الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفِرَبْريّ من أنه عليه السلام سار إلى أخيه قَابيْل، فقاتله بوصية أبيه له بذلكَ، وأخذه أسيرًا، وسلسله، ولم يزل كَذلك إلى أن مات كافرًا، أعاذنا الله تعالى من ذلك، وهو أول من تقلد السيف، وقيل: إنما خُصَّ بالذكر لأنه أول رسول آذاه قومه، فكانوا يحصِبونه بالحجارة حتى يقعَ على الأرض، كما وقع مثله لنبينا عليهما الصلاة والسلام، وقيل: لأنه أول أولي العزم، وعَطَفَ عليه النبيين من بعده.
الحديث الأول
1 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
[الحديث 1 - أطرافه في 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953].
قال في "الفتح": إن المصنف ابتدأ كتابه بالرواية عن الحُميدي امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "قَدِّموا قريشًا" وهو أفقه قرشي أخذ عنه، وله مناسبة أخرى وهو أنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأنّ ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي، وفي جميع الفضل على قول، وأفضل على مذهب مالك، ومالك وابن عُيَيْنة قرينان. قال الشافِعِيّ: لولاهما لذهب العلم بالحجاز.
ووجه إدخال الحديث في ترجمة بدء الوحي، هو أن الكتاب لما كان موضوعًا لجميع وحي السنة، صدَّرَه ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدَّرَه بحديث الأعمال، وأبدى بعض العلماء نكتة عجيبة في بدء البخاري بهذا الحديث، فقال: إن البخاري ابتدأ كتابه
بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وختمه بحديث "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" وفي كل واحد منهما غرابة، إشارة منه إلى حديث "بدأ الإِسلام غريبًا، وسيعودُ كما بدأ غريبًا .... الخ" وهذه نكتة عجيبة، قل أن تقف عليها في كتاب. وقال ابن بَطّال: نقلًا عن أبي عبد الله بن النَّجّار: التبويب متعلق بالآية والحديث معًا، لأنّ الله تعالى أوحى إلى الأنبياء، ثم إلى محمَّد عليه الصلاة والسلام، أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال أبو العالية في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] قال: وصاهم بالإِخلاص في عبادته، وعن أبي عبد الملك البُوني مناسبة الحديث للترجمة: هي أن بدء الوحي كان بالنية، لأنّ الله تعالى فطر محمدًا صلى الله عليه وسلم على التوحيد، وبغَّضَ إليه الأوثان، ووهب له أول أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله تعالى في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء، فقبل الله تعالى عمله، وأتمَّ له النعمة.
وقال المُهَلَّب: قصد البخاري الإِخبار عن النبي عليه الصلاة والسلام في حال منشئه، وأن الله تعالى بغض إليه الأوثان، وحبب إليه خِصال الخير، ولزوم الوحدة، فرارًا من قُرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله تعالى على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال: الفواتح عنوان الخواتم. وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهِجرة، وقيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخُطبة للكتاب، وتعقب هذا بأنه لو كان أراد ذلك لكان سياقه قبل الترجمة، وحكى المهلب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجرًا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأنّ الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأنّ بالهجرة افتُتح الإِذن في قتال المشركين، ويعقبُهُ النصر والظفر والفتح.
قال في "الفتح": وهذا وجهٌ حسن إلا أنني لم أر ما ذكره من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر منقولًا، وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيُّها النّاسُ، إنّما الأعمال بالنيةِ" ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة، فلم أر ما يدل عليه.
فيما ذكر من المناسبات تعلم سقوط اعتراض من اعترض على المصنف إدخال حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي قائلًا: إنه لا تعلق له بها أصلًا، بحيث إن الخَطّابي في "شرحه" والإسماعيلي في "مستخرجه" أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن مندة صنيع الإسماعيلي في ذلك، وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف.
ثم اعلم أن هذا الحديث تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدره، قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى، وأكثر فائدة من هذا الحديث، وقال ابن مَهْدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابًا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مَهْدي أيضًا: يَنْبَغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، واتفق الشافعي، وأحمد، وابن المَدِيْني، وابن مَهْدي، على أنه ثلث الإِسلام، ووجه ذلك بأن كسب العبد يقع بقلبه، ولسانه، وجوارحه، فالنية أحد أقسامه الثلاثة، وهي أرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد:"نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عملهِ" وفي رواية "أبلغُ". رواه البَيْهَقِيُّ في الشعب عن أنس مرفوعًا، وقال: إسناده ضعيف، ورواه العَسْكَرِيُّ والقُضاعيُّ. وإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين، وبيان ذلك هو أن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله، وإنما هو لنيته، لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه، إلا أنه جازاه بنيته، لأنه كان ناويًا أن يطيعَ الله تعالى لو بقي أبدًا، فلما اخترمته مَنِيَّتُهُ دون نيته جزاه الله عليها، وكذا الكافر، لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحقَّ التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره، غير أنه نوى أن يقيم
على كفره أبدًا لو بقي، فجزاه على نيته، ويحتمل أن يكون المراد منه أن النية خير من عمل بلا نية، إذ لو كان المراد "خير من العمل مع النية" للزم أن يكون الشيء خيرًا من نفسه مع غيره، أو المراد الجزاء الذي هو للنية، خير من الجزاء الذي هو للعمل، لاستحالة دخول الرياء فيها، أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله، لأنّ النية فعل القلب، وفعل الأشرف أشرف، أو أن المقصود من الطاعات تنوير القلب، وتنوير القلب بها أكثر، لأنها صفته، أو أن نية المؤمن خير من عمل الكافر، لما قيل: ورد ذلك حين نوى مسلم بناء قَنْطرة، فسبق كافرٌ إليه.
وعن الشافعيِّ أيضًا: أنه يدخل فيه نصف العلم، ووجه بأن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح، وقيل: إنه رُبُعُهُ، قال أبو داود: يكفي الإِنسان لدينه أربعة أحاديث: "الأَعْمالُ بالنِّيَّةَ". و"مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرْءِ تركُهُ ما لا يَعْنيهِ". و"لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يَرْضى لأخيه ما يَرْضى لنفسِه". و"الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ". وقال غيره غيرها.
وقوله: "على المنبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنياتِ .... الخ". المِنبر بكسر الميم من النَّبرة وهي الارتفاع، وأل فيه للعهد أي المِنْبر النبوي المدني، وفي رواية حَمَّاد بن زَيْد عن يحيى في ترك الحيل: سمعت عمر يخطُب.
وقوله: "قال: سمعت رسول الله .... الخ" على حذف أي سمعت كلامه، لأنّ الذات لا تسمع، ويقول: حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبينة للمحذوف المقدر، لأنّ سمعت لا يتعدى إلى مفعولين، وقال الأَخْفَشُ: إنها إذا عُلِّقَتْ بغير مسموعٍ تتعدى لمفعولين.
وقوله: "إنّما الأعمالُ .... الخ" إنما تفيد الحصر، واختلف هل إفادتها له بالمنطوق أو المفهوم، وهل تفيده بالوضع أو بالعرف؟ أو تفيده بالحقيقة أو المجاز؟ والصحيح أنها تفيد الحصر المشتمل على نفي
الحكم عن غير المذكور نحو: إنما قائم زيد لا عمرو، أو نفي غير الحكم عن المذكور، نحو: إنما زيد قائم أي لا قاعد بالمنطوق وضعًا حقيقيًا، والدليل استعمالها موضع النفي، والاستثناء كقوله تعالى:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7] وقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 39] وقوله: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] ومن الدليل الواضح حديث: "إنما الماءُ من الماءِ". فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يُعارضْهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلةَ أخرى كحديث:"إذاَ التَقَى الخِتانانِ". ومن شواهده قول الأعْشى:
ولَسْتُ بالأَكْثَرِ مِنْهُم حَصَى
…
وإنّما العِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى، واختلفوا هل هي بسيطة أو مركبة، فرجَّحوا الأول، وقد يُرجَّح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إنَّ "إنَّ" للإِثبات، و"ما" للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإِثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئًا آخر، أفاده الكِرْماني، قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدًا بعد تأكيد، فهو المستفاد من "إنما" ومن الجمع، فَمُتَعَقَّبٌ بأنه من باب إيهام العكس، لأنّ قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيدُ الحصر.
وقال ابن دَقيقِ العيدِ: استُدِلَّ على إفادة "إنما" للحصر، بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النَّسيئَةِ، بحديث:"إنما الربا في النَّسيئَةِ"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحُكْم، ولم يخالفوه في فَهْمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر، وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تَنَزُّلًا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: "لا ربا إلا في النَّسيئةِ" لورود ذلك في بعض طرق
الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه، ويشعر بأن مفاد الصيغتين واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه، وقد مر ما قرر في حديث:"إنما الماءُ من الماءِ" وقال ابن عطية: "إنما" لفظة لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيثُ وَقَعَ، ويصلُحُ مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازًا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وكون أصل ورودها للحصر لا ينافي أنها قد تكون في شيء مخصوص لسبب كقوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإِلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم، والقدرة، وكقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى، كالبشارة إلى غير ذلك من الأمثلة.
والأعمال جمع عمل، وهو حركة البدن بكله أو بعضه، فالعمل إحداث أمر قولًا كان أو فعلًا بالجارحةِ، فالمراد بها في الحديث: الأعمال البدنية أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين. والتقييد بالمكلفين المؤمنين يخرج أعمال الكفار، لأنّ المراد بالأعمال أعمال العبادة، وهي لا تصِحُّ من الكافر، وإن كان مخاطبًا بها، معاقبًا على تركها، قال ابن دَقِيقِ العيد: أخرج بعضهم الأقوال، وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها، وقد تعقب على من يسمي القول عملًا، لكونه عمل اللسان بأنَّ من حَلَفَ لا يعمل عملًا، فقال قولًا لا يحنث، وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف، ولهذا يعطف عليه، والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة، ويدخل مجازًا، وكذا الفعل لقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] بعد قوله {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] وفي اللفظ خمس روايات: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، الأعمالُ بالنيةِ، العمل بالنيةِ، إنما الأعمالُ بالنيةِ، الأعمالُ بالنياتِ" بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات، والرواية الأولى
والأخيرة فيهما مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنية، كأنه أشار بذلك إلى أن النية تَتَنَوَّعُ كما تَتَنَوَّعُ الأفعال، كمن قَصَدَ بعمله وجه الله تعالى، أو تحصيل موعوده، أو الاتّقاء لوعيده، وفي معظم الروايات النية بالإِفراد على الأصل، لأنّ المصدر لا يجمع إلا باعتبار تنوعه، وإفرادها لاتِّحاد محلها، وهو القلب، كما أن مرجعها واحدٌ، وهو الإِخلاصُ، لا يجمع للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها.
والنيات جمع نِيَّة بكسر النون، وتشديد التحتانية، وحُكي تخفيفها، من نَوَى يَنْوي، من باب ضرب، وهي لغةً القصد، وقيل: هي النَّوَى، بمعنى البعد، فكأن الناوي للشيء يطلب بقصده وعزمه ما لم يصل إليه بجوارحه وحركاته الظاهرة لبعده عنه، فجعلت النية وسيلة إلى بلوغه.
وشرعا قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عَزْما، أو يقال: قصدًا لفعل ابتغاء وجه الله وامتثالا لأمره، وهي هنا محمولة على المعنى اللغوي ليطابق ما بعده من التقسيم.
وقال البيْضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مآلًا، والشرع خصصه بالإِراده المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه.
ومعنى الجملة تركيبًا أن الأعمال البدنية
…
الخ لا تكون صحيحة أو مجزئة إلا بالنيات، فالباء متعلق بمقدور وهو: صحيحةٌ أو مجزئةٌ؛ كما قدرنا؛ وقَدَّرَهُ الحَنَفِيَّةُ: كاملةً، والأول أولى؛ لأنّ الصحيحة أكثر لزومًا للحقيقة من الكمال؛ فالحمل عليها أولى، لأنّ ما كان ألزم للشيء كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ؛ وتقديرهم بكامله يوهم أنهم لا يشترطون النية في العبادات كلها، وليس كذلك، فإنهم لا يشترطونها في الوسائل خاصة. وأما المقاصد فلا خلاف في اشتراط النية فيها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها في الوضوء، وخالف الأوْزَاعِيُّ في اشتراطها
في التيمم. نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل، كما هو معروف في كتب الفقه، والظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلًا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضًا أو نفلًا، ظهرًا مثلًا أو عصرًا، مقصورة أوغير مقصورة، وهل يحتاج مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والراجح الاكتفاء بتعين العبادة التي لا تَنْفَكُّ عن العدد المعين، كالمسافر مثلًا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين، لأنّ ذلك هو مقتضى القصر، وقيل: لا حاجة إلى إضمار شيء من الصحة أو الكمال إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي، فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار وإنما احتيج إلى التقدير، لأنّ الجار لا بد له من متعلق محذوف هنا، هو الخبر على الأصح، فينبغي أن يجعل المقدر في ضمن الخبر، فيستغنى عن إضمار شيء في أول الكلام، لئلا يصير في الكلام حذفان، حذف المبتدأ أولًا، وحذف الخبر ثانيًا والتقدير إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن قال البرْماوِيّ: إن هذين الحذفين أولى من الحذف الواحد، لأنّ الحذف الواحد كون خاص، وحذف الكون الخاص غير مَقِيس، بل ممتنع إن لم يدُلَّ عليه دليل، وحذف الكون المطلق مَقيس، وحذف المضاف كثيرٌ، وارتكاب حَذْفَين بكثرة وقياس أولى من حذف واحدٍ بقلةٍ وشذوذ، وما قاله هو الوجه المَرْضي، ويشهد له ما قرروه في حذف خبر المبتدأ بعد لولا من الكون العام دون الخاص.
والباء في "بالنيات" تحتمل المصاحبة والسببية، أي ثابت ثوابها بسبب النيات بمعنى أنها مُقوِّمة للعمل، فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل، فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، ويظهر أثر ذلك في أن النية شرط أو ركن والأشبه عند الغَزاليّ أنها شرط، لأنّ النية في الصلاة مثلًا تتعلق بها، فتكون خارجة عنها، وإلا لكانت متعلقة بنفسها، وافتقرت إلى نية أخرى، والأظهر عند الأكثرين أنها من
الأركان، والسببية صادقة مع الشرطية، وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط، ومع الركنية، لأنّ بترك جزء من الماهية تنتفي الماهيّة، والحق أن إيجادها في أول الفعل ركن، واستصحابها حكمًا بأن تعرى عن المنافي شرط كإسلام الناوي، وتمييزه وعلمه بالمَنْوِيّ، وليس المراد بنفي الأعمال إلا بالنية نفي ذات العمل، لأنه حاصل بدون نية، وإنما المراد نفي صحته، أو كماله، على اختلاف التقديرين كما مر، وإنما عدل في الحديث عن لفظ الأفعال إلى الأعمال، لأنّ الفعل هو الذي يكون زمانه يسيرًا، ولم يتكرر، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] وتبين كيف فعلنا بهم، حيث كان إهلاكهم في زمان يسير، لم يتكرر، بخلاف العمل، فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البروج: 11] طلب منهم العمل الذي يدوم ويستمر ويتجدد كل مرة بعد مرة، لا نفس الفعل، قال الله تعالى:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] ولم يقل: يفعل الفاعلون، فالعمل أخص، فلأجل هذا قال: الأعمال، ولم يقل: الأفعال، لأنّ ما ينذُرُ من الإِنسان، لا يكون بنية؛ وأما الذي يدوم ويتكرر فهو الذي تُعتبر فيه النية.
ولا بد في النية من معرفة خمسة أشياء: حكمها، ومحلها، وفائدتها، ووقتها، وشرطها.
أما حكمها فهو الوجوب.
وأما محلها، فهو القلب. ولا يكفي النطق مع الغفلة، وعند المالكية يكره النطق إلا في حق الموسوس وعند الشافعية يستحب ليساعد اللسان القلب، وفائدتها تمييز العبادة عن العادة، وتمييز رتبتها.
ووقتها أول الفرض، كغسل أول جزء من الوجه في الوضوء، وإنما لم يوجبوا المقارنة في الصوم لعسر مراقبة الفجر.
وشرطها الجزم، فلو توضأ شاكًّا في حدثه، قائلًا في قلبه إن كنت أحدثت فله، وإلا فتجديد، لم يجزِهِ ذلك الوضوء سواء تبين حدثه أو لم يتبين عند المالكية، وعند الشافعية يجزِئُهُ إذا لم يتبين حدثه.
ولا تحتاج إزالة النجاسة إلى نية لأنها من قبيل التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية، نعم تفتقر للنية لحصول الثواب كتارك الزنى، إنما يثاب بقصد تركه امتثالًا للشرع، وكذا الواجب الذي لا يحتاج في فعله إلى نية كالنفقة على الزوجات والأقارب، ورد الغصوب لا ثواب فيه إلا بقصد الامتثال، قال في "مراقي السعود":
وَليْسَ في الوَاجِب مِن نَوَال
…
عِندَ انْتِفاءِ قَصْدِ الامْتِثالِ
فِيْما لَهُ النِّيّةُ لا تُشْتَرَطُ
…
وغَيْرُ ما ذَكَرْتُهُ فَغَلَطُ
ومِثْلهُ التركُ لِمَا يحَرَّمُ
…
مِنْ غَيرِ قَصْدِ ذا نَعَمْ مُسَلَّمُ
وكذلك نحو القراءة والذكر والأذان لا يحتاج إلى فيه لصراحتها، إلا لقصد الإِثابة، وكذا النية لأنها لو توقفت على نية أخرى لحصل التسلسل أو الدَّوْر، وهما محالان، وكذا معرفة الله تعالى لأنها لو توقفت على النية، مع أن النية قصد المَنْوِيّ بالقلب لزم أن يكون عارفا بالله تعالى قبل معرفته، وهو محال، وتعقبه البُلْقِيْني بما حاصله إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأنّ كل ذي عقل يشعر مثلًا بأن له من يُدَبِّرُهُ، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه، لم تكن النية حينئذ محالًا.
وقد نظم سيدي عبد الله العَلَوِيُّ الشَّنقيْطيُّ تفاصيل النية فقال:
وَالنِّيِّةُ القَصْدُ لِأنْ تَمِيلا
…
لِصَوْب حُكْمِهِ عَلا مَفْعُولا
حِكْمَتُهَا التَّمْييزُ والتَّقَرُّبُ
…
فِيما إلى التَّعَبدُّاتِ يُنْسَبُ
وَغَيرهُ التَّمْيِيزُ مِثْل الاشْتَرا
…
لِبَعْض أَيتامٍ عَلَيْهِمْ حَجَرًا
فَمَا نُهي عَنْهُ وَمَا لَا يُطْلَبُ
…
لَا نِيّةٌ فيهِ اتّفاقًا تجبُ
كَمَا تَمَحَّضَ مِنَ الأمْرِ لِمَا
…
لَيْس عِبادَةً كَإِعْطا الغُرَمَا
كقربةٍ تَعَيَّنَتْ للرَّبِّ
…
كَنِيَّةِ ذِكْرٍ وفِعْل القَلْبِ
وَأوْجِبنَّها لغَيْر ما ذُكِرْ
…
إمَّا اتِّفاقًا أو عَلى الّذي شُهرْ
وقوله: "وَإنما لِكُلِّ امرىءٍ ما نَوَى" وكذا لكل امرأة، لأنّ النساء شقائق الرجال، وفي "القاموس": والمرء مثلثه الميم الإِنسان أو الرجل، وعلى الأول يكون متناولًا للنساء، وفيه لغتان، حالة التذكير والتأنيث، بهمز الوصل وحذفها، امرء وامرأة ومرء ومرأة، وفي المذكر الذي فيه همز الوصل غريبة، وهي أن عينه تابع للامه في حركات الإِعراب الثلاث، فهو معرب من مكانين، و"ما" في قوله "ما نوى" يحتمل أن تكون موصولة، و"نوى" صلتها، والعائد محذوف أي الذي نواه، أو مصدرية ولا حذف أي لكل امرئ نيته.
وفي هذه الجملة نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه، لأنّ المقصور عليه في "إنما" دائمًا المؤخر، وتقديم الخبر على المبتدأ، وهو يفيد الحصر، واستشكل الإِتيان بهذه الجملة بعد السابقة، لاتحاد الجملتين، وأجيب بأن الثانية في حصول الثواب، فالأولى: نَبَّهتْ على أن الأعمال لا تفسير معتبرة إلا بالنية، والثانية: على أن العامل يكون له ثواب العمل على مقدار نيته، ولهذا أخرت عن الأولى لترتيبها عليها، وَتُعُقّبَ بأن الأعمال حاصلة بثوابها للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الأولى.
قلت: ويظهر لي مما تقدم من أن الأعمال المشترطة فيها النية يحصُل فيها الثواب، وإن لم يُقْصَدِ الامتثال، والتي لا تشترط فيها النية لا يحصل فيها الثواب إلا بنية الامتثال جواب حسن، فتكون هذه الجملة الثانية مفيدة للعموم، في أن كل عمل لا بد فيه من النية، إما شرطًا في صحته، وإما لتحصيل الثواب فيه، وتكون الأولى خاصة بالأعمال التي لا تَصِحُّ إلا بالنية بدليل تقديرهم صحيحة أو مجزئة، فأفاد الحديث الأمرين السابقين، وهذا عندي أنه أحسن ما يجاب به عن هذا الإشكال، والله تعالى أعلم.
والجواب الثاني: غير ما أبديناه هو أن الثانية تفيد تعيين اشتراط المنوي، فلا يكفي في الصلاة نيتها من غير تعيين، بل لا بد من كونها ظهرًا مثلًا، وقيل: إن الثانية لإِفادة منع الاستنابة في النية، لأنّ الجملة الأولى لا تقتصر منعها بخلاف الثانية، ولا يعترض هذا بنية ولي الصبي عنه في الحج، وحج الإِنسان عن غيره، والتوكيل في تفرقة الزكاة، لأنّ الأصل المطرد لا ينخرِمُ بخروج ما نَدَرَ منه، وذهب القُرْطُبِيُّ إلى أن الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فيكون ذَكَرَ الحكم بالأولى، وأكده بالثانية تنبيهًا على سر الإِخلاص، وتحذيرًا من الرياء المانع من الخلاص، وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضامنها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريّات، وقال ابن دَقيقِ العيدِ: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئًا يحصُل له، يعني إذا عمله بشرائطه، أو حال دون عمله له ما يُعْذَرُ شرعًا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصُل. ومراده بقوله: ما لم ينوه، أي: لا خصوصًا ولا عمومًا، أما إذا لم ينو شيئًا مخصوصًا، لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى، وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر، كمن دخل المسجد فصلى الفرض، أو الرابتة، قبل أن يقعُدَ، فإنه تحصل له تحية المسجد، نواها أو لم ينوها، لأنّ القصد بالتحية شغل البقعة، وقد حَصَلَ، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأنّ غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد، لا إلى محضِ التنظيف، فلا بد فيه من القصد إليه بخلاف تحية المسجد.
قلت: مذهب مالك إذا نوى بالغسل الجنابة والجمعة معًا، أو قصد نيابة الجنابة عن الجمعة حصلا.
وقال: النَّوَوِيُّ: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي، كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط، حتى يعينها ظهرًا مثلا أو عصرًا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تَنْحَصِر الفائتة، وقال ابن السَّمْعاني: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا
نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة، وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى: لبيان ما يُعْتَبَرُ من الأعمال، والثانية: لبيان ما يترتب عليها، وقد مر أن نحو القرآن والذكر لا يحتاج إلى نية لصراحتها إلا لقصد الإِثابة، ومن ثَمَّ قال الغَزَّالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصِّلُ الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقًا، أي: المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام:"في بضْع أحَدِكُمْ صَدَقَةُ" ثم قال في الجواب عن قولهم: "أَيأْتي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ ويُؤْجَرُ؟ ": "أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَها في حَرامٍ؟ " وأورد على إطلاق الغَزّالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح، لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده، وخُصَّ من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما مر، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة، فإن عدتها تنقضي، لأنّ المقصود حصول براءة الرحم، وقد وجدت.
وقوله: "فَمَنْ كانَتْ هِجْرتُهُ إَلى دُنْيا يُصيبُها .. الخ" وقع في جميع نسخ "البخاري" حذف أحد وجهي التقسيم، وهو قوله:"فَمَنْ كانت هِجرته إلى الله ورسولهِ الخ" وقد أخرجه تامًّا في آخر الإِيمان من رواية مالك في باب ما جاء أن الأعمال بالنية، وقد روي عن شيخه الحُمَيْدي تامًّا في "صحيح" أبي عَوانة، "ومستخرج" أبي نُعيم، فلا عذر له في سقوطه، وأجيب عنه بأنه لعله قَصَدَ أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس، من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا، أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانبة للتزكية التي لا يتناسب ذكرها في هذا المقام، وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصّلُ القربة أو لا، فلما كان
المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا، بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فرارًا من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضًا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته، المجازي له بمقتضى نيته.
ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى، والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع، بعبارة هذا الحديث متنًا وإسنادًا.
وقد وقع في رواية حمّاد بن زيد في باب الهجرة تأخر قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" عن قوله: "فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبُها" فيحتمل أن تكون رواية الحُميدي وقعت كذلك عند البُخاري، فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث، وعلى تقدير أن لا تكون كذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه وهذا هو الراجح.
وقال الكِرماني: إن كان الحديث عند البخاري تامًّا، لم خَرَمَهُ في صدر الكتاب؟ مع أن الخَرْمَ مختلف في جوازه، والجواب أنه لا جزم بالخرم، لأنّ المقامات مختلفة، فلعله في مقام بيان أن الإِيمان بالنية، واعتقاد القلب، سمع الحديث تامًّا وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية، سمع ذلك القدر الذي روى، ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه ثَمَّ لأن المقصود يتم بذلك المقدار. فإن قيل كان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله أجيب عنه بما مر قريبًا من أنه ترك ذلك مجانبة للتزكية، وبأنه أيضًا نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس، وذكر ابن العَرَبيّ عن قوم أنه لعله استملاه من حفظ
الحُمِيديّ، فحدثه هكذا، فحدث عنه كما سمع، أو حدث به تامًّا فسقط من حفظ البخاري، قال: وهو مستبعد جدًّا عند من اطلع على أحوال القوم، وقال الكِرماني أيضًا: إن إيراد الحديث تامًّا تارة، وغير تام تارة، إنما هو من اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه، فلا خَرْم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي تناسب كلًّا منها، بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له.
قال في "الفتح": وكأنه لم يطلع على حديث أخرجه البخاري بسند واحد من أوله إلى آخره، فساقه في موضع تامًّا، وفي موضع مقتصرًا على بعضه، وهو كثير جدًّا في "الجامع الصحيح"، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجه واحد، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه، ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني، وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر، تارة بالجزم إن كان صحيحًا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد، يتصرف في متنه بالاقتصارعلى بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندًا ومتنًا في موضعين أو أكثر إلا نادرًا، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك، فحصل منه نحو عشرين موضعًا.
والهجرة بكسر الهاء لغة: الترك والانتقال إلى الشيء عن غيره. وشرعًا مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، وطلب إقامة الدين. وفي الحقيقة هي مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه، وفي الحديث:"المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه"، وقد وقعت في الإِسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتَيْ الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه مَنْ أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة -إذا ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة- شرطًا في صحة الإِسلام، إلى أن فُتِحَت مكة، فانقطع الاختصاص،
وبقي عموم الانتقال من دار الكفر -لمن قدِرَ عليه باقيًا إلى يوم القيامة على جهة الوجوب- ليس شرطًا في الإِسلام.
وقوله: "دنيا" بضم الدال، مقصور غير منون، للتأنيث والعلمية، وقد تنون، وفي القاموس: الدنيا نقيض الآخرة، وجمعها دُنَى، واستدلوا له بقوله:
إنّي مُقِسِّمُ مَا مَلَكْتُ فَجَاعِلٌ
…
جُزءًا لِآخِرَتي ودُنيًا تَنْفَعُ
فإن ابن الأعْرابي أنشده منونا، وليس بضرورة كما لا يخفى، وهي فعلى، من الدنو، تأنيث الأدنى، أي الأقرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل: سميت به لدنوها إلى الزوال. واختلف في حقيقتها، فقيل: ما على الأرض من الهواء والجو مما قبل قيام الساعة، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأول أولى، ويطلق على كل جزء منها مجازًا، وإنما أنثت "دنيا" مع أنها أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا جرد من أل والإِضافة، يجب تذكيره، لأنها لكثرة استعمالها خُلِعتْ عنها الوصفية، واستعملت استعمال الأسماء، فجاز فيها ذلك. ومثلها الجلَّى في قول الشاعر:
وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ
…
يَوْمًا سَرَاةَ كرام النّاسِ فادْعِيْنا
وقوله: "يُصيبُها" الإِصابة: الحصول، والوجدان، والإرادة، وتجيء هذه المعاني كلها ها هنا. والتنصيص على المرأة بعد الدنيا، من عطف الخاص على العام، والأصل في أن يكون بالواو خاصة، وجاء هنا بـ "أو" على خلاف الأصل، وقول من قال إن النكرة لا تَعُمُّ في الإِثبات مردود، لأنها تَعُمُّ إذا كانت في سياق الشرط كما هنا، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأنّ الافتتان بها أشد، لحديث أسامة بن زيد عند الشيخين:"ما تَرَكْتُ بعدي فتنةً أَضرَّ على الرجال من النساء" وما أخرجه أبو نُعيم في "الحلية" عن عبد الرحمن بن عابِس، قال: الشبابُ شعبةٌ من الجنونِ، والنساءُ حِبالةُ الشيطان، مع ما اشتهر من أن سبب هذا الحديث قصة
مُهاجر أم قيس، وحديثها أخرجه الطَّبَراني بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة، يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يُهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر، عن ابن مسعود أيضًا بلفظ:"مَنْ هاجَرَ يبتغي شيئًا، فإنما له ذلك. هاجر رجلٌ ليتزوجَ امرأة يقال لها: أم قيس، فكان يقال له: مهاجر أم قيس". والرجل لم يسم. والمرأة قال ابن دحية: إن اسمها قَيْلة -بقاف مفتوحة، ثم تحتانية ساكنة- وحكى ابن بَطّال، عن ابن السَّرّاج: أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية، ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإِسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها مَنْ كان لا يصل إليها قبل الإِسلام ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى، وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه، بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم، وحلفائهم قبل الإِسلام، وإطلاقه أن الإِسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. واعلم أن الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال: من أطاع أطاع، وإنما يقال: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين.
والجواب عن هذا من وجوه:
الأول: أن التغاير مقدر، أي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا ونية، فهجرته إلى الله ورسوله، حكمًا وشرعًا ونحو هذا في التقدير قوله:"فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها" واعتراض بعضهم على هذا الجواب بأن فيه حذف الحال المبينة، وحذفها بلا دليل ممنوع مردود، بما قاله الدَّمامِيني من أن ظاهر نصوصهم جواز الحذف. قال: ويؤيده أن الحال خبر في المعنى أو صفة، وكلاهما يسوغ حذفه بلا دليل، فلا مانع في الحال أن تكون كذلك.
الثاني: هو أن التغاير يقع تارة باللفظ، وهو أكثر، وتارة بالمعنى، ويفهم ذلك من السياق، كقوله تعالى:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]، أي مرضيًّا عند الله، ماحيًا للعقاب محصلًا للثواب، فهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقوله: أنت أنت أي الصديق الخالص، وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري.
الثالث: أنه قد يقصد بالخبر الفرد، وبالجزاء بيان الشهرة وعدم التغير، فيتحد الخبر بالمبتدأ لفظًا، والجزاء بالشرط كذلك. قال الشاعر:
خَلِيْلِي خَلِيْلِي دُونَ رَيْبٍ وَرُبّما
…
ألانَ امْرُؤٌ قَوْلًا فُظُنَّ خَليلا
وكقولهم في الجزاء: من قَصَدَني، فقد قَصَدَني، أي قصد من عرف بإنجاح قاصده. الرابع: هو أنه إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر، والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم، كقوله:"فَمنْ كانتْ هجرتهُ إلى الله ورسولهِ" وإما في التحقير، كقوله:"فَمنْ كانت هجرتهُ إلى دنيا يُصيبها"
وقال الكِرماني: قوله: "إلى" يتعلق بالهجرة إن كانت، "كان" تامة، وخبر لـ "كان" إن كانت ناقصة، وقال: إن لفظ كان إن كان للأمر الماضي لا يعلم ما الحكم بعد صدور القول في ذلك؟ ثم قال: الظاهر أنه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود المطلق من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء، وإنما أبرز الضمير في الجملة الأولى، وهي المحذوفة، فقال:"فهجرتهُ إلى الله ورسوله" لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله، وعظم شأنهما قال الشاعر:
أعِدْ ذِكْرَ نُعْمانٍ لنا إنَّ ذِكْرَهُ
…
هو المِسْكُ ما كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
بخلاف الدنيا والمرأة، فإن السياق يشعر بالحث على الإِعراض عنهما، فلذلك كُني عنهما إظهارًا لعدم الاحتفال بأمرهما.
وقيل: الخبر في الثاني محذوف، والتقدير فهجرته إلى ما هاجر إليه -من الدنيا والمرأة- قبيحة غير صحيحة أو غير مقبولة، ولا نصيب له في الآخرة. واعترض هذا بأنه يقتضي أن تكون الهجرة مذمومة مطلقًا، وليس كذلك؛ فإن من نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزويج المرأة معًا لا تكون قبيحة، ولا غير صحيحة، بل ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك وهو مباح، والمباح لا مدح فيه ولا ذم، لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، لأنه إنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، ولو طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يُثاب على قصده الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط، لا على صورة الهِجْرة إلى الله تعالى، لأنه من الأمر المباح الذي يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف، ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي، عن أنس، قال: تزوج أبو طَلْحَةَ أم سليم، فكان صَدَاقُ ما بينهما الإِسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة، فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك، فأسلم فتزوجته، وهو محمول على أنه رغب في الإِسلام، ودخله من وجهه، وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح، فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة، وملازمة الغريم، واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة، وخالطها شيء مما يغاير الإخلاص؛ فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطَّبَرِيّ، عن جمهور السلف: أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان في ابتداء خالصًا لله، لم يَضِرَّه ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره، والله تعالى أعلم.
واستدل بهذا الحديث:
على أنه لا يجوز الإِقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأنّ فيه أن
العمل يكون منتفيًا إذا خلا عن النية، ولا تصح نية فعل الشيء إِلا بعد معرفة حكمه.
وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأنّ القصد يستلزم العلم بالمقصود، والغافل غير قاصد.
وعلى أن من صام تطوعًا بنية قبل الزوال -عند من يجيز ذلك- لا يُحسب له إلا من وقت النية، وهو مقتضى الحديث، لكن تَمَسَّكَ مَنْ قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث:"من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها"، أي أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى.
وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة، ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئًا لا تمكن غفلتهم عنه، ولم يذكُرْه غيره إن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافًا لمن أعلَّ بذلك، لأنّ عَلْقَمَةَ ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصحَّ من جهة أحد عنه غير علقمة.
واستدل بمفهومه:
على أن ما ليس بعمل لا تشترط فيه النية، ومن أمثلة ذلك جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا تشترط فيه النية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية، وخالفهم شيخ الإِسلام البُلْقيني، وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة، ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تَبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطًا لأعلمهم به قلت: مذهب مالك أنه ليس بشرط.
واستُدِلَّ به: على أن العمل إذا كان مضافًا إلى سبب، ويجمع متعدده جنس، أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة، ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأنّ معنى الحديث أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة، وهو غير محوج إلى تعيين