الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للعهد، والمراد به سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، بقرينة قوله:"حتى أكون أحبَّ" وإن كانت محبة جميع الرسل من الإِيمان" لكن الأحَبّيِة مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
الحديث السابع
14 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» .
قوله: "والذي نفسي بيده" وفي رواية "فوالذي نفسي بيده" أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوض علمه إلى الله تعالى، وقال أبو حنيفة: يلزَمُ من تأويلها بالقدرة عين التعطيل، فالسبيل فيه كأمثاله الإِيمان به على ما أراد، ونَكُفُّ عن الخوض في تأويله، فنقول: له يد على ما أراد، لا كَيَدِ المخلوق، وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتاب "متشابه الصفات" ويؤخذ منه جواز القسم على الأمر المهم للتأكيد، وإن لم يكن هناك مستحلِف، والمقسم عليه قوله:"لا يُؤْمِنُ أحدكم" أي إيمانا كاملًا.
وقوله:"حتى أكون أحب إليه" أفعل التفضيل هنا بمعنى المفعول، وهو كثير غير مقيس، منصوب خبر لأكون، وفصل بينه وبين معموله بقوله:"إليه" لأن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.
وقوله: "من والده" أبيه وأمه، أو اكتفى به عنها.
وقوله: "وولده" أي ذكرًا وأنثى، وقدم الوالد للأكثرية لأنّ كل أحد له والد من غير عكس، أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه في الزمان، وعند النَّسائي تقديم الولد لمزيد الشفقة، وخصهما بالذكر لأنهما أعز على الإنسان غالبًا من غيرهما، وربما كانا أعز على ذي اللُّبِّ من نفسه فالثالثة محبة رحمة وشفقة، والثانية محبة إجلال، والأولى وهي محبة الرسول
صلى الله تعالى عليه وسلم محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه، فضلًا عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه، قال:
أشْبَهْتَ أعْدائي فَصِرْتُ أُحِبُّهُم
…
إذْ صَارَ حظّي مِنك حَظّي مِنهُمُ
والمراد بالحب هنا حب الاختيار المستند إلى الإِيمان، لا حُب الطبع، فمعناه: لا يؤمن حتى يؤثر رضايَ على رضى الوالدين، وإن كان فيه هلاكهما.
وقال النَّوَويّ: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فمن رَجَّحَ جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم راجحًا، ومن رَجَّحَ جَانب الأمارة كان حكمه بالعكس، وإنما وَجَبَ أن يكون عليه الصلاة والسلام أحبَّ إلى الإِنسان من غيره، لأن محبوب الإِنسان إما نفسه وإما غيره، أما نَفْسه فهو أن يريدَ دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره، فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالًا ومآلًا، فإذا تأمَّل النَّفْعَ الحاصل له من جهة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفعه البقاء الأبدي في النعيم السَّرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع المثير للمحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم.
وقال القُرْطُبِيّ: كل من آمن بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدانه شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم
متفاوتون، فمنهم من أخذ تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا في الغَفَلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذُكِر النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيثُ يؤثِرُها على أهله وولدِهِ ووالدهِ ومالِه ويبذُل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجدُ مخبر ذلك من نفسه وُجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره الشريف ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر لما وَقَر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغَفَلات، وأيضًا المحبة، إما اعتقاد النفع أو ميل يتبع ذلك أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع، ثم الميل قد يكون لما يَسْتَلِذُّه بحواسه كحسن الصورة، ولما يستلذه بعقله كحب الفضل والجمال، وقد يكون لإِحسانه إليه، ودفع المَضارِّ عنه، ولا يَخْفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعيم، ولا شَكَّ أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما، فيجب كونه أحب منهما، لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها، ومحبته عليه الصلاة والسلام هي إرادة طاعته، وترك مخالفته، وهي من واجبات الإِسلام. وجعل القاضي عِياض معنى المحبة: التعظيم والإِجلال، فجعلها شرطًا في صحة الإِيمان، وتَعَقَّبَه القُرطبيّ قائلًا: إن ذلك ليس مرادًا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة التي هي الميل على ما مر، إذ قد يجد الإِنسان إعظام شيءٍ مع خلوه من محبته، قال: فَعَلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يَكْمُل إيمانه، وإلى هذا يُومىءُ قول عمر الذي رواه البخاري في الأيْمان والنذور عن عبد الله بن هشام، أن عُمر رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لَأنْتَ يا رسولَ الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال:"لا، والّذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنك والله الآن أحب إلي من نفسي، فقال:"الآن يا عمر".