الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له، لأنه صفة البرد لا اليوم.
وقولها: "فَيُصْمُ" فيه ما في الذي قبله من الروايات.
وقولها: "لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا" بالفاء وتشديد المهملة. مأخوذ من الفَصْد، وهو قطع العرق لإِسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق، والعرق رَشْحُ الجلد، وإنما حصل له من كثرة معاناة التعب والكَرْب عند نزول الوحي، إذ أنه أمر طارىء زائد على الطباع البشرية، وإنما كان ذلك كذلك ليبلو صبره فيرتاض لما كلفه من أعباء النبوة، والجبين غير الجبهة، وهو فوق الصَّدْغ، والصدغ ما بين العين والأذن، فللإِنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد أن جبينيه معًا يتفصدان، وإنما أفرده لأن الإِفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر، كالعينين والأذنين، تقول عينه حسنة، وأنت تريد أنَّ عينيه معًا حسنتان.
وأما رجاله فستة:
الأول: عبد الله بن يوسف التِّنِّيسيِّ الأصل، الدِّمَشْقيّ المنزل، أبو محمَّد الكَلاعِيّ أكثر عنه البخاري في "صحيحه"، وقال: كان من أثبت الشّاميّين، قال: لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومئتين، وسمع منه "موطأ" مالك. وفي "الزهرة" أنه روى عنه مئتين وستًّا وثلاثين حديثًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الخَلِيْليّ: ثقة، متفق عليه. وقال ابن مَعين: أوثق الناس في "الموطأ" القَعْنَبِيّ، ثم عبد الله بن يوسف. وقال مرة: ما بقي على أديم الأرض أحد أوثق في "الموطأ" من عبد الله بن يوسف. وقال أبو حاتم: هو أوثق من مروان الطاطري، وهو ثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجُوزْجاني: سمعت عبد الله بن يوسف الثقة المقنع. وقال ابن عدي: صدوق لا بأس به، ومحمد بن إسماعيل مع شدة استقصائه اعتمد عليه في مالك. وقال ابن يونس: كان ثقة، حسن الحديث، عنده "الموطأ" ومسائل عن مالك غير "الموطأ". قال ابن عبد الحكم: كان يحيى بن بُكيْر يقول: متى سمع عبد الله
ابن يوسف من مالك؟ فخرجت أنا فلقيت أبا مُسْهِر سنة ثمان عشرة ومئتين، فقال لي: سمع عبد الله بن يوسف الموطأ معي سنة ست وستين ومئة، فقلت ذلك ليحيى بن بُكير، فلم يقل شيئًا.
وروى عن مالك، والليث، ويحيى بن حمْزة الحَضْرميّ، وسعيد بن عبد العزيز، والوليد بن مسلم، وابن وَهْب، وغيرهم.
وروى عنه البُخَارِيّ ، وروى عنه أبو داود، والتِّرمِذِيّ، والنسائي بواسطة محمَّد بن إسحاق الصَّغَانيّ، وروى عنه يحيى بن مَعين، وحَرْملة بن يحيى، وأبو حاتم، ويعقوب بن سُفيان، وبكر بن سهل الدِّمْياطِيّ.
مات بمصر سنة ثمان عشرة ومئتين.
وليس في الكتب الستة من اسمه عبد الله بن يوسف سواه.
وتِنِّيس -بكسر التاء المثناة من فوق، وكسر النون المشددة بعدها تحتانية ثِم سين مهملة- بلدة قرب دِمياط، بساحل البحر اليوم خَراب، سميت بِتَنّيس بن حام بن نوح عليه السلام.
وفي يوسف ست لغات؛ الهمزة، وتركها مع تثليث السين، والصحيح أنه اسم عِبْرانيّ، ومعناه جميل الوجه، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: إنه عربي، وإنه مشتق من الأسف الذي هو الحزن، أو الأسيف الذي هو العبد، وقد اجتمعا في يوسف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد لأن يعقوب، عليه الصلاة والسلام، لما سماه بذلك، لم يلاحظ هذا المعنى.
الثاني: مالك بن أنس بن مالك بن أنس، ويُكنى هذا بأبي عامر بن الحارث بن غيمان -بغين معجمة- وقيل: عثمان بن خثيل -بخاء معجمة- وقيل: جثيل -بجيم- ابن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الأصبحي الحِمْيَرِيّ، أبو عبد الله المَدَني، أحد أعلام الإِسلام، إمام الأئمة، وإمام دار الهجرة.
أخذ عنه الشافِعِيّ العلم الغزير، وقال فيه: مالك حجة الله تعالى على خلقه بعد التابعين، وقال: مالك معلمي، وعنه أخذنا العلم، وقال: إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يدك، وإذا جاء الأثر فمالكٌ النَّجْم، وقال ابن عُيَيْنة في حديث أبي هُريرة:"يوشك أن يضرِب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة" هو مالك، وكذا قال عبد الرزاق، وقال ابن عُيينة أيضًا: إنا كنا نتبع آثار مالك، وننظر إلى الشيخ إن كتب عنه، وإلا تركناه، وما مَثَلي ومثل مالك إلا كما قال الشاعر:
وابْنُ اللَّبونِ إذا مَا لُزَّ في قَرَنٍ
…
لمْ يَسْتَطعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَناعيسِ
وقال النسائي: ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل منه، ولا أوثق، ولا أمكن على الحديث منه، ولا أقل رواية عن الضعفاء؛ ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم، يعني أبا أمية، وقال ابن حِبان في "الثقات": كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يُوْرِد إلا ما صَحَّ، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنُسكِ، وبه تخرج الشافعي، وقال ابن مَهْدي: مما رأيت أحدًا أتم عقلًا ولا أشد تقوى من مالك، وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن عبد الله بن عُمر، وقال ابن عُيينة أيضًا: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال، وأعلمه بشأنهم، وقيل لسفيان: أيما أحفظ سمي أو سالم أبو النضر؟ فقال: قد يروي مالك عنهما، قال علي عن بشر بن عمر الزَّهْرَاني: سألت مالكًا عن رجل، فقال: رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي، قال: لا أعلم مالكًا ترك إنسانًا إلا إنسانًا في حديثه شيء. وقال ابن لَهيعة: قدم علينا أبو الأسود محمَّد بن عبد الرحمن سنة ست وثلاثين، فقلنا له: من يفتي بالمدينة؟ قال: ما رأيت ثَمَّ مثل فتى من ذي أَصْبح يقال له: مالك.
وقال حسين بن عروة عن مالك: قدم علينا الزُّهْرِي، فحدثنا نيفًا وأربعين حديثًا، فقال ربيعة: ها هنا من يرد عليك ما حدثت به أمس، قال: من هو؟ قال: ابن أبي عامر، قال: هات، فحدثته منها بأربعين، فقال: ما
كنت أظن أنه بقي من يحفظ هذا غيري، وقال بعض المحدثين: قرأ علينا وكيع، فجعل يقول: حدثني الثَّبْت، حدثني الثَّبْت، فقلنا: من هو؟ قال: مالك. وقال حرب: قلت لأحمد؛ مالك أحسن حديثًا عن الزُّهري، أو ابن عُيينة؟ قال: مالك، قلت: فمَعْمر، فقدم مالكًا إلا أن معمرًا أكبر سنًّا منه. وقال وُهيب ليحيى بن حسان: ما بين شرقها وغربها أحد آمن عندنا على العلم من مالك، والعرض على مالك أحب إلي من السماع من غيره، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي من أثبت أصحاب الزُّهْري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء، وقال ابن سعد: كان مالك ثقة، مأمونًا، ثبتًا، ورعًا، فقيهًا، عالمًا، حجة. وقال أبو مُصعب عن مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون محنكًا أني أهل لذلك. وقال ابن أبي خَيْثمة: حدثنا إبراهيم بن المُنْذر، سمعت ابن عُيينة، يقول: أخذ مالك ومَعْمر عن الزُّهري عَرْضًا، وأخذت سماعًا، قال: فقال يحيى بن معين: لو أخذا كتابًا كانا أثبت منه. وقال ابن وَهْب: سمعت مناديًا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس، وابن أبي ذِئْب. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيما أعلم صاحبنا أم صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكًا، قلت له: على الإِنصاف؟ قال: نعم، قلت ناشدتك الله، من أعلم بالسنة: صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، وهو لا يكون إلا على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس؟ وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهَيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضَعْفه وكِبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جُثَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة، وقال الواقِدِيُّ: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجُمُعة والجنائز ويَعُود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في
المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يصلي الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزيه، ولا يقضي له حقًا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يَتَكَلَّم بعذرهِ، وسعي به إلى جَعْفر بن سُليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، وهو عم أبي جَعْفَر المنصور، وقال له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر، ودعابه، وجرده من ثيابه، وضربه بالسياط، ومُدَّت يده حتى انخلعت كتفه، وارتُكِبَ منه أمرًا عظيمًا، فلم يَزَل بعد ذلك الضرب في علو رفعة، فكأنما كانت تلك السياط حُليًا له. وقال القَعْنبيُّ: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت: أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟ فقال لي يا ابنَ قَعْنَب! وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني، والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفت بالرأي، أو كما قال، وقال: معن بن عيسى: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا ما في رأيي، فما وافق السنة فخذوا به، وقال الدَّوْلَقِيُّ: أخذ مالك عن تسع مئة شيخ، ثلاث مئة من التابعين، وست مئة من تابعيهم، ممن اختاره وارتضاه لدينه وفهمه، وقيامه بحق الرواية، وشروطها، وسكنت النفس إليه، وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية.
ومن الأعلام الذين روى عنهم: نافع مولى ابن عُمر، وزيد بن أسلم، والزُّهْرِيّ، وأبو الزِّناد، وعبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق، وأيوب السَّختياني وثور بن يزيد الدِّيلِيّ، وإبراهيم بن أبي عَبْلة المَقْدِسيّ، وحُميد الطويل، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهشام بن
عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعائشة بنت سعد بن أبي وَقّاص، وخلق.
وروى عنه كثير من شيوخه: كالزُّهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، بل قيل: إن مالكًا ما روى عن أحد إلا روى عنه ذلك الشيخ بعد ذلك، إِلا نافع بن أبي نُعيم المقرئ. ومن الأعلام الذين رووا عنه، وماتوا قبله: سُفْيان الثَّوري، وشُعبة بن الحَجّاج، وأبو عاصم النَّبيل، وعبد الله بن المُبارك، وعبد الرحمن الأوزاعي، وأبو حنيفة. قال السُّيوطِيّ: ألف الدارقطني جزءًا في مرويات أبي حنيفة عنه.
وروى عنه: عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبِيّ، وعبد الله بن جُريج، وأبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن، وقُتيبة بن سعيد، واللَّيث بن سعد، وهو من أقرانه، والشافِعيّ، وخلق كثير.
وأما الذين رووا عنه "الموطأ" والذين رووا "مسائل الآي" فأكثر من أن يُحْصَوْا، قد بلغ فيهم أبو الحسن علي بن عمر الدارقُطْنيّ في كتاب جمعه في ذلك نحو ألف رجل.
وممن أخذه منه محمَّد بن الحسن الشَّيْباني، وقال: أقمت عند مالك ابن أنس ثلاث سنين وكسرًا، وسمعت منه لفظًا أكثر من سبع مئة حديث، وكان إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وكثر الناس عليه، حتى يضيقَ بهمُ الموضع، وإذا حدث عن غير مالك لم يجئه أحد، وأفردت العلماء التآليف العديدة في مناقبه، كان شديد البياض إِلى الشقرة طويلًا، عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثياب العدنية الجياد، ويكره حلق الشارب، ويعيبه، ويراه مثلة، ولا يغير شيبة، ولد سنة خمس وتسعين، وحمل به ثلاث سنين، وفيها ولد الليث بن سَعْد، وتوفي في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة، وعاش أربعًا وثمانين سنة، وقال الواقِدِيّ: عاش تسعين سنة. دفن بالبقيع، وقبته به مشهورة تزار، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد ابن الحسين السّرّاج:
سَقى جَدَثًا ضَمَّ البَقيعُ لمالِكٍ
…
مِنَ المُزنِ مَرعاهُ السحائبُ مِبراقُ
إمامٌ مُوَطاه الذي طَبَّقتْ به
…
أَقاليمُ في الدنيا فِساحٌ وآفاقُ
أَقامَ به شَرعَ النَّبيِّ مُحمدٍ
…
له حَذرٌ مِن أن يُضامَ وإِشفاقُ
له سَنَدٌ عالٍ صحيح وهَيبةٌ
…
فلِلْكُلِّ مِنهُ حينَ يَرويهِ إِطراق
وأَصحابُ صدقٍ كلُّهُمْ فَسَلْ
…
بهِم إِنهُم إن أَنت ساءَلْتَ حُذّاقُ
ولو لم يكن إلَّا ابن إِدريسَ وحْده
…
كَفاهُ ألا إن السَّعادة أرزاقُ
والأصبحيُّ في نسبة نسبه إلى ذي أَصْبحِ -بفتح الهمزة، وسكون الصاد- واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن غَوْث بن سعد بن عَوْف بن عَدِيّ بن مالك بن زَيْد بن سَهْل، بن عمرو بن قَيْس بن مُعاوية بن جشم ابن عبد شمس بن وائل بن الغَوْث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع بن حمير بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان، وذو كذا عند حمير لقب للملك، ويجمع جمع تكسير، فيقال لهم: الأذواء، وجمع سلامة فيقال لهم: الذوين، قال الشاعر:
فلا أَعني بذلك أَرذَلِيكُم
…
ولكني أُريدُ به الذَّويْنَ
وليس في الرواة مالك بن أنس غيره سوى مالك بن أنس الكوفي، رُوي عنه حديث واحد عن هانئ بن حرام، وغلط من أدخل حديثه في حديثه الإِمام، نبه عليه الخطيب في كتابه "المتفق والمفترق".
والإِمام مالك أحد أهل المذاهب الستة المدونة مذاهبهم. وثانيهم النعمان أبو حنيفة، مات ببغداد سنة خمسين ومئة عن سبعين سنة.
والثالث الإِمام الشافعي، مات بمصر عن أربع وخمسين سنة، سنة أربع ومئتين، والرابع: أحمد بن حَنْبل، مات ببغداد سنة إحدى وأربعين ومئتين، عن ثمانين سنة، والخامس سفيان الثوري، مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومئة، عن أربع وستين سنة، والسادس: داوود بن علي الأَصْبهاني، إمام الظاهرية، مات ببغداد سنة تسعين ومئتين، عن ثمان وثمانين سنة، وقد جمع الإِمام أبو الفضل يحيى بن سلامة الحَصْكَفِيّ
الخطيب الشافعي أسماءهم في بيت، كما جمع أسماء القراء فى بيت أيضًا فقال:
جَمَعتُ لكَ القُراء لما أَرَدتَهُمْ
…
ببيتٍ تَراهُ للأَئِمةِ جامعًا
أبو عَمروٍ وعبد اللهِ حمزَةُ عاصِمٌ
…
عليٌّ ولا تَنسْ المدِينيّ نافعًا
وإن شئْتَ أَركانَ الشريعةِ فاستَمع
…
لتَعرفَهُمْ فاحفَظ إِذا كُنتَ سامِعًا
محَمدُ والنُّعمانُ مالكُ أَحمدٌ
…
وسفيانُ واذكُر بَعْدُ داوودَ تابِعًا
الثالث: هشام بن عُروة بن الزُّبير بن العَوّام الأَسَدِيّ القُرَشِيّ أبو المُنْذِر، وقيل: أبو عبد الله، أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين في الحديث، المعدودين من أكابر العلماء، وجِلّة التابعين، ولد هو وعمر بن عبد العزيز، والزُّهْري، وقَتَادة، والأَعْمَش، ليالي قتل الحسين ابن علي، رضي الله تعالى عنهما، وكان قتله يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين، وقدم بغداد على المنصور، وهو معدود في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وقد قال له المنصور يومًا: يا أبا المنذر! أتذكر يوم دخلت عليك أنا وأبي وإخوتي الخَلائف، وأنت تشرب سَويقًا بقصبة يَرَاع، فلما خرجنا من عندك، قال لنا أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه، فإنه لا يزال في قومكم بقيةٌ ما بقي، قال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين، فلما خرج هشام، قيل له: يُذَكِّرُكَ أمير المؤمنين ما تَمُتُّ به إليه، فتقول: لا أذكره؟ فقال: لم أكن أذكر ذلك، ولم يُعَوِّدُني الله في الصدق إلا خيرًا.
وروي أنه دخل على المنصور، وقال له: يا أمير المؤمنين! اقضِ عَنّي ديني، فقال وكم دَينك؟ قال: مئة ألف، قال: وأنت في فقهك وفضلك تأخذ دين مئة ألف ليس عندك قضاؤها؟ فقال: يا أمير المؤمنين! شب فتيان من فتياننا، فأحببت أن أُبَوِّئَهُم، وخشيت أن يُنشر علي من أمرهم ما أكره، فبوأتهم، واتخذت لهم منازل، وأولمت عنهم ثقة بالله وبأمير المؤمنين، فردد عليه مئة ألف استعظامًا لها، ثم قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني ما أعطيتُ، وأنت طيب النفس، فإني سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعطى
عطية، وهو بها طيب النفس، بورك فيها للمعطي والمعطى له، قال: فإني طيب النفس بها، وأهوى إلى يد المنصور يقبلها فمنعه، وقال: يا ابن عُروة إنا نكرمك عنها، ونكرمها عن غيرك".
وقال: عثمان الدَّاريّ: قلت لابن مَعين: هشام أحب إليك من أبيه، أو الزُّهْري؟ قال: كلاهما، ولم يفضل. وقال ابن المَدِيْنِيّ: قال: يحيى ابن سعيد: رأيت مالك بن أنس في النوم، وسألته، عن هشام بن عُروة، فقال: أما ما حدث به، وهو عندنا، فهو كأنه يصححه، وأما ما حدث به ما خرج من عندنا، فكأنه يوهنه، وقال العِجْلي: وابن سعد كان ثقة، زاد ابن سعد: ثبتًا كثير الحديث حجة. وقال أبو حاتم: ثقة إمام في الحديث، وقالَ يعقوب بن شَيْبة: ثقة، ثبت، لم يذكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نرى أن هشامًا تَسَهَّلَ في العراق، فإنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. وقال ابن خِراش: بلغني أن مالكًا نقم عليه حديثه لأهل العراق، قدم الكوفة ثلاث مرات قدمة كان يقول: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، وقدم الثانية، فكان يقول: أخبرني أبي عن عائشة، وقدم الثالثة فكان يقول: أبي عن عائشة، وقال وَهْب: قدم علينا هشام بن عُروة، وكان فينا مثل الحسن، وابن سِيرين؛ وذكره ابن حِبّان في "الثقات"؛ وقال: كان متقنًا، ورعًا، فاضلًا، حافظًا، وقال: ابن حَجَر: قول ابن خِراش كان مالك لا يرضاه، قد حكى عن مالك فيه شيء أشد من هذا ولكنه محمول على ما قال؛ وقد احتج بهشام جميع الأئمة.
رأى ابن عمر؛ ومسح رأسه؛ ودعا له؛ وسهل بن سعد، وجابرًا، وأنسًا.
روى عن أبيه؛ وعمه عبد الله، وابنه يحيى بن عبد الله، وابن عمه عباد ابن حمزة بن عبد الله بن الزُّبير، وامرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن
العوام، وابن المنكدر، ووهب بن كيسان، وصالح بن أبي صالح السَّمَّان، وغيرهم.
وروى عنه أيوب السَّخْتِياني، ومات قبله، وعُبيد بن عمر، ومَعْمر، وابن جُرَيْج، وابن إسحاق ومالك بن أنس، والسُّفيانان، والحَمَّادان، وزُهير بن معاوية، والنَّضْر بن شُمَيْل، ويحيى بن سعيد القَطّان، وخلق كثير.
مات ببغداد سنة خمس وأربعين ومئة، ودفن بمقبرة الخيزران بالجانب الغربي، خارج السوق، نحو باب قطر وراء الخندق، على مقابر باب حرب، وهو ظاهر هناك معروف، وعليه لوح منقوش أنه قبر هشام بن عُروة، ومن قال إنه بالجانب الشرقي، قال: إن القبر الذي بالجانب الغربي هو قبر هشام بن عروة المَرْوَزِيّ، صاحب عبد الله بن المبارك.
الرابع: عُروة بن الزُّبير بن العوَّام بن خُوَيْلد بن أَسَد بن عبد العُزى بن قُصَيّ بن كلاب، أبو عبد الله المَدَنِيّ الأَسَدِيّ القرشي التابعي، الجليل، المجمع على جلالته، وإمامته، وكثرة علمه، وبراعته، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين جمعهم القائل بقوله:
ألا كلُّ مَن لا يَقتدي بأَئمةٍ
…
فَقِسمَتهُ ضِيْزَى عن الحق خارِجهْ
فخُذهُم عُبيد اللهِ عُروةُ قاسمٌ
…
سعيدٌ أبو بَكرٍ سُليمانُ خارجهْ
وسعيد المراد به ابن المُسَيِّب، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يَسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هِشام، وقيل: مكانه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: سالِم بن عبد الله ابن عمر، وخصت الفقهاء السبعة بهذا الاسم؛ لأن الفتيا بعد الصحابة، رضوان الله عليهم، صارت إليهم، وشُهِروا بها، وهم في عصر واحد، وعنهم انتشر العلم، والفتيا، وكان في عصرهم جماعة من العلماء
التابعين، مثل سالم بن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهم، وأمثاله، ولكن الفتوى لم تكن إلا لهؤلاء السبعة، وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، وإحدى عجائز الجنة، وهو شقيق عبد الله، بخلاف مصعب، فليس شقيقًا لهما، فقد جمع الشرف من وجوه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة، كثير الحديث، فقيهًا، عالمًا ثبتًا، مأمونًا. وقال العِجْلِيّ: مدني، تابعي ثقة، وكان رجلًا صالحًا، لم يدخل في شيء من الفتن. وقال ابن شهاب: كان إذا حدثني عروة ثم حدثتني عَمْرة، صَدَّقَ عندي حديث عمرةَ حديث عروةَ، فلما بَحَرْتُهما إذا عروة بحر لا يُنْزَف. وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول: إنا كنا أصاغر قوم، ونحن اليوم كبار، وإنكم اليوم أصاغر، وستكونون كبارًا، فتعلموا العلم تسودوا به، ويحتاج لكم؛ فوالله ما سألني الناس حتى نسيت. وقال ابن عُيينة، عن الزُّهري: كان عروة يتألف الناس لحديثه، وقال قَبيصةُ بنُ ذُؤَيْب: كان عروة يغلِبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلم الناس، قال ابن عُيَيْنَةَ: كان أعلم الناس بحديث عائشة عروة، وعَمرة، والقاسم. وقال هشام عن أبيه: قد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حِجج، أو خمس حِجج، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها، إلا وقد وعيته. وقال حُميد بن عبد الرحمن بن عَوْف: لقد رأيت الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنهم ليسألونه عن قصة ذكرها، وقال ابن أبي الزِّناد، وقال عروة: كنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي، وأن كتاب الله قد استمرت مريرته. وقال هشام: إن أباه كان حرق كتبًا فيها فقه، ثم قال بعد ذلك: لوددت أني فديتها بأهلي، ومالي، وقال أيضًا عن أبيه: إذا رأيت الرجل يعمل السيئة، فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وقال هشام: ما سمعت أبي قط يقول في شيء برأيه.
وقال ابن حِبان في "الثقات" كان من أفاضل أهل المدينة، وعقلائهم،
وقال ابن يونُس في "تاريخ الغرباء": قدم مصر وتزوج بها امرأة من بني وَعْلة، وأقام بها سبع سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، وقال ابن شَوْذَب: كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن، ويقرأه كل نهار ناظرًا في المصحف، وجمع المسجد الحرام بينه وبين أخويه، عبد الله، ومصعب، وعبد الملك بن مروان. أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي سفيان، فقال بعضهم: هَلُمَّ فَلْنَتَمَنَّ، فقال عبد الله بن الزبير: مُنيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة. وقال مُصعب: منيتي أن أملك العِراقين، وأجمع بين عَقِيلتَي قريش، سُكَيْنه بنت الحسين بن علي، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
وقال عبد الملك بن مَرْوان: منيتي أن أملك الأرض كلها، وأخلف معاوية. فقال عروة: لست في شيءٍ مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يُروى عنه هذا العلم؛ فصرف الدهر من صرفه إلى أن بلغ كل واحد منهم غرضه، فكان عبد الملك لهذا يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير.
وقدم على الوليد بن عبد الملك، ومعه ولده محمَّد، فدخل ولده إسطبل دواب عبد الملك، فضربته دابة، فخر ميتًا، ووقعت في رجله الأَكلَةُ كقُرحة، فقال له الوليد: اقطعها وإِلا أفسَدَتْ عليك جسدك، فقطعها بالمنشار، وهو شيخ كبير، ولم يمسكه أحد، وكان في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، ولم يَتَحرَّك، ولم يشعر الوليد بأنها قطعت حتى كُويت، وشم رائحة الكي، ولم يترك ورده تلك الليلة -وقال ابن شَوْذَب: إنه تركه تلك الليلة- وما زاد حالة قطعها على التكبير والتهليل ولما قطعت أغلي له الزيت في مغارف الحديد، فحسم به، فغشي عليه، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولما رأى القدم بأيديهم دعى بها، فقلبها في يده، ثم قال: والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، وقال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدًا، وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد، وايم الله، لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت، ولم يُسمع منه شيء حتى قدم
المدينة، فقال:{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمَّد بن طَلْحة، فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أَربٌ إلى السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض، إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله منك ما كنا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء من علمك، ورأيك؛ نفعك الله وإيانا به؛ والله ولي ثوابك، والضمين لحسابك.
وروي أنه قدم تلك السنة قوم من بني عبس، فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد عن عَيْنَيْه، فقال: يا أمير المؤمنين! بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيًّا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل، ومال، وولد، غير بعير، وصبي مولود، وكان البعير صعبًا فند، فوضعت الصبي، واتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلًا حتى سمعت صيحة ابني، ورأسه في فم الذئب يأكله، فلحقت البعير لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي، فَحَطَمَهُ، وذهب بعينى، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً، وكان عروة إذا جاءت أيام الرطب يَثْلُمُ حائطه، فيدخل الناس، فيأكلون ويحتملون، وكان إذا دخله رَدَّدَ هذه الآية:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] حتى يخرج، ولما قتل أخوه عبد الله، قدم على عبد الملك، وقال له يومًا: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له: هو بين السيوف، ولا أميزه من بينها، فقال عروة: إذا حضرت السيوف عرفته، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما حضرت، أخذ منها سيفًا مفللا، فقال هذا سيف أخي، فقال له: كنت تعرفه قبل الآن؟ فقال: لا، فقال: كيف عرفته؟ قال: قال النابغة:
ولا عيْبَ فيهِمْ غيرَ أَن سيوفَهُمْ
…
بهِنَّ فلولٌ مِن قراعِ الكتائِبِ
وهو الذي احتفر بئر عروة الذي بالمدينة، وهي منسوبة إليه، وليس بالمدينة بئر أعذب منها.
وروى عن: أبيه، وأخيه عبد الله، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وحَكيم بن حزام، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وخلق كثير.
وروى عنه: أولاده عبد الله، وعثمان، وهشام، ومحمد، ويحيى، وابن ابنه عمر بن عبد الله بن عُروة، وابن أخيه محمَّد بن جعفر بن الزُّبير، وأبو الأسود، ومحمد بن عبد الرحمن بن نَوْفل -يتيم عروة- وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن، وأبو بُردة بن أبي موسى، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، وهم من أقرانه، وتَميم بن سَلمة، وصالح بن كَيْسان، والزُّهري، وأبو الزِّناد، وابن أبي مليكة، وعِراك بن مالك وعطاء بن أبي ربَاح، وعمر بن عبد العزيز، وعَمْرو بن دينار، وغيرهم.
ولد في آخر خلافة عمر بن الخطاب، سنة ثلاث وعشرين، وأما ما رواه يعقوب بن سفيان من طريق الزُّهري، عن عُروة، أنه قال: كنت غلامًا، لي ذُؤابتان، فقمت أركع ركعتين بعد العَصْر، فَبَصُرَ بي عمر بن الخطاب، ومعه الدِّرة، فلما رأيته فررت منه، فأحضر في طلبي حتى تعلق بذؤابتي، فنهاني، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أعود، فهو وهم، ولعل ذلك جرى لأخيه عبد الله بن الزبير، وسقط اسمه على بعض الرواة، مات وهو صائم، سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع، وقيل: خمس، ودفن في قرية له بقرب المدينة يقال لها: فُرْع -بضم الفاء وسكون الراء- وهي بناحية الرَّبَذَة، بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخيل، ومياه وسنة موته سنة موت الفقهاء.
الخامس: عائشة -أم المؤمنين- بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهما، الفقيهة، الربانية، حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه كناها النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله، بابن أختها عبد الله بن الزُّبير، وقيل: بِسِقْط لها، وليس صحيح. وأمها أم رُومان -بضم الراء، وفتحها- زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب الكِنانية، وهي أم عبد الرحمن أيضًا.
كانت رضي الله عنها، من أكبر فقهاء الصحابة، وأحد الستة المكثرين في الحديث، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث، وهي بنت ست سنين، وقيل: بنت سبع، قال ابن حَجَر: ويجمع بينهما بأنها كانت أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع، قال ابن عبد البَرّ: لا أعلمهم اختلفوا في ذلك، وكانت تذكر لجُبَيْر بن مُطْعم، وتسمى له، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها في المنام في سَرَقَة من حرير، فتوفيت خديجة، فقال: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِهِ، فتزوجها بعد موت خديجة، رضي الله عنها بثلاث سنين، وكان موت خديجة، رضي الله عنها، قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أولى ما قيل في ذلك وأصحه، وقيل في موت خديجة: إنه كان قبل الهجرة بثلاث، وقيل: بأربع.
وروى يونس عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة، رضي الله عنها، في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وأعْرَسَ بها في شوال في المدينة المنورة، على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَرِه إلى المدينة. وفي ابن عبد البر: كانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال وتقول: هل في أزواجه أحظى مني، وقد نكحني وابتنى بي في شوال؟. وكان مُكثها معه تسع سنين، وقيل: ثمانية أعوام وخمسة أشهر.
وفي "الصحيح" عن عائشة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست، وبنى بي وأنا بنت تسع، وقُبِض وأنا بنت ثمان عشرة سنة.
وأخرج ابن أبي عاصم عنها؛ أنها قالت: لما توفيت خديجة، قالت خولة بنت حكيم بن الأَوْقَصِيّ، امرأة عثمان بن مَظْعون، وذلك بمكة: أي رسول الله: ألا تتزوج قال: "من؟ " قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا، قال:"فمن البكر؟ " قالت: بنت أحب خلق الله إِليك، عائشة بنت أبي بكر، قال:"ومن الثيب؟ " قالت: سَوْدة بنت زَمْعة، آمنت بك واتَّبَعَتْكَ، قال: اذهبي، فاذكريهما علي، فجاءت، فدخلت بيت أبي
بكر، فوجدت أم رُومان، فقالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: وددت، انتظري أبا بكر، فجاء أبو بكر، فذكرت له، فقال: وهل تصلح له، وهي بنت أخيه؟ فرجعت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قولي له: أنت أخي في الإِسلام، وابنتك تَحلُّ لي، فجاء، فأنكحه، وهي يومئذ بنت ست سنين. وفي "الصحيح" أنه لم ينكح بكرًا غيرها، وهو متفق عليه بين أهل النقل.
وروي عنها من طريق ابن سعد: أعطيت خِلالًا ما أعطيتها امرأة منكن، ملكني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت سبع، وأتاه الملك بصورتي في كفه لينظر إليها، وبنى بي لتسع، ورأيت جبرائيل، وكنت أحبَّ نسائه إليه، وَمَرَّضْتُهُ فقُبِضَ ولم يشهده غيري والملائكة، وورد من وجه آخر أنها قالت: فَضُلْتُ بعشر، فذكرت مجيء جبريل بصورتها، قالت: ولم ينكح بكرًا غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وكان ينزل عليه الوحي، وهو معي، وكنت أَغتسل أنا وهو من إناء واحد، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقبض بين سَحْري ونحري في بيتي وفي ليلتي، ودفن في بيتي.
وفي "الصحيح" من طريق هشام بن عُروة، عن أبيه، قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فذكر الحديث، وفيه فقال في الثالثة:"لا تُؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي وحيٌ وأنا في لحاف امرأةٍ منكن غيرها" وفي "الصحيح" عن أبي موسى مرفوعًا: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
ومن طريق أبي محمَّد مولى الغِفارِيّين أن عائشة قالت: يا رسول الله! من أزواجك في الجنة؟ قال: "أنت منهن".
وأخرج الترمذي من طريق الثوري أن رجلًا قال عند عمار: من عائشة؟
فقال: اغرُب؟ مقبوحًا، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأخرجه ابن سعد من وجه آخر، قال: مقبوحًا، منبوحًا، وزاد؛ إنها لَزوجته في الجنة، ومن مُرسل مسلم بن البُطَيْن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائِشة زوجَتي في الجنةِ".
وزاد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عائشة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن عمرو بن العاص أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت فمن الرجال؟ قال:"أبوها".
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيَّتُكُنَّ صاحبة الجمل الأدببِ يُقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت؟ " وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصادقة بنت الصديق البريئة المبرأة بكذا. وقال: رأيت مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس وأعلم الناس رأيًا في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة.
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا. وقال أبو الزِّناد: ما رأيت أحدًا أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا عبد الله، قال: وما روايتي من رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا؟ وقال: الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وأخرج ابن سعد من طريق أم ذَرَّة، قالت: أتيت عائشة بمئة ألف ففرقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما فرقت أن
تشتري بدرهم لحمًا تُفْطِرينَ عليه، فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت.
وفيها يقول حسان بن ثابت:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ
…
وتُصبِحُ غَرْثى من لُحوم الغَوافِلِ
عَقِيلةُ أَصْل مِن لؤَي بن غالبٍ
…
كرامِ المساعي مجدهم غيرُ زائلِ
مُهَذَّبةٌ قد طَيَّبَ الله حِيْمَها
…
وطَهَّرها مِن كُل بَغْي وباطلِ
فإن كان ما قد قيل عني قُلتهُ
…
فلا رفعتْ سَوطي إليَّ أَناملي
وإن الذي قد قيل ليس بِلائِط
…
بها الدهر بل قول امرىء متماحل
فكيف وَوُدّي ما حَيِيْتُ ونصرتي
…
لآل رسول الله زَيْن المحافل
رَأيتك وليغفر لك الله حُرة
…
من المحصنات غير ذات الغوائل
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذين رَمَوْا عائشة بالإِفْكِ، حين نزل القرآن ببراءتها، فجُلدوا الحد ثمانين، وحسان بن ثابت لم يُجلد معهم ولا خاض في الإِفك، ويزعمون أنه هو القائل:
لقد ذاق عبد الله ما كان أهلهُ
…
وحَمْنَةُ إذ قالوا هَجِيْرًا ومسْطحُ
وعبد الله وهو ابن أُبَيّ، وقيل: إن حسانًا جُلد، وإنه من جملة أهل الإِفك في عائشة، وأنشد ابن اسحاق هذا البيت في جملة أبيات، وقال:
لقَدْ ذاق حسان الذي كَانَ أهلهُ
…
الخ.
قال ابن عبد البر: وهذا أصح، لأن عبد الله بن أُبي لم يكن ممن يُستر جلده عن الجميع لو جُلِدَ؛ وقد روي أن حسان بن ثابت استأذن على عائشة بعد ما كُفَّ بصره، فأذنت له، فدخل عليها، فأكرمته، فلما خرج من عندها، قيل لها: أهذا من القوم؟! قالت: أليس الذي يقول:
فإنَّ أَبي ووالده وعِرضي
…
لِعِرض محمَّد منكم وقاءُ
هذا البيت يغْفِرُ له كل ذنب، واختلف: هل هي أفضل من خديجة؟ أو خديجة أفضل؟ كما اختلف هل هي أفضل أو فاطمة الزهراء؟ والأصح أنها هي أفضل هكذا قال العَيْنِي، والذي في "فتح الباري" في أحاديث الأنبياء عند ذكر مريم بنت عمران أن أفضل نساء هذه الأمة خديجة، وذكر
في مناقب الصحابة في فضل خديجة أن خديجة أفضل نسائه على الراجح، وذكر في فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام أن أفضليتها مقيدة بنساء النبي، عليه الصلاة والسلام، جمعًا بين هذا الحديث، وحديث، "أفضل نساء أهل الجنة خديجةُ وفاطمةُ الزهراء".
وسبب تسمية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أي في وجوب احترامهن وبِرِّهن ، وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة، وتحريم بناتهن، وكذا النظر في الأصح، وهل يقال لأخواتهن وإخوتهن أخوال وخالات المؤمنين؟ ولبناتهن أخوات المؤمنين؟ فيه خلاف بين العلماء، والأصح المنع لعدم التوقيف، وهل يقال فيهن أيضًا أمهات المؤمنات؟ فيه خلاف ، وروي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم. وهل يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؟ فيه خلاف، والأصح الجواز.
روي لها ألفا حديث ومئتا حديث وعشرة أحاديث. اتفق البخاري ومسلم على مئة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وخمسين.
روت عن: أبيها، وعن عمر، وفاطمة، وسعد بن أبي وقّاص، وأُسيد بن حُضَيْر، وجدامة بنت وهْب، وحفصة بنت عمر.
وروى عنها من الصحابة: عمر، وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وأبو موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، والسائب بن يزيد، وغيرهم، ومن آل بيتها أختها أم كلثوم ، وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث، وابنا أختها عبد الله وعروة ابنا الزبير. وروى عنها من كبار التابعين سعيد بن المُسَيِّب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، وخلق كثير.
توفيت سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء
لسبع عشرة خلت من رمضان، وأَمَرَتْ أن تدفن ليلًا، فدفنت بعد الوتر في البقيع، وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسة، عبد الله، وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمَّد، وعبد الله بن محمَّد بن أبي بكر، وعبد الله بن أبي بكر، وسنها يوم ماتت خمس وستون سنة.
وليس في "الصحيحين" من اسمه عائشة من الصحابة غير الصديقة.
وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عن خالتها عائشة، أصدقها مصعب ألف ألف، وكانت بديعة جدًا. وفي "البخاري" عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تروي عن أبيها. وفي "ابن ماجة"، عائشة بنت مسعود بن العَجْماء العَدَوية تروي عن أبيها، وعنها ابن أخيها محمَّد بن طلحة.
وجملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة: هذه، وبنت سعد بن أبي وقاص، وبنت جرير الأنصارية، وبنت الحارث القرشية، وبنت أبي سفيان الأَشْهَليَّة، وبنت عبد الرحمن بن عتيك، زوجة ابن رفاعة، وبنت عُمَيْر الأنصارية، وبنت مُعاوية بن المغيرة أم عبد الملك بن مروان، وبنت قُدامة بن مَظْعون.
السادس: الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم أخو أبي جهل لأبويه، وابن عم الوليد بن المغيرة، وأمه فاطمة بنت الوليد ابن المغيرة، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدرًا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، فعيره حسان بن ثابت فقال:
إن كُنْتِ كاذبةَ الذي حدثتِنِي
…
فنَجوْتِ منجى الحارث بن هشامِ
تَركَ الأَحِبَّةَ أَن يُقاتِلَ دُونهم
…
ونجى بِرأْس طِمِرَّة ولِجامِ
فأجابه الحارث بقوله:
اللهُ يعلمُ ما تَركتُ قتالهمْ
…
حتى رَمَوا فرسي بأشْقَرَ مُزْبِدِ
فعلمتُ أَني إِنْ أُقاتلْ واحدًا
…
أُقتلْ ولا يبكي عدوّي مَشْهدِي
ففررتُ عنهمْ والأَحبةُ فيهمُ
…
طمعًا لهمْ بعقابِ يومٍ مُرْصَدِ
وقال الأصمعي: هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار،
ثم شهد أُحدًا مشركًا، وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حُنين مئة من الإِبل في المؤلفة قلوبهم، وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم. وروي أن أم هانئ بنت أبي طالب استأمنت له النبي صلى الله عليه وسلم، فأمنه يوم الفتح، وكانت إذ أمنته قد أراد علي قتله، وأراد أن يغلبها عليه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم منزلها ذلك الوقت، فقالت: يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن أمي يريد قتل رجل أَجَرْتُهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت، وأَمَّنا من أَمَّنت فأمنه، وقيل: إن الذي أجارته بعض بني زوجها هُبيرة، وكان يُضرب به المثل في السُّؤْدد حتى قال الشاعر:
أَحَسِبْتَ أَنَّ أَباك يوم نسبتني
…
في المَجْد كان الحارثَ بن هشامِ
أَوْلى قُريشٍ بالمكارمِ والنَّدى
…
في الجاهليةِ كان والإِسلامِ
وذكر ابن إسحاق في قصة السقيفة، قال: فقال الحارث بن هشام، وهو يومئذ سيد بني مَخْزوم، ليس أحد يُعْدَلُ به إلا أهل السوابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "الأَئِمَةُ مِنْ قريش" ما أبعدنا منها الأنصار، ولكانوا لها أهلًا، ولكنه قول لا شك فيه، فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد لَصَيَّرَ الله هذا الأمر فيه، وكان الحارث يَحْمِلُ في قتال الكفار ويرتجز:
إِني بِرَبي والنَّبي مُؤمن
…
والبَعْثِ مِنْ بعد الممات مُوْقِن
أَقْبِحْ بِشَخْص للحياة مُوطِنُ
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكر الحارث بن هشام وفعله في الجاهلية في قِرى الأضياف، وإطعام الطعام، فقال:"إن الحارث لَسرِيّ، وإن أباه لسري، ولوددت أن الله هداه للإِسلام". وروي عنه أنه قال: يا رسول الله! مُرني بأمرٍ أعتصم به، فقال:"املك عليك هذا"، وأشار إلى لسانه، قال: فرأيت أن ذلك شيء يسير، وكنت رجلًا قليل الكلام، ولم أفطن له، فلما رُمته فإذا لا شيء أشد منه.
وروي عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: خرج الحارث بن هشام، فجزعَ أهل مكة جزعًا شديدًا، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج معه يُشيِّعُهُ،
حتى إذا كان بالبطحاء، أو حيث شاء الله من ذلك وقف، ووقف الناس حوله يبكون، فلما رأى جزع الناس، قال: يا أيها الناس! إني والله ما خرجت رغبةً بنفسي عنكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر، فخَرَجَت فيه رجال من قريش، والله ما كانوا من ذوي أسنانها، ولا في بيوتها، فأصبحنا والله لو أن جبال مكة ذهبًا أنفقناها في سبيل الله، ما أدركنا يومًا من أيامهم، ووالله لئن فاتونا به في الدنيا لَنَلْتَمِسُ أن نشاركهم في الآخرة، فاتَّقَى الله امرؤٌ فَعَلَ، فتوجه إلى الشام، فلم يزل مجاهدًا بالشام حتى ختم الله له بخير، ولم يتركِ الحارث إلا ابنه عبد الرحمن، فأتي به وبناجية بنت عُتْبة بن سَهْل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: زَوِّجوا الشريدة بالشريد عسى الله أن يَنْشُر منهما، فنشر الله منهما ولدًا كثيرًا، فولد له اثنان وثلاثون ولدًا منهم أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث، أحد الفقهاء على قول، كما مر.
وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجُهَني، روى عنه المصريون، ذكره ابن عبد البر، وابن حَجَر، يُكنىَ بأبي عبد الرحمن، وهو مشهور بكنيته، وليس للحارث صاحب الترجمة في "الصحيحين" رواية سوى هذا الحديث، وله رواية في "سنن" ابن ماجة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة في شوال.
وليس في "الصحيحين" من اسمه الحارث غير الحارث بن رِبْعِيّ بن قَتادة، على أحد الأقوال في اسمه، وغير الحارث بن عَوْف أبي واقِد اللَّيْثِيّ، وهما بكُنْيَتِهما أشهر، وأما خارج "الصحيحين" فجماعات كثيرون فوق المئة والخمسين، والحارث يكتب بلا ألف تخفيفًا.
مات الحارث بن هشام في طاعون عَمَواس، وقيل: استشهد يوم اليرموك. وأما ما رواه ابن لهَيعة بسنده؛ أن الحارث كاتب عبدًا له فذكر قصة فيها، فارتفعوا إلى عثمان، فهذا ظاهره أن الحارث عاش إلى خلافة عثمان، لكن ابن لهَيعة ضعيف، ويحتمل أن تكون المحاكمة تأخرت بعد وفاة الحارث.
لطائف إسناده:
منها أن رجاله كلهم مدنيون ما عدا شيخ البخاري، عبد الله بن يوسف، وفيه تابعي عن تابعي، أعني هشامًا وأباه، وهو من رواية الأبناء عن الآباء.
أما رواية التابعي عن التابعي فقد تقدمت في الحديث الذي قبله.
وأما رواية الأبناء عن الآباء فهي كثيرة، وعكسها أيضًا واقع، فقد صنف الخطيب في رواية الآباء عن الأبناء كرواية العباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم لحديث الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، عن ابنه الفضل، وكروايته أيضًا عن ابنه عبد الله، فقد قال ابن الجَوْزِيّ: إنه روى عنه حديثًا. وكرواية وائل عن ابنه بكر ثمانية أحاديث منها في "السنن" الأربعة، و"صحيح" ابن حبان، ما رواه بكر ابنه، عن الزُّهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر. وكرواية سليمان بن طَرْخان التَّيْمِيّ عن ابنه مُعْتَمِر حديثين، وقد روى الخطيب من رواية مُعتمر، قال: حدثني أبي، قال: حدثتني أنت عني، عن أيوب، عن الحسن، أنه قال:"ويحٌ" كلمة رحمة، قال ابن الصلاح: وهذا ظريف يجمع أنواعًا أي رواية الآباء عن الأبناء والعكس، والأكابر عن الأصاغر، والمُدَبَّج، والتحديث بعد النسيان، وغيرها، وكرواية قوم آخرين، رووا عن أبنائهم كأنس بن مالك روى عن ابنه غير مسمى، حديثًا، وزَكريّا ابن أبي زائدة روى عن ابنه يحيى حديثًا، ويونس بن أبي إسحاق، روى عن ابنه إسرائيل حديثًا، قال ابن الصلاح: وأكثر ما رويناه لأب عن ابنه ما رويناه في كتاب الخطيب، عن أبي عمر حَفْص بن عمر الدُّوري المقرئ، عن ابنه أبي جعفر محمَّد ابن حَفْص ستة عشر حديثًا أو نحو ذلك.
وأما أبو بكر الذي روى عن الحُمَيْراء عائشة، أم المؤمنين حديث الحبّة السوداء شفاء من كل داء "فهو" ابن عتيق محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، واسمه عبد الله، وعائشة عمةَ أبيه، لا أبو بكر الصديق،
وغلط من قال: إنه هو، مع أن ابن الجوزي ذكر أن أباها، أبا بكر الصديق، روى عنها حديثين، وروت عنها أمها أم رومان حديثين، وأما العكس الذي هذا الحديث منه، وهو رواية الأبناء عن الآباء، فقد صنف فيه الحافظ أبو نصر عبيد الله الوائِلِيّ، وهو مَعال أي مفاخر لولد الابن الناقل رواية أبيه عن جده كما قال ابن الصلاح: حدثني أبو المظفر السمعاني عن أبي النَّضر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامِيّ، سمعت أبا القاسم منصور ابن محمد العَلَوي يقول: الإِسناد بعضه عَوالٍ وبعضه معالٍ، وقول الرجل: حدثني أبي عن جدي من المعالي. ومن أهم هذا النوع ما إذا أبهم الابن أو الجد، وهو بحسب هذا الإِبهام قسمان:
أحدهما: ما تكون الرواية فيه عن أب فقط ، كرواية أبي العُشرَاء عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبو أبي العُشرَاء لم يسم في طرق الحديث، واسمهما على المشهور أسامة بن مالك بن قهطم بهاء، وقيل بحاء مهملة بدلها، وهو بكسر القاف والطاء، وبفتحهما، وبفتح الأول، وكسر الثاني، وعكسه، وقيل اسمهما عُطارد بن بَرْز -براء ساكنة أو مفتوحة- وقيل بلام بدلها ثم زاي، وقيل يسار بن بلز بن مسعود، وقيل: غير ذلك.
والقسم الثاني: هو أن يزيد الراوي في السند بعد الأب أباه يكون جدًا للراوي، أو يزيد جدًّا لأبيه، فالأول: كبُهْز بن حكيم، والثاني كعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. ولعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نسختان كبيرة وصغيرة، وقد اختلف في الاحتجاج بكل منهما، فالأكثر من المحدثين احتجوا بحديثه حملًا لجده في الإِطلاق على جده الأكبر الذي هو عبد الله بن عمرو بن العاص دون ابنه محمَّد، لما ظهر لهم من إطلاق ذلك، فقد قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المَديْنِيّ، وإسحاق بن راهويه، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، وقال مرة: اجتمع عَلي، ويحيى بن مَعين، وأحمد، وأبو
خَيْثمة، وشيوخ من أهل العلم يتذاكرون حديث عمرو بن شُعيب، فثبتوه وذكروا أنه حجة، وخالف آخرون، فضعفه بعضهم مطلقًا وبعضهم في روايته عن أبيه عن جده دون ما إذا أفصح بجده، فقال: عن جده عبد الله، وبعضهم فصل بين أن يستوعب ذكر آباء آبائه، كأن يقول الراوي: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن محمَّد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه فهو حجة، وإن يقتصر على قوله: عن أبيه عن جده فلا، وعمرو ثقة في نفسه، وإنما ضعف من قبل أن حديثه منقطع، لأن شعيبًا لم يسمع عبد الله، أو مرسل لأن جده محمدًا، لا صحبة له، ولكن قد صح سماعه من عبد الله، ثم هذا النوع قد تَقِلُّ فيه الآباء، وقد تكثُر، وسلسل أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن اللَّيث ابن سُليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي الحَنْبَلِيّ، فعد من جملة ما رواه روايته عن تسعة، كل منهم روى عن أبيه، فقد روى الخطيب، قال: حدثنا عبد الوهاب من لفظه: سمعت أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعت أبي أبا بكر، يقول: سمعت أبي الأسود يقول: سمعت أبي سفيان، يقول سمعت أبي يزيد، يقول: سمعت أبي أكينة، يقول: سمعت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقد سئل عن الحَنّان المنان، فقال: الحنان هو الذي يُقبِلُ على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنَّوال قبل السؤال، قال العراقي: اقتصر ابن الصلاح على هذا العدد، وقد ورد فوقه إلى اثني عشر وأربعة عشر، فمثال الأول ما رواه رزق الله بن عبد الوهاب التَّميميّ، عن أبيه عبد العزيز بسنده السابق إلى أكينة، عن أبيه الهيثم، عن أبيه عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما اجْتَمَعَ قومٌ على ذِكرٍ إلا حَفَّتهُم الملائِكةُ وغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ". ومثال الثاني ما رواه الحسن بن علي بن أبي طالب ببَلْخ، عن أبيه علي، عن أبيه أبي طالب، عن أبيه الحسن، عن أبيه عبيد الله، عن أبيه محمَّد، عن أبيه عبيد الله، عن أبيه علي، عن أبيه الحسن، عن أبيه الحسين، عن أبيه جعفر، عن أبيه عبد الله، عن أبيه الحسن، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن
أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليْس الخَبر كالمعاينة" وقد يلتحق برواية الرجل عن أبيه عن جده رواية المرأة عن أمها عن جدتها، ومنها ما رواه أبو داود، عن بُنْدار، عن عبد الحميد، عن عبد الواحد، عن أم جَنوب، عن بنت تميلة، عن أمها سُويدة بنت جابر، عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مُضرس، عن أبيها أسمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فقال:"مَن سَبَقَ إلى ماء لم يَسْبِق إليه مسلمٌ فَهْو له".
وأشار العراقي إلى هذا البحث بقوله:
وصَنَّفوا فيما عن ابن أخذا
…
أَبٌ كَعباس عن الفضلِ كذَا
وائلٌ عَن بَكر ابنِه والتَّيميّ
…
عن ابنه مُعْتَمرٍ في قَوْمِ
أَما أَبو بَكرٍ عن الحَمْراءِ
…
عائِشةٍ في الحَبَّةِ السَّوداءِ
فإنه لابن أبي عَتيقِ
…
وغُلِّطَ الواصفُ بالصديق
وعكسه صَنَّف فيه الوائِلي
…
وهو مَعالٍ للحفيدِ النّاقلِ
ومن أَهمِّه إذا ما أُبهما
…
الأبُ أَوْ جَدٌّ وذاكَ قُسِّما
قسمَيْنِ عن أَبٍ فقط نَحْو أبي
…
العُشرَا عن أَبه عن النبي
واسمهما على الشهيرِ فاعْلمِ
…
أُسامةُ بن مالكِ بن قِهْطِمِ
والثاني أَنْ يَزيد فيه بعدهُ
…
كبَهْزٍ أو عَمرٍو أبًا أو جَدهُ
والأَكثرُ احتجوا بِعَمْرٍو حَملا
…
لهُ على الجَدِّ الكبير الأَعلى
وسَلْسَل الآبا التَميميُّ فَعَدّ
…
عن تِسْعةٍ قُلْتُ وفوق ذا وردْ
ومن لطائفه: أن هذا الحديث يحتمل أن تكون عائشة حضرته، فيكون من مسندها، وأن يكون الحارث أخبرها به، فيكون من مراسيل الصحابة، وهي في حكم الموصول، قال ابن الصلاح: ما رواه ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيره من أحداث الصحابة، مما لم يحضروه، أو لم يدركوه في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة في الغالب، وجهالة الصحابي غير قادحة، لأن الصحابة كلهم عدول، فيُحْتَجُ به عند الجمهور خلافًا لأبي إسحاق الإِسْفَرايِينيّ القائل: لا يُحْتَجُّ به إلا أن يقول: إنه لا يروي إلا عن
صحابي، والصواب الأول، لأنه مذهب الشافعي والجمهور، وقلنا: في الغالب، لأن بعض الصحابة قد يروي عن بعض التابعين، كرواية العبادلة عن كعب الأحبار، وإذا قلنا: إن الغالب رواية الصحابي عن الصحابي؛ فإنما سمي ما رواه الصحابي على الوجه المذكور مرسلًا بناء على القول: بأن المرسل ما سقط منه راوٍ فأكثر من أي موضع كان، وإن اعتبرت النادر، كان تسميته مرسلًا جارية على الاصطلاح المشهور، لأن رافِعَهُ حينئذ تابعي، ولما ذكر مرسل الصحابي وجب التعرض للمرسل، وتبيين حقيقته، فأقول:
المرسل بصيغة اسم المفعول، ويجمع على مراسيل، مأخوذ من الإرسال، وهو الإِطلاق كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] فكأن المرسل أطلق الإِسناد، ولم يقيده بجميع رواته، وهو في اصطلاح الأصوليين قول غير الصحابي تابعيًا أو من بعده، قال صلى الله عليه وسلم كذا أو فعله، مُسْقِطًا الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وأما في اصطلاح المحدثين: هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا كان أو كناية على المشهور، وقيده ابن عُمر بما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من لقيه كافرًا فسمع منه، ثم أسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم، وحدث بما سمعه منه كالتَّنُوخِيّ، رسول هِرقل، فإنه، مع كونه تابعيًّا، محكوم لما سمعه بالاتصال لا بالإِرسال، وخرج مرسل الصحابي، وقد مر ما فيه، وقيل: المرسل ما رفعه التابعي الكبير، فما رفعه الصغير يسمى منقطعًا لا مرسلًا، والكبير هو ما كان أكثر رواياته عن الصحابة، والصغير أكثر رواياته عن التابعين، وقيل: ما سقط من سنده راوٍ واحد كان أو أكثر، من أوله أو آخره أو بينهما، فيشمل المنقطع والمُعْضَل، والمُعَلَّق، ولذا قال النووي: المرسل عند الفقهاء والأصوليين، والخطيب، وجماعة من المحدثين ما انقطع إسناده على أي وجه كان، ففيه ثلاثة أقوال؛ أضيقها الثاني، وأوسعها الثالث، والأول هو المشهور في استعمال أهل الحديث.
واحتج به مالك، وأبو حنيفة، ومن تبعهم، ورده جماهير النقاد من المحدثين، وحكموا بضعفه للجهل بالساقط في الإِسناد، فإنه يُحتمل أن يكون تابعيًّا، ثم يحتمل أن يكون ذلك التابعي ضعيفًا، وهكذا إلى الصحابي، وإن اتفق أن الذي أرسله كان لا يروي إلا عن ثقة، إذ التوثيق في المبهم غير كاف.
ونقل ابن عبد البر، ومسلم في "مقدمته" رد الاحتجاج به، لكن عند بعض المحدثين، وخصوصًا الشافعي، إذا صح اتصال المرسل بمسند غيره، يجيء من وجه آخر، صحيح، أو حسن، أو ضعيف، يعتضد به، أو عضده مرسل، أخرجه من ليس يروي عن رجال المسند الأول قُبِلَ، ولم يفصل ابن الصلاح في المرسل المعتضد بين كبار التابعين وصغارهم، وقيد الإِمام الشافعي المعتضد بكونه من كبار التابعين، وبكونه لا يروي إلا عن الثقات أبدًا، بحيث إذا سمَّى من أبْهمَ لم يُسمِّ مجهولًا، ولا مرغوبًا عن روايته، ولا يكفي قوله: لم آخذ إلا عن الثقات، ولا فرق في ذلك عنده بين مرسل سعيد بن المُسَيِّب وغيره، وقيده أيضًا بكون من أرسله إذا شارك أهل الحفظ، يُوافقهم إلا في نقص لفظ من ألفاظهم لا يختل به المعنى، ولا ينحصر اعتضاده بما ذكر، بل يعتضِدُ بغيره، كقياس، وفعل صحابي، وعمل أهل العصر، ولا يُحْتَّجُّ بما لم يَعْتَضِد، لكن قال السبكي: إن دل على محظور ولم يُوجد غيره، فالأظهر وجوب الانكفاف احتياطًا.
فإن قيل: إذا اعتضد المرسل بمسند كان الاعتماد في الاحتجاج عليه لا على المرسل، فالجواب أنهما دليلان، فالمسند دليل برأسه، يحتج به منفردًا، والمرسل بالمسند يعتضد، ويصير دليلًا آخر، فيرجح بهما عند معارضة حديثٍ واحد، وخَصَّ الرّازيّ الكلام بمسند لا يحتَجُّ به منفردًا، وعليه فيكون اعتضاده به كاعتضاده بمرسل آخر، فيكون كل منهما معتضدًا بالآخر، وحجة به، وإذا وجد في السند عن رجل، أو
شيخ، أو نحوه، مما هو مبهم، سمي عند جماعة من المحدثين منقطعًا، وفي "البرهان" لإِمام الحرمين تسميته مرسلًا.
قال العراقي: وكل من هذين القولين خلاف ما عليه الأكثر فإن الأكثر على أن هذا متصل في إسناده مبهم، لكنه مقيد بما إذا لم يسم المبهم في رواية أخرى، وإلا فلا يكون مجهولًا، ومقيد أيضًا بما صرح من أبهم بالتحديث ونحوه، وإلا فلا يكون حديثه متصلًا، لاحتمال أن يكون مرسلًا، وهذا كله إذا كان الراوي عنه غير تابعي، أو تابعيًّا ، ولم يصفه بالصحبة، وإلا فالحديث صحيح، لأن الصحابة كلهم عدول، ووقع في كلام البيهقي تسميته أيضًا مرسلًا، ومراده مجرد التسمية، وإلا فهو حجة، كما صرح به في موضع كالبخاري، لكن قيده أبو بكر الصَّيْرَفيّ من الشافعية، بأن يصرح التابعي بالتحديث ونحوه، فإن عَنْعَنَ فمرسل، لاحتمال أنه روى عن تابعي، واستحسن العراقي كلامه، وكلام من أطلق محمول عليه، وتوقف فيه ابن حَجَر قائلًا: إن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس تحمل عنعنته على السماع.
وأشار العراقي إلى المرسل بقوله:
مرفوعُ تابعٍ على المَشهورِ
…
مُرْسلٌ أو قَيِّدْهُ بالكبيرِ
أو سقطُ راوٍ منهُ ذو أقوال
…
والأولُ الأكثرُ في استعمالِ
واحتجَّ مالكٌ كذا النُّعمان
…
وتابعوهُما بهِ ودَانُوا
ورَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقّادِ
…
للجَهْلِ بالسّاقِط في الإِسنادِ
وصاحبُ التَّمهيدِ عنهم نَقَلَه
…
ومسلمٌ صَدْرَ الكتاب أصَّلهْ
لكنْ إِذا صحَّ لنا مَخرجُهُ
…
بمُسنَدٍ أو مُرسلٍ يُخَرجُهُ
مَنْ ليسَ يروي عن رجالِ الأوَّلِ
…
نقبلْهُ قلتُ الشيخُ لم يفصِّل
والشافعيُّ بالكبارِ قيَّدا
…
ومَنْ روى عن الثقاتِ أبدا
ومَن إذا شاركَ أهلَ الحفظِ
…
وافقهمْ إلا بنَقصِ لفظِ
فإن يُقَلْ فالمُسندُ المُعْتمدُ
…
فقُلْ دليلانِ به يَعتضدُ