الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - باب دعاؤكم إيمانكم
.
وقوله: دُعاؤكم إيمانكم.
لقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ومعنى الدعاء في اللغة الإِيمان، هو من قول ابن عباس، فسمى الدعاء إيمانًا، والدعاءُ عمل فاحتُجَّ به على أن الإِيمان عملٌ، وعطفه على ما قَبْلَه كعادته في حذف أداة العطف، حيث يَنْقُل التفسير، وقد وَصَلَه ابن جَرير من قول ابن عباس، قال في قوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} قال: يقول: لولا إيمانكم، أخبر الله الكفار أَنه لا يعبأ بهم، ولولا إيمان المؤمنين لم يَعْبأ بهم أيضًا، وقال غيرُ ابن عباس: الدعاء هنا مصدرٌ مضاف إلى المفعول، والمرادُ دُعاء الرسل الخلق إلى الإِيمان، فالمعنى: ليس عند الله عُذْرٌ إلا أن يَدعُوَكُم الرسول، فيُؤمن من آمن، ويكفر من كفر، فقد كذبتم أنتم، فسوف يكون العذاب لازمًا لكم، وقيل: معنى الدعاء هُنا الطاعة، ويؤيده حديث النُّعْمان بن بَشير أن الدُّعاء هُو العبادة، أخرجه أصحاب "السنن" بسندٍ جيِّد.
الحديث الأول
8 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» .
[الحديث 8 - طرفه في 4515].
قوله: "بُنِي الإِسلامُ" البناء: وضع شيءٍ على شيءٍ، والإِسلام: الانْقياد، وقد مر الكلام عليه في أول الكتاب.
وقوله: "خَمْس" أي: دعائم، كما صرح به عبد الرزاق، وفي روايةٍ لمسلم:"على خمسة" أي: أركان.
وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" وما بعدها مخفوض على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ، والتقدير: أحَدُها شهادة أن لا إله إلا الله، وإنما لم يذكر الإِيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام، لأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المُعْتَقَدات، وقال الإسماعيليُّ ما محصله: هُو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأتُ الحمدَ، وتريد جميعَ الفاتحة، وكذا تقول: شهدت برسالة محمدٍ، وتريد جميع ما ذكر. واشترط البَاقِلَّانيُّ في صحة الإِسلام تقدم الإِقرار بالتوحيد على الرسالة، ولم يُتابع مع أنه إذا دُقِّق بَانَ وجهُهُ، ويزداد اتجاهًا إذا فرقهما.
و"لا" في قوله: لا إله، هي النافية للجنس، و"إله" اسمها مركبٌ معها تركيب مزج كأحدَ عشر، وفتحته فتحة بناء، وعند الزَّجاج فتحة إعراب، لأنه عنده منصوب بها لفظًا، وخبرها محذوفٌ تقديره موجودٌ، و"إلا" حرف استثناء، والاسم الكريم مرفوعٌ على البدل من الضمير المستتر في الخبر، وقيل: مرفوع على الخبرية لقوله: "لا" وعليه جماعةٌ، وهذا التركيب عند علماء المعاني والأصول يفيد القَصْر، وهو من باب قصر الصفة على الموصوف لا العكس، فإن إله في معنى الوصف، واختلف البيانيون والأصوليون في المنطوق والمفهوم في هذا التركيب، فعند البيانيين المنطوق هو إثبات الإِلهية لله تعالى، والمفهوم نفيها عن غيره، وعند الأصوليين المنطوق هو نفيُها، والمفهوم هو إثباتها، وعلى مذهبهم قالوا: كيف يُقال في لا إله إلا الله: إنَّ دِلالتها على إثبات الألوهية لله تعالى بالمَفْهوم؟ وأجاب زَكَرِيَّا: بأنه لا بُعد فيه، لأن القصد أولًا وبالذات ردُّ ما خالَفَنا فيه المشركونَ، لا إثبات ما وافَقُونا عليه، فكان المناسب للأول المنطوق، وللثاني المفهوم، وإنما قُدِّم النفي على الإِثبات، فقيل: لا إله إلا الله، ولم يقل: الله لا إله إلا هو، لأنه إذا نفى أَن يكون ثَمَّ إله غير الله، فقد فَرَّغَ قلبَه مما سوى الله بلسانه، ليُواطِىءَ القلب وليس مشغولًا
بشيء سوى الله تعالى، فيكون نفي الشَّريك عن الله تعالى بالجوارح الظاهرة والباطنة.
وقوله: "وإقامِ الصلاةِ" معنى إقامة الصلاة: إما تَعْديل أركانها وحفظها من أن يقع فيها زَيْغ في فرائضها وسُننها وآدابها من أقَامَ العُودَ إذا قَوَّمَه، وإما المداومة عليها من قامَتِ السُّوق إذا نَفَقَت، وإما التَّجَلُّد والتَّشَمُّرُ في أدائها من قامتِ الحرب على ساقِها، وإما أداؤها تعبيرًا عن الأداء بالإِقامة، لأن القيام بعضُ أركانها، والصلاة فَعْلَةٌ من صَلّى، كالزكاة من زكّى، وهي مُشتَقَّة من الصَّلَوين، وهما عِرقان يكتنفان الظَّهر، سُمِّيَتْ بذلك لكثرة تحركهما فيها، وقيل: من الصلاة، بمعنى الدّعاء، قال الشاعر:
وقَابَلَها الرِّيحُ في دَنِّها
…
وَصَلّى عَلَى دَنِّها وارْتَسَمْ
أو من صَلَّيْت العصا بالنار إذا ليَّنْتَها وقَوَّمْتها، فالمصلي كأنه يسعى في تعديلها وتقويمها، أو لأن الصلاة تُقَوِّمُ صاحبها وتعدِّله، أو من المُصَلّي وهو ثاني حَلَبة السباق، فالأول المُجَلّي، والثاني المُصَلّي، وسميت بذلك لأنها ثانية دعائم الإِسلام، وهي شرعًا قُربة فعلية ذات إحرام وسلام، أو سجود فقط وقوله:"فعلية" أخرج القُرَبَ التَّرْكية كعبادة الأصنام، والصيام، لأنه تَرْك، وقوله:"ذات" أخرج الزكاة، وقوله:"وسلام" أخرج الحج، لأنه فيه إحرام ولا سلام فيه، وقوله:"أو سُجود" فقط هو بالرفع، وقيد به لإِدخال سجود القراءة.
وقوله: "وإيتاء الزكاة" أي: إعطائها من آتاه إيتاءً، وأما أتَيْتُه إتيانًا، فمعناه جئته، والزكاة لغة الطهارة والنَّماء واللِّياقة والتَّنعُّم، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أي: تطهر، ويقال: زكا الزَّرعُ زكاءً بالمدِّ إذا نما، وهذا الأمر لا يزكو بفلان، أي: لا يليق به، وزَكَا الرجل يزكو إذا تنعم وكان في خِصب، وسميت بذلك لأن المال يَطْهر بها، أو لأنها تُطَهِّرُ صاحبها، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أو لأنها سبب نماء المال وزيادته، ولها خمسة
أسماء في القرآن: الزكاة، والصدقة، والماعون:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] والحق: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] والنفقة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] هي شرعًا عبارة عن إعطاء جزء من المال على وجهٍ مخصوص.
وقوله: "والحج" هو لغةً القَصْد، وأصله من قولك: حَجَجْتُ فُلانًا أحُجُّهُ حَجًّا إذا عدت إليه مرةً بعد أخرى، قال الشاعر:
وَأشْهَدُ من عَوْفٍ حُلُولًا كَثيرةً
…
يَحُجُّون سِبَّ الزِّبْرِقانِ المُزَعْفَرا
أي: يأتونه مرةً بعد أخرى، والسِّبُّ بكسر السين، وتشديد الباء، شقة كِتّان، والمراد به هنا العِمَامة، والحَجُّ تأتيه الناس في كل سنة، وتُعورف استعمال الحَجِّ في القصد إلى مَكَّةَ -حرسها الله تعالى-، وهو شرعًا قَصْدٌ مخصوصٌ في وقتٍ مخصوصٍ إلى مكان مخصوص.
وقوله: "وصَوْم رَمَضان" الصوم لغةً: الإِمساك عن الكلام وغيره، قال تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وصام الفَرَسُ إذا قام على غير علفٍ، قال النابِغَةُ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غيرُ صائِمَةٍ
…
تَحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وصَام النهار صومًا إذا قام قائم الظَّهيرة واعتدل، والصَّوم ركود الريح، والصوم: ذَرْق النَّعام، قال الشاعر:
صَوْم النَّعَام زَرَافاتٍ زَرافاتِ
والصَّوم شجرٌ بعينه، قال الشاعر:
مُوَكَّلٌ بِشُدُوفِ الصَّوم يَنْظُرها
…
مِنَ المَخارِمِ مَخْطُوفُ الحَشَى زَرِمُ
وفيَ الشرع: الإِمساك عن شَهْوَتَي الفم والفَرْج، وما يقُوم مقامهما، مخالفةً للهوى في طاعة المولى.
ووجه الحصر في هذه الخمسة هو أن العبادة إما قولية أو غيرها،
الأولى: الشهادتان، والثانية: إما ترْكية أو فِعلية. الأولى: الصوم، والثانية: إما بَدَنِيَّة أو مالية. الأولى: الصَّلاة، والثانية: الزكاة، أو مركبة منهما وهي الحَجَّ، وقد ذكره مقدمًا على الصوم، وعليه بني المصنف ترتيب جامعه هذا، لكن عند مسلم من رواية سَعْد بن عُبيدة، عن ابن عُمر تأخير الصَّوم عن الحَجّ، فقال رجل، وهُو يزيد بن بِشْرٍ السَّكْسَكِيُّ:"والحَجُّ، وصَوْمُ رَمَضان" فقال ابن عُمر: لا، "صيامُ رَمَضان، والحَجّ" هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُحْتَمَل أن يكون حنظَلَةُ رواه بالمعنى، لكونه لم يَسْمع ردَّ ابن عمر على يَزِيد، أو سمِعَه ونَسيَه، وفي روايةٍ لمسلم من طريق حَنْظَلة بتقديم الصَّوم على الحجِّ، ولأبي عَوَانَة عنه بتقديم الصوم، فتنْوِيعه هذا دالٌّ على أنه رُوي بالمعنى، ويُؤيِّدُه ما وَقَع في البُخاري في التفسير، من تقديم الصيام على الزكاة، ورواه مُسلم عن ابن عُمر من أربع طُرق تارةً بالتَّقديم، وتارةً بالتَّأخير.
ولم يذكر البُخاريُّ الجهادَ لأنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا في بعض الأحوال، ومن زَعَم أن الحديث كان أول الإِسلام قبل فرض الجهاد فَقَد أخطأ، لأن فرض الجهاد كان قبل فرض الزَّكاة والحجِّ. فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يَصِحُّ شيءٌ منها إلا بعد وُجودِها، فكَيف يُضَمُّ مبنيٌّ إلى مبنيٍّ عليه في مسمّىً واحد؟ فالجواب هو أنه يَجُوزُ ابْتِناء أمر على أمر، يَنْبَني على الأمرين أمرٌ آخر، فإن قيل: المَبْنيُّ لا بد أن يكون غير المبني عليه، أُجيب بأن المجموع غيرٌ من حَيْث الانفراد عينٌ من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر يُجْعَل على خمسة أعمدة، أحدها أوسط، والبقية أركان، فما دام الأوسط قائمًا فمُسَمّى البيت موجودٌ، ولو سَقَط ما سَقط من الأركان، وإذا سَقط الأوسط سقط مُسمى البيت، فالبيت بالنَّظر إلى مجموعة شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضًا فبالنظر إلى أُسِّه وأركانه الأُسُّ أصل، والأركان تَبَعٌ وتكملةٌ.
وفي قوله: "بُنِيَ الإِسلام
…
" إلخ. استعارة تبعية، بأن يقدر