيث ابن سعد، وابن عُيينة، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب بالنسبة إلى أوله، وأطلق الخَطَّابِيّ نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإِسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين، أحدهما الصحة، لأنه ورد من طرق معلولة، ذكرها الدارقطني، وابن مَنْدة وغيرهما. ثانيهما السياق، لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة، وأم سلمة عند مسلم:"يُبْعَثونَ على نِيّاتِهم" وحديث ابن عباس: "وَلكِن جهادٌ ونِيّة" وحديث أبي موسى: "مَنْ قاتَلَ لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليهما، وحديث ابن مسعود:"رُبَّ قتيلٍ بينَ الصَّفَّيْن اللهُ أَعلمُ بِنيتهِ" أخرجه أحمد. وحَديث عُبادة: "مَنْ غَزا وهو لا يَنْوي إلَا عِقالًا فله مَا نَوى" أخرجه النسائي. إلى غير هذا مما يتعسر حصره.
قال في "الفتح": وأنا استبعد صحة رواية هذا العدد له، فقد تَتَبَّعْتُ طرقه من الروايات المشهورة، والأجزاء المَنْثورة مُنْذُ طلبتُ الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المئة وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك إن شاء الله تعالى في الكلام على حديث ابن عمر في غُسْلِ الجُمُعة.
والمشهور ملحق بالمتواتر عند المحدثين، غير أنه يفيد العلم النظري، إذا كانت طرقه مُتباينة، سالمة من ضَعْف الرواة، ومن التعليل.
والمتواتر يفيد العلم الضروري، ولا تشترط فيه عدالة ناقلة، وبذلك افترقا، يأتي قريبًا إن شاء الله بيان كل منهما، وقد شَذَّ من قال: إن هذا
الحديث شاذٌّ، فإنه في أعلى مراتب الصحة، وهو أصل من أصول الدين، والقائل لهذا القول تبع الخليل أبا يعلى الخَليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل القَزْوِينيّ في تعريفه للشاذّ: بأنه ما انفرد به راو ثقة كان أو غير ثقة، خالف غيره أو لم يخالف، فما انفرد به ثقة يتوقف فيه، ولا يُحْتَجُّ به، لكنه يصلح لأن يكون شاهدًا، وما انفرد به غير الثقة متروك. وعرفه الحاكم: بأنه ما انفرد به الثقة، وليس له أصل متابع لذلك الثقة، فقيد بالثقة دون المخالفة، وفرق بينه وبين المعلل بأن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علة كذلك، ورد ابن الصلاح فيه كلًّا من التعريفين، وعرفه بما عرفه به الشافعي، فقال: الشاذ ما خالف فيه الثقة مَنْ هو أحفظ منه أو أكثر عددًا، وأما نفس التفرد فلا يكون شذوذًا، لأن العدد ليس بشرط للصحيح على المعتمد، فقد قال مسلم في باب الأيمان والنذور من "صحيحه": روى الزُّهْرِيّ تسعين فردًا كلها قوي وفي "الصحيحين" الأفراد الصحيحة كحديث النهي عن بيع الوَلاء وهبته، فإنه لم يصِحَّ إلا من رواية عبد الله ابن دينار عن ابن عمر.
ويقع الشذوذ في السند والمتن، فمثاله في السند ما رواه الترمذي وغيره من طريق ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن شيخه عَوْسَجَة، عن ابن عباس أن رجلًا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَدَع وارثًا إلا مولى هو أعتقه ..
…
الحديث، فإن حماد بن زيد رواه عن عمرو، عن عَوسجة، ولم يذكر ابن عباس، لكن تابع ابن عُيَيْنة على وصله ابن جُرَيْج وغيره، قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عُيينة، فحماد مع كونه من أهل العدالة والضبط، رَجَّح أبو حاتم رواية من هم أكثر عددًا منه، ومثاله في المتن زيادة يوم عرفة في حديث "أَيّامُ التَّشْريق أيامُ أكلٍ وشُربٍ" فإنه من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عن عُقبة بن عامر.
فحديث موسى شاذّ لكنه صححه ابن حِبّان والحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. واختار ابن الصلاح فيما لم