الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمَّد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي -بضم الراء- الحَنْبَلي أنها من حائل تَحُول بين الشيئين لأنها حالت بين الإِسنادَيْن، وأنها لا تُقْرأ، واختار ابن الصَّلاح أن المارَّ بها يَنْطِقُ بها كما كُتِبَتْ، واختار بعضُ علماء الغَرْب أنها من الحديث وأن المارَّ بها يقول مكانها الحديث، واختار النوويَ أنها من التحويل من سند إلى آخر، وقال ابن الصَّلاح: إنها مختصرة من صح لأنها كتبت مكانها، فهي رمز، قال: وحسن إثبات صح هنا لئلا يُتَوَهَّمَ أن حديث هذا الإِسناد سَقَطَ، ولئلا يُرَكَّبَ الإِسناد الثاني على الأول فَيُجْعَلا إسنادًا واحدًا، وقيل: لا يُرْمَزُ عند، المرور بها بشيىء، وزَعَمَ بعضهم أنها معجمة أي: إسناد آخر، وإلى هذا أشار العراقي بقوله:
وَكَتَبُوا عِنْدَ انْتِقالٍ من سَنَدْ
…
لِغَيْرِهِ (ح) وانْطِقَنْ بها وَقَدْ
رَأَى الرُّهَاوِيُّ بِأَنْ لَا تُقْرآ
…
وَأَنَّها مِنْ حَائِلٍ وَقَدْ رَأَى
بَعْضُ أُولي الغَرْب بِأَنْ يَقُولا
…
مَكَانَها الحَدِيثَ قطّ وَقِيْلَ
بَلْ حَاءُ تَحْويِلٍ وَقَاَلَ قَدْ كُتِبْ
…
مَكَانَها صَحَّ فَحا مِنْها انْتُخِبْ
الحَديث السابع
6 -
باب * 7 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ:
أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ:
بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلَامَ.
وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ- سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَاّ الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوا أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ. وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا
حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ.
[الحديث 7 - أطرافه في: 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541]
هِرَقْل هو بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وحُكِيَ فيه هِرْقِل بكسر الهاء والقاف وسكون الراء كخِنْدِف، قال دِعْبِل الخُزَاعي:
أَوْلى الأُمور بَضَيْعَةٍ وَهَوَانِ
…
أَمْرٌ يُدَبِّرُهُ أبو عَبّادِ
وَكَأنَّهُ مِنْ دير هِرْقِلَ مُفْلتٌ
…
حَرِدٌ يَجُرُّ سَلاسِلَ الأَقْيادِ
وقيل: إنه ضرورة، وأبو عبّاد وزير المأمون، ولقبه قَيْصَر، كما يلقب ملك الفرس كسرى، مَلَكَ الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أول من ضَرَبَ الدنانير، وأحدث البيعة، ومعنى قيصر: التَّبْقيْر، والقاف على لغتهم غير صافية، وذلك أن أمه لما أتاها الطَّلْقُ به ماتت فَبُقِر بطنها عنه، فخرج حيًّا، وكان يَفْتَخِرُ بذلك لأنه لم يخرج من فَرْج، واسم قيصر في لغتهم مشتق من القطع، لأن أحشاء أمه قطعت حتى أُخْرِج منها حيًّا، وكان شجاعًا جَبّارًا مِقْدامًا في الحروب، وكل من ملك التُّرْكَ يقال له: خَاقَان، والحبشة: النَّجاشي، والقِبْط: فرعون، ومصر: العزيز، وحِمْيَر: تُبَّع، والهند: بهمن، والصين: فنفور، والزَّنْج: غانة، واليونان: بَطْليموس، واليَهود: قيطون أو ماتح، والبَرْبر: جَالُوت، والصَّابئَة: نمرود، واليمن: تبع، وفرغانة: إخشيد، والعرب من قبل العجم: النُّعمان، وإفريقيَّة: جرجير، وخُلاط: شَهْرمان، والسِّنْد: فور، والخزر: تبيل، والنّوبة: كابل، والصَّقالبة: ماجدًا، والأَرْمَن: تقفور، والاجات: خدواندكار، واشروشنة: افشين، وخوارزم: خوارزم شاه، وجرجان: صول، وأذربيجان: اصبهبند،
وطبرستان: سالار، ونيابة ملك الروم: مشتق، وإسكندرية: ملك مقوقس.
فإن قلت: ما معنى الحديث: "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده"؟ قلت: معناه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق، قاله الشافعي في المختصر، وسبب الحديث أن قريشًا كانت تأتي الشام والعراق كثيرًا للتجارة في الجاهلية، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإِسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: لا قيصر ولا كسرى أي بعدهما في هذين الإِقليمين، ولا ضرر عليكم، فلم يكن قيصر بعده بالشام، ولا كسرى بعده بالعراق، ولا يكون.
وقوله: "أرسل إليه" أي: إلى أبي سُفيان في ركب من قُرَيْش، أي حال كونه في ركب، وإنما خصه بالذكر لأنه كان رئيسهم، والرَّكْبُ جمع راكب كصَحْب وصاحب، وهم أولو الإِبل العشرة فما فوقها، "ومن قريش" صفة لركب، وحرف الجر لبيان الجنس أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلالين رجلًا، كما عند الحاكم في "الإِكليل" وعن ابن السَّكَنْ: نحو من عشرين، وعند ابن أبي شَيْبَة بإسناد صحيح إلى سعيد بن المُسَيِّب أن المغيرة بن شُعبة منهم، واعترضه البَلْقِيني بسبق إسلام المغيرة، فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضرًا ويسكت مع كونه مسلمًا.
قلت: لا بعد في هذا فإن الحديث لم يقع فيه ما يحتاج إلى الكلام، مع أن هِرَقْل لم يأذن بالكلام إلا لمن سأله، ووجه السؤال إلى أبي سفيان خاصَّة، وقد مر في أنساب الحديث الأول الكلام على قريش مستوفىً.
وقوله: "كانوا تُجّارًا بالشام" جملة حالية، وتُجارًا بضم التاء وتشديد الجيم، وبكسر التاء وتخفيف الجيم وزن كلاب، جمع تاجر، والشام بالهمز وتركها، وهو متعلق بتجارًا أو بكانوا، قيل: سمي بذلك لشامات هناك حمر وسود، وقيل: سمي بذلك لكثرة قراه وتداني بعضها ببعض
فشبهت بالشامات، وقيل: مأخوذ من الشُّؤمَى وهي اليُسرى، لأنه عبارة عن يسار الكعبة، وحَدُّه طولًا من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالِس، وحدُّه عرضًا فمن جبل طَيِّىءْ من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما يسامت ذلك من البلاد.
وقوله: "في المدة التي كانَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيانَ وكفار قريش" مادَّ بتشديد الدال، أصله، مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، وهي مدة صُلح الحِّدَيْبِية سنة ست، وكفار بالنصب مفعول معه، أو عطف على المفعول به وهو: أبا سفيان، ومدة الهُدنة عشر سنين كما عند أبي داود من حديث ابن عمر، وقيل: أربع سنين كما عند أبي نُعَيْم، والحاكم في "المستدرك".
وقوله: "فأتوه" الفاء فصيحة، تقدير المحذوف: أرسل إليهم في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول يطلب إتيانهم، فأتوه، كقوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي: فضرب، فانفجرت، وفي "الدلَائل" لأبي نُعَيْم تعيين الموضع، وهو غَزَّة، وكانت وجه متجرهم.
وقوله: "وهم بإيْلِيَاءَ" يعني: هِرَقْل وجماعته، وفي رواية:"وهو بإيْلِيَاء" الباء بمعنى في، وإيْلياء -بكسر الهمزة، وياء ساكنة، ثم لام مكسورة، وياء مفتوحة ممدودة- بوزن كِبْرياء، وهو بيت المقدس، وإيْلِيَا بالقصر، وإلْيَاء بحذف الياء الأولى وسكون اللام بوزن إعطاء، وإيْلاء مثله لكن بتقديم الياء على اللام، وإيْلِيّا بتشديد الياء الثانية والقصر، والإِيْلِياء، وقيل: في معناه: بيت الله، وسبب كونه بإيلياء هو ما رواه الطَّبري، وابن عبد الحَكَمْ أن كسرى أَغْزى جيشَه بلاد هرقل، فخربوا كثيرًا من بلاده، ثم استبطأ كِسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلَعَ أميره على ذلك، فباطن هِرَقْل، واصطلح معه على كسرى، وانهزم عنه بجنود فارس، فمشى هِرَقْل إلى بيت المقدس شكرًا لله على ذلك، وكانت تُبْسَطُ له البُسْطُ، وتوضع عليها الرَّياحين، فيمشي عليها.
وقوله: "فَدَعاهُم في مجلسه" أي: في حال كونه في مجلسه، وللمؤلف في الجهاد: "فَدَخَلْنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه، وعليه التَّاج.
وقوله: "وحوله" بالنصب ظرف مكان، وحول الشيء: المحيط به من جوانبه، وفيه أربع لغات: حول كما هنا، وحَوَالي كحديث "اللهم حوالينا" وأحْوال كقوله:
وأَنْتَ تَرَى السُّمَّار أَحْوالي.
وحَوالَ كقوله:
أَهَدَموا بَيْتَكَ لا أبَا لَكَا
…
وأَنا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا
وقوله: "عظماء الروم" جمع عظيم، وفي رواية وعنده بطارِقَتهُ، والقِسِّيسون والرُّهْبان، والروم من ولد عِيْص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، ودخل فيهم قبائل من العرب من تَنوخ وبهراء وشليخ وغيرهم من غَسَّان، كانوا سُكّانًا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم.
وقوله: "ثم دعاهم" عطف على قوله: "فدعاهم" وليس بتكرار، فالمعنى: إن أمر بإحضارهم، فلما أُحْضروا وقعت مهلة، ثم اسْتَدناهم كما أشعر بذلك الأداة الدالة عليه.
وقوله: "ودعا تَرْجُمانه" بالنصب على المفعولية، وفي رواية:"بِتَرْجُمانه"، وفي رواية:"بالتَّرْجُمان" وفيه لغات بضم التاء والجيم، وبفتحهما، وبفتح التاء وضم الجيم، وبالعكس، وهو المفسر لغة بلغة، يعني: أرسل إليه رسولًا أحضره بصحبته، أو كان حاضرًا واقفًا في المجلس كما جرت به عادة ملوك الأعاجم، ثم أمره بالجلوس إلى جَنْبِ أبي سفيان ليعبر عنه بما أراد، ولم يسم هذا الترجمان.
وقوله: "فقال: أَيُّكُم أَقْرَبُ نَسَبًا بهذا الرجل" قال: أي الترجمان على
لسان هِرَقْل، زاد ابن السَّكَن:"الذي خرج في أرض العرب يَزْعُم أنه نبي"، وعَدَّى أقرب بالباء لأنه ضمنه معنى أقعد، وفي رواية للمؤلف في آل عمران، ومسلم:"مِنْ هذا الرَّجُل" على الأصل، وفي رواية للمؤلف في الجهاد:"إلى هذا الرجل" فإن أقرب تتعدى بإلى كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} والمفضل عليه محذوف، أي: من غيره.
وقوله: "الذي يَزْعُمُ" عند ابن إسحاق: "الذي يَدَّعي" والزعم بمعنى القول كما قال الجَوْهَريُّ.
وقوله: "فقال أبو سُفْيان: قلت: أنا أقربُهم نَسَبًا" وفي رواية: "أنا أقربُهم به نسبًا" وأقربية أبي سفيان لكونه من بني عبد مَناف، وهو الأبُ الرابع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأبي سفيان، وخَصَّ هِرَقْلُ الأقرب، لكونه أحْرى بالاطِّلاع على ظاهره وباطنه، أكثر من غيره، ولأن الأِبعد لا يُؤمَنُ أن يقْدَحَ في نسبه بخلاف القريب، وما يُقال من أنَّ القريب مُتَّهمٌ في الإِخبار عن نسب قريبه بما يَقْتضي شرفًا وفخرًا ولو كان عدوًّا لدخوله في شرف النسب الجامع لهما غير وارد، لأن عداوة الكفر تمنع ذلك، ولحضور جماعته معه.
وقوله: "فقال: أدْنُوهُ منّي" قال، أي هِرَقْل، وأدنوه بهمزة قطع، وإنما أمر بإدناء أبي سفيان لِيُمْعِنَ في السؤال، ويَشْفِيَ غليله.
وقوله: "وقَرِّبُوا أصحابه واجعلوهُمْ من وراء ظهره" أي: لئلا يَسْتَحْيُوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، كما في رواية الواقِدِيِّ تصريحًا.
وقوله: "ثم قالَ التَرْجُمان: قُل لهم إني سائلٌ هذا" يعني أبا سفيان "عن هذا الرَّجل " يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشار إليه إشارة القرب لقرب العهد بذكره، أو لأنه معهودٌ في أذهانهم.
وقوله: "فإن كَذَبَنِي" بتخفيف الذال أي: نقل إلى الكذب.
وقوله: "فكذَّبوه" بتشديد الذال، وكذب بالتخفيف يتعدى إلى
مفعولين كصدق، ويقال: كذبته الحديث، وصدقته الحديث، وبالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهما من الغرائب، لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة، والأمر هنا بالعكس.
وقوله: "قال: فواللهِ لولا الحياءُ من أن يَأْثُروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه" قال، أي: أبو سفيان، والحياء لغة تغير وانكسار يَعْتَري الإِنسان من خوف ما يُعاب به ويُذَمّ، ويَأْثُروا بضم المثلثة وكسرها أي يَنْقُلوا أو يرووا، وعلي بمعنى عني، والكذب هو عدم موافقة الخبر للواقع، أي: الخارج، هو ما في نفس الأمر، والصدق هو موافقة الخبر للواقع هذا هو الصحيح في تعريفهما.
وقوله: "لكَذَبْت عنه"، أي أخبرت عن حاله بكذب لبُغْضي إياه، وفي رواية:"لكذبت عليه" وإنما قال: أن يَأْثُروا، دون أن يقول: يكذبوني لأنه كان واثقًا بأنهم لا يكذبونه لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياء وأنَفَةً من أن يَتَحَدَّثوا بذلك بعد أن يَرْجِعوا فيصير عند سامعي ذلك كِذّابًا، وفي "ابن إسحاق" التصريح لذلك، قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قَطُّ كان أدهى من ذلك الأقلف، أي هِرقْلَ.
وقوله: "ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيفَ نسبُهُ فيكم؟ " أول بالنصب خبر كان، واسمها ضمير الشأن، "وأن قال" بدل من قوله: "ما سألني ويجوز أن يكون أن قال اسم كان، وخبرها أول ما سألني، والتقدير ثم كان قوله كيف نسبه فيكم أول ما سألني عنه؟ ويجوز رفعه اسمًا لكان، وذكر العَيْني وروده رواية، وقال في الفتح: جاءت الرواية بالنصب، ويجوز رفعه على الاسمية، لكن قال الدّمامِيْني: إن جواز النصب والرفع لا يَصِحُّ على إطلاقه، والصواب التفصيل، فإن جعلنا ما نكرة بمعنى شيء تعين نصبه على الخبرية، وذلك لأن أن قال مؤول بمصدر معرفة، بل قال ابن هشام: إنهم حكموا له بحكم الضمير، فتعين إذًا أن يكون هو اسم كان، وأول ما سألني هو الخبر ضرورة لأنه متى اختلف الاسمان
تعريفًا وتنكيرًا فالمعرف الاسم، والمنكر الخبر، ولا يعكس إلا في الضرورة، وإن جعلناها موصولة جاز الأمران لكن المختار جعل "أن قال" هو الاسم لكونه أعرف، وقوله:"كيف نسبه فيكم" أي: ما حال نسبه فيكم، أهو من أشرافكم أم لا؟.
وقوله: "قلت: هُو فينا ذُو نسب" أي صاحب نسب عظيم، فالتنوين للتعظيم على حد قوله تعالى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
وقوله: "قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطُّ؟ " قال، أي: هِرَقْل، وقَطُّ: ظرف مستغرق لماضي الزمان، وقد مر ما فيه من اللغات في الحديث الثالث، ومر هناك أنها لا تستعمل غالبًا إلا بعد النفي، وهنا جاءت بعد الاستفهام، وله حكم النفي، فكأنه قال: هل قال هذا القول أحد منكم أم لم يقله أحد قط؟ وقوله: "منكم" أي من قومه، يعني: قُرَيْشًا أو العرب، ويستفاد منه أن الشفاهي يعم لأنه لم يرد المخاطبين فقط، وكذا قوله: فهل قاتلتموه؟ وقوله: بماذا يأمركم؟.
وقوله: "قبلة" بالنصب على الظرفية، وفي رواية:"مثله" بدل قوله: قبله، وحينئذ يكون بدلًا من قوله:"هذا القول".
وقوله: "فهل كان من آبائه من ملك؟ " بزيادة من الجارة، وفي رواية:"ملك" بحذفها، وفي رواية:"مَنْ مَلَكَ" بفتح ميم من موصولة، وملك فعل ماض، والمعنى في الثلاثة واحد.
وقوله: "قال: فأشراف الناس اتَّبَعوهُ أم ضعفاؤهم؟. قلت: بل ضعفاؤهم" فيه إسقاط همزة الاستفهام من قوله: "فأشراف الناس" وهو قليل، وقد ثبتت للمصنف في التفسير، ولفظه "أيَتَّبِعُه أشراف الناس" والشرف علو الحَسَبِ، والمجد، والمكان العالي، وقد شَرُف بالضم فهو شريف، وقومٌ شرفاءُ وأشراف.
قلت: أجاب أبو سفيان هنا بأن الذين اتّبعوا النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم ضعفاء قريش، وما أجاب به خلاف الواقع، لأن أول من تَبِعَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قريش العشرة المبشرون بالجنة، وخديجة بنت خُوَيْلد، والجميع أشراف، لأن الشرف إما بالنسب والحسب، أو بالمال، وكلهم ذو نسب وحسب، ومنهم من هو من أهل المال، كخديجة وأبي بكر، وعثمان، ولكن الله تعالى أنطق أبا سفيان بخلاف الواقع لنبينا عليه الصلاة والسلام دَسِيسَةً منه كالآتية، أو من غير قصد ليوافق ما هو العادة الجارية في بني إسرائيل المقررة عند هِرَقْل، فيستدل بذلك على نبوته لموافقته لما هو الواقع لأنبيائه، فلا يُنْكِرُ نبوته، ونبينا عليه الصلاة والسلام أعطاه الله خلاف ما أعطى لأنبياء بني إسرائيل من اتِّباع الأشراف له، ولما رأى ابن حَجَر هذا الإِيراد الواقع على أبي سفيان، قال: المراد بالأشراف هنا أهل النَّخْوة والتَّكَبُّر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل ذلك، وما قاله مُعْتَرَض من وجهين: أحدهما رواية ابن اسحاق عن أبي سفيان: "تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد" فإنه صرح في هذه الرواية بالمراد عنده بالضعفاء والأشراف، وهو خلاف الواقع. والثاني هو أن من أسلموا فيهم أهل النخوة والتكبر كالعمرين، وحمزة، وعثمان، وأبو سفيان في رواية ابن إسحاق نفى أن يكون أحد من الأشراف تبعه عليه الصلاة والسلام، وقول صاحب "الفتح" إن ذلك محمول على الغالب غير مستقيم، لأن الغالب في الذين أسلموا الأشراف أهل النسب والنخوة، فلا يصح في الجواب إلا ما ذكرته، ولعلك لا تجده في غير هذا المحل.
وقوله: "قالَ: أيزيدون أم يَنْقُصُونَ" بثبوت همزة الاستفهام، وروى بإسقاطها في آل عمران، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقًا، وخصه بعض بالشعر.
وقوله: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدٌ منهم سَخْطةً لدينه" سخطة بفتح السين وضمها مفعول لأجله أو حال، أي ساخطًا أي كراهة له وعدم الرضا، والسّخط
بلا تاء يجوز فيه الضم مع ضم الخاء وسكونه، والفتح مع تحريك الخاء، وهو أحد الأسماء العشرة التي يجوز فيها الفعل بضم الفاء وسكون العين، وبالتحريك، ونظمها بعض أصدقائنا، فقال:
عشرَةُ أسما عَن الإِعراب جيءَ على
…
وزنَينِ في ضَبطِهنَّ الفُعل والفَعلِ
العُربُ والعُجمُ مع سُخطٍ ومعْ حَزَن
…
رُشدٌ فَلَا تك عَن ذا الضَّبط في شُغُلِ
بالوُلد مع سقمٍ فربَّما شَغلا
…
واشدُد عليه يَدي ذي العُدمِ والبخلِ
وقوله: "بعد أن يَدْخُلَ فيه" أخرج بهذا من ارتد مكرهًا، أو ارتد لا سَخَطًا لدين الإِسلام، بل لرغبة في غيره لحظٍّ نفساني، كما وقع لعبيد الله ابن جحش، فإن قيل: لِمَ لَمْ يكتف هِرَقْل بقوله: هل يزيدون؟ عن قوله: هل يرتد أحد منهم إلخ؟ أجيب بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص، فقد يرتد بعضهم، ولا يظهر فيهم النقص لكثرة من يدخل، وقلة من يرتد، وإنما سأله عن الارتداد لأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف من دخل في أباطيل.
وقوله: "فهل كنتم تَتَهِّمونه بالكذب؟ " إلخ إنما عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التُّهمة تقريرًا لهم على صدقه، لأن التُّهمة إذا انتفت انتفى الكذب بالأوْلى، ولذا عَقَّبَهُ بالسؤال عن الغدر وهو نقض العهد.
وقوله: "ونحن منه في مدة" أي: مدة صلح الحديبية، أو غيبة، أو انقطاع أخباره عنا.
وقوله: "لا ندري ما هو فاعلٌ فيها" فيه إشارةٌ إلى عدم الجزم بغدره.
وقوله: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة" قال في "الفتح": التنقيص هنا أمر نسبي، لأن من يُقْطَع بعدم عذره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان عليه الصلاة والسلام معروفًا
بالاستقراء، من عادته أنه لا يَغْدِر، ولكن لما كان الأمر مغيَّبًا لأنه مستقبل، أمن أبو سفيان من أن يُنْسَبَ في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده على التردد، ومن ثمَّ لم يُعَرِّجْ هِرَقْل على هذا القدر منه، وقد صرح بذلك في رواية ابن إسحاق عنه، فقال:"والله ما التَفَتَ إليها مني" و"غير" يحتمل فيها الرفع نعتًا لكلمة، والنصب نعتًا لشيء، وإنما ساغ نعتها للنكرة مع أنها مضافة إلى المعرفة، لأنها لا تتعرف بالإضافة، لتوغلها في الإِبهام، إلَّا إذا كانت بين متغايرين بالتضاد، ونحوه، كقوله:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وليس "غير" هنا كذلك.
وقوله: "فَهَلْ قاتَلْتُموه؟ " نَسَبَ ابتداء القتال إليهم، ولم ينسِبهُ إليه عليه الصلاة والسلام، لما اطلع عليه من أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يبدأ قومه بالقتال.
وقوله: "فكيفَ كان قِتَالُكُم إياه" فيه فصل ثاني الضميرين، وهو جائز الفصل والوصل كما قال ابن مالك:
وَصِلْ أو افْصِل هاء سَلنيهِ وما
…
أشبهه ............ إلخ
وقوله: "الحرب بيننا وبينه سِجال" بكسر السين، أي نُوَبٌ. أي: نوبة لنا، ونوبة له، والسَّجْلُ: الدلو، شبه المحاربَين بالمستَقِيَيْن إذا كان بينهما دلو يستقي أحدهما دلوًا والآخر دلوًا، والحرب اسم جنس مبتدأ، خبره سِجال، وهو اسم جمع أو جمع، ويجوز أن يكون مصدرًا بمعنى مُسَاجَلَة، وفي هذا القول تشبيه بليغٌ، شبه الحرب بالسجال، مع حذف أداة التشبيه، لقصد المبالغة، كقولك: زيد أسد إذا أردت المبالغة في شجاعته، فكأنه صار عين الأسد.
وقوله: "يَنَالُ منا، وننال منه" جملة مفسرة لقوله: "سِجال"، والمفسرة لا محل لها من الإِعراب، وقيل محلها محل المفسر، وهو هنا الخبر، فيقدر لها حينئذ رابط يربطها بالمبتدأ، أي: ينال منا فيها، وننال منه فيها.
وقوله: "قال: ماذا يأمُرُكُم"؟ فيه حذف العائد، وفي بعض النسخ:"بما" وفي بعضها "فما" وفي اللفظ دلالة على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه.
وقوله: "يقول: اعبدُوا اللهَ وَحْدَهُ ولا تُشْرِكوا به شيئًا" الجملة الأخيرة عطف على اعبدوا الله، وهو من عطف المنفي على المثبت، وعطف العام على الخاص، على حد:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] فإن عبادته تعالى أعم من عدم الإِشراك به، وفي رواية إسقاط الواو من "ولا تشركوا" وعليه يكون تأكيدًا لقوله:"وحده"، وفي الحديث دلالة على أن للأمر صيغة معروفة، لأنه أتى بقوله: اعبدوا الله في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عن ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقرًّا له.
وقوله: "واتْرُكوا ما يَقُول آباؤُكم" يعني من عبادة الأوثان، وغيرها مما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيهًا على عُذْرهم في مخالفتهم له، لأن الآباء قدوة عند الفريقين، عبدة الأوثان، والنصارى.
وقوله: "ويأمُرُنا بالصَّلاة" يعني: المعهودة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وفي رواية بزيادة:"والزكاة".
وقوله: "والصدق" قد مر أنه مطابقة للخبر الواقع، وفي رواية:"والصدقة" بدل الصدق، ورجحها البلقيني، ويقويها رواية المؤلف في التفسير والزكاة، واعتياد اقتران الزكاة بالصلاة في الشرع، وما مر من كونهم كانوا يستقبحون الكذب، فَذِكْرُ ما لم يألفوه أولى، ولكن لا يَبْعُد أمره لهم بما هو من مألوفات كما في أمره لهم بوفاء العهد والأمانة، وقد كان من مألوفات عقلائهم، وقد ثبت في رواية اللفظان: الصدق والصدقة، وفي قوله: يأمرنا، بعد قوله: يقول: اعبدوا الله، إشارة إلى المغايرة بين الأمرين، لما يترتب على مخالفهما، إذ مخالف الأول كافر،
ومخالف الثاني ممن قبل الأول عاص.
وقوله: "والعَفَاف" هو بفتح العين، ومعناه الكف عن المحارم وخَوَارم المروءة.
وقوله: "والصلة" يعني للأرحام، وهي كل ذي رحم لا تَحِلُّ مناكَحَتُهُ، لو فرضت الأنوثة مع الذكورة، أو كل ذي قرابة، والصحيح عمومُهُ في كل ما أمر الله أن يوصل، كالصَدقة، والبر، والإِنعام.
قال في "التوضيح" من تأمل ما استقرأه هِرَقْل من هذه الأوصاف، تبين له حسن ما استوصف من أمره، واستبرأ من حاله، ولله دره من رجل ما كان أعقله من رجل لو ساعدته المقادير بالاتِّباع وتخليد ملكه.
وقوله: "وكذلك الرسل تُبْعث في نسب قومها" رُوي بالواو في "وكذلك" والفاء، وإنما جزم هِرَقْل بذلك لتقرره عنده من الكتب السالفة.
وقوله: "لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأَتسي بقَوْلٍ قيلَ قَبْلَهُ" ويَأْتَسي: أي يقتدي، ويَتَّبِع، وفيه روايتان بالياء المثناة من تحت ثم مثناة فوقية ثم همزة مفتوحة وسين مهملة، وبالياء المثناة من تحت وهمزة ساكنة، وإنما قال في هذه والتي بعدها:"فقلت" لأن هذين المُقَامَيْن مُقَامَا فكرٍ ونظرٍ، بخلاف غيرهما من الأسئلة، فإنها مقام نقل.
وقوله: "رجلٌ يطلُبُ مُلْكَ أبيه" أفرد الأب في هذه الرواية ليكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال:"آبائه" أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه، ويدل على هذا روايته في آل عمران:"آبائه" بالجمع.
وقوله: "إنَّه لَمْ يَكُن لِيَذَرَ الكذب على الناس إلخ": اللام فيه لام الجحود لملازمتها النفي، وفائدتها تأكيد النفي، نحو {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] أي: لم يكن ليدع.
وقوله: "وهُم أتباعُ الرُّسُلِ" يعني غالبًا، لأنهم أهل الاستكانة،
بخلاف أهل الاستكبار المُصِرِّين على الشِّقاق بَغْيًا وحسدًا، كأبي جَهْل وأشباهه، إلى أن أهْلَكَهم الله تعالى، وأَنْقَذَ بعد حين من أراد سعادته منهم، ويُسْتَشْهَدُ لما قاله بقوله تعالى:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح.
وقوله: "وكذلك الإِيمان حتى يَتِمَّ" أي: أمر الإِيمان، لأنه يظهر نورًا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه، من صلاة وزكاة وصوم، ولهذا نزلت في آخر سِنيّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ومنه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} التوبة: 32] وكذلك جرى لأتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يزالوا في زيادة حتى كَمَل بهم ما أراد الله من إظهار دينه، وتمام نعمته.
وقوله: "يُخَالِطُ بشاشَة القلوبَ" بإضافة بشاشة للقلوب منصوب على المفعولية، وفي رواية بشاشته بالرفع على الفاعلية، والقلوب منصوب على المفعولية، وتخالط بالتاء الفوقية، وبشاشَةُ القلوب هي انْشِراح الصدور، والفرح، والسرور بالإِيمان.
وقوله: "وكذلك الرُّسُل لا تَعْذِر" أي: لأنها لا تَطْلُبُ حَظَّ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة، ولم يُعَرِّجْ هِرَقْل على الدَّسِيسة التي دسها أبو سفيان، وسقط من هذه الرواية إيراد تقرير السؤال العاشر، والذي بعده، وجوابه، وقد ثَبَتَ الجميعُ في رواية المؤلف التي في الجهاد، ويأتي الكلام عليه ثَمَّ إنْ شاء الله تعالى قاله في "الفتح".
قلت: لم أَرَ في الرواية الآتية زيادة تقرير إلا في كيفية القتال، فإنه قال هناك: وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دُوَلًا يُدال عليكم المرة وتُدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تُبْتَلى وتَكُون لهم العاقبة.
وقوله: "وَسَأَلْتُكَ بما يأمُركُم" فيه إثبات الألف بعد ما الاستفهامية،
وهو قليل، وأجيب عنه بأن ما موصولة، والباء بمعنى عن متعلق بسألت، نحو:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] والعائد محذوف، ويقدر حينئذ منصوبًا لا مجرورًا، لئلا يلزم على ذلك حذف العائد المجرور بغير ما جر به الموصول، أي: معنى، لأن الباء الأولى معناها عن، وذلك ممنوع فيقدر يأمركم إياه أو يأمركموه، وحذف حرف الجر من مفعول أمر الثاني، نحو: أمرتك الخير، جائز.
وقوله: "فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تُشرْكوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان" جمع وثن وهو الصنم.
وقوله: "ذَكَرْتَ أنه يأمركم" قاله هِرَقْل بالاقتضاء، لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر، بل صيغة، وذكره النهي عن عبادة الأوثان مستفاد من قوله:"اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا واترُكوا ما يقولُ آباؤكم" لأنه مقولهم الأمر بعبادة الأوثان، وقد قال ابن بَطّالٍ: إن هذه الأشياء التي سأل عنها هِرَقْل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يُحْتَمل أنه كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه، لأنه قال بعدَ ذلك:"قَدْ كُنْت أعلم أنه خارجٌ وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أنه منكم".
وقوله: "فإن كان ما تقول حقًّا" أي: صدقًا، لأنه خبر، وهو يحتمل الصدق والكذب.
وقوله: "مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هاتين" يريد به أرض بيت المَقْدس، أو أرض ملكه جميعًا.
وقوله: "كُنْتُ أعلم أنه خارجٌ" وفي رواية: "فإنه نبي" وفي رواية: "وهذه صفةُ نبي" وإنما قال ما قال لما عنده من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام، الثابتة في الكتب القديمة.
وفي "أمالي" المَحَامِليّ عن أبي سفيان أن صاحب بُصْرى أخذه هو وناسًا معه في تجارة، فقال له: أخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها، قلت: نعم،
قال: فَأُدْخِلْتُ كنيسةً لهم فيها الصور، فلم أره، ثم أُدْخلت أخرى، فإذا أنا بصورة محمَّد وأبي بكر.
وقوله: "فَلَوْ أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه" في رواية إسقاط "أني" الأولى، وأَخْلُصُ بضم اللام، أي: أصل إليه.
وقوله: "لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ" بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفته على ما فيه من المشقة، قال ابن بَطّال: وهذا التَّجَشُّمُ هو الهجرة، لأنها كانت فرضًا على كل مسلم قبل الفتح.
وفي مُرْسَل ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم أن هِرَقْل قال: ويْحكَ، واللهِ إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، ونحوه عند الطبراني بسند ضعيف فقد خاف على نفسه، ولو تَفَطَّن لقوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذي أرسله إليه:"أَسْلِمْ تَسْلَم" وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسلم لو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى.
وقوله: "لَغَسَلْتُ عن قدميه" وفي رواية قدمه بالإِفراد، ضَمَّن غسل معنى زال، أي لأَزَلْت عن قدميه ما لعله يكون عليهما، مبالغةً في خدمته، وهذا كقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ضَمَّنَ يخالفون معنى يصدون، وفي رواية عن عبد الله بن شَدّاد:"لو عَلِمْتُ أنه هو لمَشَيْتُ إليه حتى أقبل رأسه وأغْسِل قدميه" وفي آخرها: "ولَقَدْ رأيت جبهته تَتَحادَرُ عَرَقًا من كَرْبِ الصَّحيفة لما قرىء عليه كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة إلى أنه إذا وصل إليه سالمًا لا يطلب منه ولاية ولا منصبًا، وإنما يطلب منه ما يحصل له من بركته.
وقوله: "ثُمَّ دعا بكتابِ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" أي: دعا مَنْ وكله بالكتاب، فمفعول دعا محذوف، ولهذا عُدِّيَ إلى الكتاب بالباء.
وقوله: "بَعَثَ به دِحْية" بالرفع على الفاعلية، وهو بفتح الدال وكسرها، ويأتي تعريفه في تعريف رجال الحديث، وفي رواية:"بعث به مع دِحْية" أي: بعثه عليه الصلاة والسلام مع دِحْية، وكان ذلك سنة ست بعد رجوعه من الحديبية.
وقوله: "إلى عظيم بُصرى" بضم الباء مقصور، مدينة حَوْرَان، أي: أميرها، وهُو الحارِثُ بنُ أبي شَمّر الغَسّاني.
وقوله: "فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْل" فيه مجاز، لأنه أرسل به إليه صحبة عَدِيّ بن حاتِم، وكان إذ ذاك نصرانيًا، فوصل به هو ودِحْية معًا إلى هِرَقْل، كما في رواية ابن السَّكَن في الصحابة، وكان وصوله إليه سنة سبع على الصحيح.
وقوله: "فَقَرَأَهُ" يحتمل أنه قرأه بنفسه، ويحتمل أن الترجمان قرأه بأمره، وهذا الأخير هو الذي في رواية الواقِديّ، فإنه قال: دعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه.
وقوله: "فإذا فيه بِسمِ اللهِ الرّحْمن الرحيم" فيه استحباب تصدير الكتاب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرًا، ولا يرد على هذا قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فإن المبتدأ به البسملة، ومن سليمان عنوان الكتاب، فعرفت بِلْقِيس كونه من سليمان بقراءة عنوانه، فلذلك قالت: إنه من سليمان فالتقديم واقعٌ في حكايته الحال.
وقوله: "من محمَّد عبد الله ورسوله" وصف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضًا ببطلان قول النصارى في المسيح: إنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله، وفي رواية:"محمَّد بن عبد الله ورسول الله" وفي الحديث أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور.
وقوله: "إلى هِرَقْل عظيم الروم"، بجر عظيم بدل من سابقه، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، أي: المعظم عندهم،
فعدل عن ذكره بالملك أو الإِمرة لأنه معزولٌ بحكم الإِسلام، لكنه لم يخلِهِ من إكرام لمصلحة التألف، وذكر المَدَائِنيُّ أن القارىء لما قرأ من محمد رسول الله غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هِرَقْل: مالك؟ فقال: لأنه بَدَأ بنفسه، وسمّاك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرّأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله إنَّه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقًد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه.
وقوله: "سلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى" سلامٌ بالتنكير، وعند المؤلف في الاستئذان بالتعريف، والهدى: الرشاد، وهذا كقول موسى وهارون لفرعون {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] والظاهر أنه من جملة ما أُمر به، أي: يقولاه، وليس فيه ابتداء الكافر بالسلام، لأن معناه سلم من عذاب الله من أسلم، وهو لم يسلم، فليس ممن اتَّبع الهُدى، فاللفظ ليس مرادًا به التحية إلَّا على من اتَّبع الهُدى، فهو خارج منه.
وقوله: "أما بَعْدُ" مبني على الضم لقطعه عن الإِضافة المنوية، وأما فيها معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبًا، وتأتي مستأنفة لا لتفصيل كما هنا، وللتفصيل والتقرير، وهي هنا للفصل بين كلامين، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود، وإنها هي المراد بقوله:{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] وقيل: يَعْرُب بن قَحْطان، وقيل: كَعْب بن لُؤَيّ، وقيل: قُسُّ بن سَاعِدَة، وقيل: سحبان، وفي غرائب الدَّارَقُطني لمالك: إن أول من قالها يعقوب عليه السلام، فإن ثبت، وقلنا: إن قَحْطان من ذرية إسماعيل فيَعْقُوب أول من قالها مطلقًا، وإن قُلنا: إن قحطان قبلَ إبراهيم فَيَعْرب أول من قالها.
وقوله: "فإني أدْعُوك بِدِعايةِ الإِسلام" بكسر الدال، ولمسلم والمؤلف في الجهاد:"بداعية الإِسلام" أي: بالكلمة الداعية إلى الإِسلام، وهي: الشهادتان، والباء بمعنى إلى.
وقوله: "أسلِم تَسْلَم" الأول فعل أمر من الإِسلام، والثاني بفتح اللام مُضارع من السلامة، مجزوم، جواب للأمر، وفيه غاية الاختصار والبلاغة، مع ما فيه من البديع وهو الجناس الاشتِقاقي، وهو أن يرجِعَ اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد.
وقوله: "يُؤْتِكَ الله أَجرَكَ مرتين" هو بحذف حرف العلة، مجزوم جواب ثان، وإعطاء الأجر مرتين لكونه آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، أو من جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه، وللمؤلف في الجهاد:"أسلم تَسلَم وأسلِم يُؤْتِكَ الله" بتكرار أسلم مع زيادة الواو قبل الثانية، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإِسلام، والثاني للدوام عليه، نحو:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] والحديث موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] واستنبط منه أن كل من دان بدين أهل الكتاب يكون في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هِرَقْل وقومه ليسوا من بني إِسرائيل، وهم ممن دخل في النَّصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه: يا أهل الكتاب، فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافًا لمن خَصَّ ذلك بالإِسرائيليين، أو بمَنْ علم أن سَلَفَه ممن دخل في اليهودية أو النَّصرانية قبل التبديل.
وقوله: "فإن تَوَلَّيت" أي: أعرضت عن الإِجابة في الدخول في الإِسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استُعْمل مجازًا في الإِعراض عن الشيء، وهي استعارة تبعية.
وقوله: "إثم الأرِيسيين" فيه أربع روايات بهمزة أوله مفتوحة جمع أريس ككريم، وبالياء بدل الهمزة، وبالهمزة والياء أيضًا مع زيادة ياء مشددة مكسورة بعد السين ممدودة بأخرى، والأريسون: الأكّارُون أي: الفلاحون الزراعون، أي: عليك إثم رعاياك، أي الذين يَتَّبِعونك ويَنْقادون لأَمْرك، أي وإذا كان عليه إثم الأتباع بسبب اتّباعهم له على استمرار الكفر فَلَأنْ
يكونَ عليه إثم نفسه أولى، ونبه بالأَريسينَ على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، وأسرع انقيادًا فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا، وقال أبو عُبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أم بغيره، وقيل: هم الأجراء، وقيل: الخدم والخَوَل لصده إياهم عن الدين، كما قال تعالى:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} الآية [الأحزاب: 67] وقيل: العَشّارون، يعني: أَهْل المَكْس، وقيل: كان أهل السواد أهل فِلاحة، وكانوا مجوسًا، وكان الروم أهل صناعة، فَأُعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب، فإن عليهم من الإِثم إن لم يؤمنوا مثل إثم المجوس الذين لا كتاب لهم، وكونه عليه إثم أتباعه لا يُعارض قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لأن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيِّئات يتحمل من جهتين، جهة فعله، وجهة تسببه، كما قال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
وقوله: و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} في أكثر النسخ إثبات الواو، وفي بعضها كما قال عِيَاض: إسقاطها، فعلى الإِسقاط يكون بيانًا لقوله:"دعاية الإِسلام"، وعلى الإِثبات تكون الواو عاطفة على قوله:"أدعُوك" أي: أدعوك "بدعاية الإِسلام"، وأدعوك بقوله تعالى، أو أتلو عليك، أو أقرأ عليك:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] وعلى هذا لا تكون الواو زائدة في التلاوة، لأنها إنما دخلت على محذوف، ولا محذور في ذلك، وحذف المعطوف مع بقاء معموله جائز، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر:9] أي: وأخلصوا الإِيمان، أو ألفوه وقول الشاعر:
وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيونا
أي: وكَحَّلْنَ، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب ذلك قبل نزول الآية، فوافق لفظه لفظها لمّا نزَلت، لأنها نزلت في وفد نَجْران سنة الوُفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: نزلت في
اليهود، وقيل: نزلت مرتين، وقد قيل: إن في هذه القصة دليلًا على جواز قراءة الجُنُب للآية والآيتين، وإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو، والمأخذ صحيح إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإِبلاغ والإِنذار كما في هذه القصة، أو الاستدلال، أو التعوذ، وأما الجواز مطلقًا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله:"أَسْلِمْ" والترغيب بقوله: "تَسْلَمْ""وَيُؤتِك" والزجر بقوله "فإن توليت" والترهيب بقوله: "فإنَّ عليك" والدلالة بقوله: "يا أهل الكتاب" وفي هذا من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أُوتي جوامع الكلم؟.
وقد ذكر السُّهَيْلِي أنه بلغه أن هِرَقْل وضع الكتاب في قصبةٍ من ذهب تعظيمًا له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طُلَيْطُلَة، ثم كان عند سبطه، وكان عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين، اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأله أن يمكِّنَهُ من تقبيله، فامتنع، وحُكِي أن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قِلجْ صندوقا مصفّحا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منها كتابًا زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه قطعة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غايةَ الحفظ، ونُعَظِّمه ونكتمُه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
ويؤيد هذا ما في المسند من حديث سعيد بن أبي راشد التَّنُوخي رسول هِرَقْل، أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإِسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تَنُوخ، إني كتبت إلى ملككم بصحيفة، فأمسِكْهَا، فلن يزال الناس يجدون منه بأسًا ما دام في العيش خير، وكذا ما أخرجه أبو عبيد، عن عُمَير بن إسحاق، قال: كتب النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، أما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه، ثم رفعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هؤلاء فَيُمَزَّقُون، وأما هؤلاء
فستكون لهم بقية.
وقوله: "فَلَما قالَ ما قال" أي الذي قاله، يحتمل أن يُشيرَ بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويُحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن النَّاطور بعدُ، والضّمائر كلُّها تعود على هِرَقْل.
وقوله "كثر عنده الصَّخَب" هو بالصاد المهملة، والخاء المعجمة مفتوحتين أي: اللَّغَطُ، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، زاد في الجهاد:"فلا أدري ما قالوا".
وقوله: "فَقُلْتُ لأصحابي زاد في الجهاد": "حِينَ خَلَوْتُ بهم".
وقوله: "لقد أَمِرَ" بفتح الهمزة وكسر الميم، أي كبُر وعظُم.
وقوله: "أَمْر ابن أبي كَبْشة" هو بسكون الميم أي شأنه، وكَبْشة بفتح الكاف، وسكون الباء اسم مُرْتَجَل ليس مؤنث الكبش، لأن مؤنثه من غير لفظه، يريد به النبي صلى الله عليه وسلم، قيل إنه كنية جد جده وَهَب، لأن أمه آمنة بنت وَهَب، وأم جد وَهَب قيلة بنت أبي كَبْشة، وعادة العرب إذا تَنَقَّصَت نسبت إلى جد غامض، وقيل: هو أبوه من الرَّضاعة، واسمه الحارث بن عبد العُزَّى، وعند ابن بُكَيْر أنه أسلم، وكانت له بنتٌ تسمى كَبْشَة، يُكْنَى بها، وقيل: هو رجل من خُزاعة اسمه وَخْز بن عامِر بن غالِب -بفتح الواو وسكون الخاء-، خالف قريشًا في عبادة الأوثان، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وذكر ابن حبيب في "المُجْتَبى" جماعة من أجداده عليه الصلاة والسلام من قِبَلِ أبيه، ومن قِبَل أمه كل واحد منهم يُكنى أبا كبشة.
وقوله: "إنه يَخَافُه" بكسر الهمزة استئنافٌ تعليليٌّ، وجوز العَيْنِيُّ فتحها على ضعف على أنه مفعول لأجله، أي عظم أمره عليه الصلاة والسلام لأجل أنه.
وقوله: "يخافُه ملك بني الأصفر"، وهم الروم، لأن جدهم رُوم بن عيْصى بن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة، فجاء ولده بين البياض
والسواد، فقيل له: الأصفر. أو لأن جدته سارة حلته بالذهب: وقيل غير ذلك.
وقوله: "وكان ابن النّاطور" بالمهملة، وفي رواية:"ابن ناطورا" بزيادة ألف في آخره، والناطور حافظ البستان لفظ أعجمي تكلمت به العرب، وفي رواية الناظور بالمعجمة، والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزُّهريَ، والزُّهري رواها منه، لأنه لقيه بالشام في زمن عبد الملك بن مروان، وتحمل ذلك منه بعد أن أسلم، والتقدير عن الزُّهريَ أخبرني عبيد الله، وذكر الحديث، ثم قال الزُّهريُّ: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، ووهِم من زعم أنها معلقة أو مروية بالسند المذكور عن أبي سفيان.
وقوله: "صاحب إيلياء" أي أميرها، وصاحب منصوب على الاختصاص أو الحال لا خبر كان، لأن خبرها إما أسْقُفًا، أو يحدث، وجوزه الدَّماميني على أنه من تعدد الخبر، وفي رواية:"صاحب" بالرفع نعت لابن الناطور، واسم الفاعل إذا أريد تعريفه لم يعمل في محل المجرور به نصبًا، بل نقدره كأنه جامد.
وقوله: "وهِرَقْلَ" بفتح اللام عطف على إيلياء، أي صاحب إيلياء، وصاحب هِرَقْل، وأطلقت عليه الصحبة إما بمعنى التَّبع، وإما بمعنى الصداقة، فوقع استعمال صاحب في المجاز بالنسبة لإِمرة إيلياء، وفي الحقيقة بالنسبة إلى هرقل.
وقوله: "أُسْقفَ" مبني للمجهول من الرباعي ورُوي "سُقفَ" مبنيًا للمجهول أيضًا من التسقيف، ورُوي "سُقِفَ" مبنيا للمفعول بالتخفيف ثلاثيًا، وروي "أُسْقُفًا" منصوبا بضم الهمزة وسكون السين، وضم القاف، وتخفيف الفاء، وروي:"أُسْقُفًّا" كذلك إلا أنه بتشديد الفاء، وهذا هو الأشهر من الروايات، ولا نظير له في وزنه إلا الأُسْهُبّ وهو الرصاص، والأُسْكُفّ وهو الصانع، وأما الأُتْرُجّ فهو جمع، والكلام إنما
هو في المفرد، وفي رواية:"سُقفًّا" بضم السين والقاف وتشديد الفاء، والأُسْقُف والسُّقُفّ لفظ أعجمي، ومعناه رئيس دين النّصارى، أو عالمهم، أو قيّم شريعتهم، وهو دون القاضي، أو فوق القِسِّيس ودون المُطران، وقيل: عربي ومعناه الطويل في انحناء، وقيل ذلك للرئيس لأنه يتخاشع في مشيته، جمعه أساقِفة وأساقِف.
وقوله: "على نصارى الشام" متعلق بـ "أُسْقُفًا".
وقوله: "يحدث" هو خبر كان كما مر، أو خبرها "أسقفًا" وهو حال منه.
وقوله "حين قدم إيلياء" يعني عندما غلبت جنوده جنود فارس، وأخرجوهم كما مر، وكان ذلك في سنة عمرته صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس، وفرحوا، وسبب فرحهم أنه لما غلبت فارس الروم فرح المشركون بمكة، وقالوا للمسلمين: ظَهَر إخواننا، ونحن سنظهر عليكم إن قاتلتمونا، فأنزل الله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] ففرح المَسلمون، وكثر التشاجر بينهم، وبين المشركين، حتى راهن أبو بكر أُبيَّ بن خلف على مئة قَلُوص إن لم يَغْلِبِ الروم فارس في تسع سنين، فلما دخلت السنة السابعة من الالتقاء الأول غلبت الروم، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان أبيّ قُتِلَ بأحد، فأخذ أبو بكر القَلائِص من ورثته، وكان ذلك قبل تحريم القمار، لأن آية الميسر في "المائدة" وهي من آخر القرآن نزولًا.
وقوله: "أصبح خبيث النفس" أي: رديئها، غير طيبها، أي مهموما، وقد تستعمل في كسل النفس، وعبر بالنفس عن جملة الإِنسان روحه وجسده، اتساعًا، لغلبة أوصاف الروح على الجسد، وفي "الصحيح":"لَا يَقُلْ أحَدُكُم خَبُثَثْ نفسي" كأنه كره اللفظ، والخطاب للمسلمين، وأما هِرَقْل فغير ممتنع في حقه.
وقوله: "بعض بَطارقته" هو بفتح الباء جمع بِطريق بكسرها، أي: قواده، وخواص دولته، وأهل الرأي والشورى منهم.
وقوله: "هَيْئَتُك" أي: سمتك وحالتك التي أنت عليها، لكونها مخالفة لسائر الأيام.
وقوله: "قال ابن النّاطور: وكان هِرَقْل حَزَّاءً" هو بفتح المهملة، وتشديد الزاي، آخره همزة منونة، أي: كاهن، يقال: حَزَا بالتخفيف يَحْزُو حَزْوًا إذا تكهن.
وقوله: "ينظُر في النجوم" خبر ثان لكان إن قلنا إنه ينظر في الأمرين، أو تفسير لحزّاء لأن الكَهَانة تُؤخذ تارة من إلقاء الشياطين، وتارة من أحكام النُّجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعًا ذائعًا، إلى أن أظهر الله الإِسلام، فانكسرت شوكتهم، وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وقيل إن الحزّاء هو الذي ينظر في الأعضاء، وفي خيلان الوجه، فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة، وهذا إن ثبت لا يلزم حَصره في ذلك، بل اللائق في حق هرقل ما تقدم، وكان ما اطلع عليه هِرَقْل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقرانِ العُلويَّين ببرج العقرب، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة، إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة، وكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جِبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر، وعُمرة القضية التي جرَّت فتح مكة وظهور الإِسلام، وفي تلك الأيام رأى هِرَقل ما رأى، ومن جملة ما ذكروه أيضًا أن برج العَقْرب مائي، وهو دليل ملك القوم الذين يختَتِنون، وكان ذلك دليلًا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مُرادًا هنا، لأن هذا لمن يُنْقَل إليه الملك، لا لمن انقضى ملكه. وليس المراد بذكر البخاري لهذا قصد الاعتماد على المنجمين، بل قصده أن يبين أن الإِشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق، من كاهن، أو منجم مُحِقٍّ
أو مبطل، إنْسيٍّ أو جِني، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم، أو يَجْنَح إليه محتَجّ.
ومن قوله: "وقال ابن النّاطور" معترض بين سؤال بعض البَطارِقَة، وجواب هِرَقل لهم، بقوله:"إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الخِتان قد ظهر" وملك فيه ضم الميم وسكون اللام، وفتح الميم وكسر اللام، وظَهَرَ: غَلَبَ، وهو كما قال، لأن في تلك الأيام كان ابتداء صلح الحديبية، وأنزل الله تعالى عليه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وفتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي وقع في الحُدَيبِية، ومقدمة الظهور ظُهور.
وقوله: "من هذه الأمة" أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم تَجَوُّزٌ، وفي رواية "فمن يَخْتَتِنُ من هذه الأُمم".
وقوله: "ليس يَخْتَتِنُ إلا اليهود" أجابوا فيه بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا ببيت المقدس كثيرين تحت الذِّلة، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان، لكنهم كانوا ملوكًا برأسهم.
وقوله: "فلا يُهِمَّنَّكَ" بضم أوله من أَهَمَّ الرباعي، أي أثار الهم.
وقوله: "شأنهم" أي أمرهم.
وقوله: "مدائن" جمع مدينة، فمن جعله فعيلة من قولك: مَدَنَ بالمكان أي أقام به هَمَزَهُ كقبائل، لزيادة المد، ومن جعله مفعلة من قولك: دان، أي مَلَكَ، لم يهمِزْ كمعايش لعدم زيادة المد، وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة بمنطوقه ومفهومه في قوله:
والمَدُّ زِيدَ ثَالثًا في الواحِدِ
…
هَمْزا يُرَى في مِثْلِ كَالقَلَائِدِ
وقوله: "فبينما هم على أمرهم" وفي رواية "بيناهم" بحذف الميم، وهي كما مر ظرف زمان للماضي، أشبعت فيها الفتحة بألف، وهم مبتدأ
خبره: "على أمرهم".
وقوله: "أُتِيَ هِرَقْل برجل أرسله ملك غسان" لم يذكر من أحضره، وملك غسان هو صاحب بُصْرى كما مر، والرجل لم يسم أيضًا، وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، أو ماء بالمشلل.
وقوله: "يُخبر عن خبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" فسر ابن إسحاق الخبر الذي أخبر به، فقال إنه قال: خرج بين أظْهُرِنَا رجل يزعُم أنه نبيٌّ، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم في مواطن، فتركتهم وهم على ذلك. فَبَيَّن ما أجمل في حديث الباب.
وقوله: "أمختَتِنٌ هُو" بهمزة الاستفهام، وفتح التاء الأولى، وكسر الثانية.
وقوله: "هم يَخْتَتِنُون" في رواية "مختتنون" بالميم.
وقوله: "فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر" أكثر الرواة بضم الميم ثم السكون، وللقابِسِّي بفتح الميم وكسر اللام، وللكُشْمِيْهَنِيِّ وحده: يَمْلِك فعل مضارع، وللسرخسىِّ بملك بباء موحدة، فعلى الأولى معنى هذا، أي الذي نضرته في النجوم، وعلى الثانية هذا إشارة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا في كلا الحالين مبتدأ خبره مُلْكُ أو مَلِكُ، "وقد ظهر" حال، وعلى الثالثة: هذا مبتدأ، ويملك خبره، أو يملِك نعت أي: هذا رجل يملك هذه الأمة، وقد ظهر حال، وعلى الرابعة الإِشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره في حكم النجوم، والباء متعلقة بظَهَرَ، أي: هذا الحكم ظَهَرَ بملك هذه الأمة التي تختتن.
وقوله: "إلى صاحب له" وذلك الصاحب يسمى ضغاطر الأُسْقُف.
وقوله: "بِروُمِيَةَ" أي فيها، وهي بتخفيف الياء، مدينة معروفة للروم، قيل: إن دَوْرَ سورها أربعة وعشرون ميلًا.
وقوله: "وكان نظيرَه" في رواية: "وكان هِرَقْل نظيره".
وقوله: "وسار هِرَقل إلى حمص" أي: لأنها دار مملكته، وهي ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وجوز بعضهم فيها الصرف وعدمه كَهِنْد وغيره من الثلاثي الساكن الوسط.
وقوله: "وأنه نبي" هو بفتح الهمزة عطف على خروج، وهذا يدُلُّ على أن هِرَقل وصاحبه أقَرَّا بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هِرَقل لم يستمر على ذلك، ولم يعمل بمُقْتضاه، بل شحَّ بملكه، ورَغِبَ في الرياسة، فآثَرَهما على الإِسلام، بخلاف صاحبه ضغاطر، فإنه أظهر إسلامه، وألْقَى ثيابه التي كانت عليه، ولبس ثيابًا بيضًا، وخرج على الروم، فدعاهم إلى الإِسلام، وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه، فضربوه حتى قتلوه.
وقوله: "فآذن هِرَقل" فيه القصر من الإِذن، وفيه المد، أي: الإِعلام.
وقوله: "في دَسْكَرَةٍ له بحمص" بدال مفتوحة، وسين ساكنة مهملتين، وكاف وراء مفتوحتين، وهي القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه، وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذِنَ للروم في دخولها، ثم أغلَقها، ثم اطَّلع عليهم، فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خَشْية أن يَثِبُوا به كما وَثَبوا بضغاطر، وكانت حمص في زمانه أعظم من دمشق، وهي دار ملكه، وكان فتحها على يد أبي عُبَيْدة بن الجرّاح سنة ستَّ عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.
وقوله: "والرُّشْد" بضم فسكون، أو بفتحتين، وهو ضد الغَيِّ.
وقوله: "وأن يَثْبُتَ" بفتح همزة أن مصدرية، عطفًا على قوله:"في الفلاح" أي: وهل لكم في ثبوت؟
وقوله: "فتُبايعوا" بمثناة فوقية مضمومة، ثم موحدة، وبعد الألف مثناة تحتية، منصوب بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخة:"فبَايعُوا"
بإسقاط التاء قبل الموحدة، وفي نسخة:"نُبايِع" بنون الجمع، وفي أخرى:"نتابع" بنون الجمع ثم مثناة فوقية، وفي أخرى:"فَتُتابعوا" بمثناتين فوقيتين، وبعد الألف موحدة، فالثلاثة الأُوَل من البيعة، والتي بعدها من الاتِّباع كما في نسخة:"فَنَتَّبِعَ".
وقوله: "هذا النبي" وفي رواية: "لهذا النبي" وإنما قال هذا لِمَا عرفه من الكتب السالفة، أي: التمادي على الكفر سببٌ لذهاب الملك. ونُقِلَ أن في "التوراة": "ونبيًّا مثلك أرسِلُه، أيُّ إنسان لم يقبل كلامي الذي يؤديه عني، فإني أُهْلِكه".
وقوله: "فحاصُوا حَيْصَةَ الحُمُر" حاصوا بمهملتين أي: نَفَروا، وشبه نَفْرَتَهم وجَفَلَهم مما قال لهم من اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام بنفرة حُمُر الوحش، لأنها أشدُّ نَفْرَةً من سائر الحيوانات.
وقوله: "قد غُلِّقَت" بضم الغين المعجمة وكسر اللام مشددة.
وقوله: "وأَيِسَ" جملة حالية، بتقدير قد، وهي بهمزة ثم مثناة تحتية، وفي روايَة "يَئِس" بتقديم الياء على الهمزة، وهما بمعنى، والأول مقلوب من الثاني، أي: قَنِط.
وقوله: "من الإِيمان" أي: من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شح بملكه، وكان يحب أن يطيعوه، فيستمر ملكه، فَيُسْلم ويُسلمون.
وقوله: "إني قلت مقالتي آنِفًا" بالمد مع كسر النون، وبالقصر ككتف، أي: الساعة، أو مبتدئًا منصوب على الظرف أو الحال من الضمير في قال، أي: مقالتي هذه الساعة، أو مُبْتَدئًا أي: مؤتَنِفًا ما قلته لكم، والمستعمل من فعله ائْتَنَفْتُ.
وقوله: "شِدّتكم" أي: رسوخكم.
وقوله: "فقد رأيت" أي: شدتكم، فحذف المفعول للعلم به، وللمؤلف في التفسير:"فقد رأيت منكم الذي أحببت".
وقوله: "فسجدوا له إما حقيقة على عادتهم لملوكهم، أو قبلوا الأرض بين يديه، لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود.
وقوله: "فكان ذلك آخر شَأن هِرَقل" بنصب آخر خبر كان، وكون هذا آخر شأنه، يريد: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإِيمان خاصة، أو أنه أطلق الآخِرِيَّة بالنسبة إلى ما في علمه، وهذا أوجه، لأن هِرَقْل وقعت له قصص بعد ذلك، من تجهيزه الجيوش إلى مُؤْتَةَ وتجهيزه الجيوش إلى تَبُوكَ، ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيًا، وإرساله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهب فقسمه بين أصحابه.
وروى ابن إسحاق أن هِرَقل لما أراد الخروج من الشام إلى القُسْطَنْطِينيَّة عَرَضَ على الروم أمورًا: إما الإِسلام، وإما الجِزْية، وإما أن يصالح النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويبْقي لهم ما دون الدَّرْب، فانطلق حتى إذا أشرف على الدَّرْب، استقبل أرْض الشّام، ثم قال: السلام عليك أرضَ سورية، -يعني: الشام- تسليم المودِّع ثم ركض، حتى دخل القُسْطَنطينيّة.
واختلف الأخْباريون هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعُمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو، وهذا كله يَدُلُّ ظاهره على استمراره على الكفر، لكن يُحْتَمَل مع ذلك أنه كان يُضْمِر الإِيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لمملكته، وخوفًا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مُسْلمٌ فقال عليه الصلاة والسلام: "بَلْ هوَ على نَصْرَانِيَّتِه".
ولما كان أمر هِرَقل في شأن الإِيمان فيه إبهام، ختم البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات بحديثه، كأنه قال: إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن النَّاطور في بدء الوحي، لمناسبتها لحديث الأعمال المُصَدَّر الباب به، وفي آخر لفظ من هذه القصة براعة الاختتام.
ومناسبة حديث أبي سفيان في قصة هِرَقل لبدء الوحي هي أنها
تضمنت كيفية حال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هِرَقل للدعاء إلى الإِسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهو قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء:163] الآية، وقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13] فَبَان أنه أوحى إليهم كلهم أَن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} .
وفي الحديث أن السنة في المكاتبات أن يبدأ بنفسه، فيقول: من فلان إلى فلان، وهو قول الأكثرين، وكذا في العنوان أيضًا يكتب كذلك، واحتجوا بهذا الحديث، وبما أخرجه أبو داوود، عن العلاء بن الحَضْرَمي، وكان عامل النبي صلى الله عليه وسلم على البَحْرَيْن، وكان إذا كتب إليه بَدَأ بنفسه، وفي لفظ: بدأ باسمه. وقال حَمّاد بن زَيْد: كان الناس يكتبون من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، أما بعد. قال بعضهم: وهو إجماع الصحابة. وقال أبو جَعْفَرِ النَّحّاس: وهذا هو الصحيح، وقال غيره: وكره جماعة من السَّلف خلافَه، وهو أن يكتب أولًا باسم المكتوب إليه، ورخص فيه بعضُهم، وقال: يبدأ باسم المكتوب إليه. رُوِي أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية، فبدأ باسم معاوية، وعن محمد بن الحَنَفِيَّة، وأيوب السَّخْتِيَانِي أنهما قالا: لا بأس بذلك، وقيل: يقدم الأب، ولا يبدأ ولد باسمه على والده، والكبير السن كذلك، وهذا يَرُدُّهُ حديث العلاء لكتابته إلى أفْضَلِ البشر، وحقه أعظم من حق الوالد، وغيره.
وفيه التَّوقّي في المكاتبة، واستعمال عدم الإِفراط.
وفيه دَليل لمن قال بجواز معاملة الكفّار بالدراهم المنقوش فيها اسم الله تعالى للضّرورة، وإن كان عن مالك الكراهة، لأن ما في هذا الكتاب أكثر مما في هذا المنقوش من ذكر الله تعالى.
وفيه الوجوب بالعمل بخبر الواحد، وإلا لم يكن لبعثه مع دِحْيَةَ فائدة مع غيره من الأحاديث الدالة عليه.
وفيه حُجّة لمن مَنَعَ ابتداء الكافر بالسلام، ويأتي استيفاء الكلام عليه في باب: إطعام الطعام.
وفيه استحباب: "أمّا بعد" وقد مر الكلام عليها، وعلى أول من نَطَقَ بها.
وفيه أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا عليه الصلاة والسلام فآمن به فله أجران.
وفيه أن النَّهي عن المُسافَرة بالقرآن إلى أرض العدو إنما هو في حمل المصحف والسور الكثيرة، دون الآية والآيتين، وقال ابن بَطّال: إنما فَعَلَه عليه الصلاة والسلام لأنه كان في أول الإِسلام، ولم يكن بُدٌّ من الدعوة العامة، وقد نهى عليه الصلاة والسلام، وقال:"لا تُسَافِروا بِالقُرآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ" والحديث محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار.
وفيه دعاء الكفار إلى الإِسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب، هذا مذهب الشّافعيَ، والثاني: يجب الإِنذار مطلقًا قاله مالك، حكاه المازَرِيُّ وعِيَاضٌ، والثالث: لا يجب مطلقًا، والرابع: يجب إن لم تَبْلُغهم الدعوة، وإن بلغتهم فيُستحب، وبه قال نَافِعٌ، والحسن، والثَّوريُّ واللَّيْثُ، والشّافِعي وابن المُنذر، قال النَّوَوِيُّ: وهو قول أكثر العلماء، وهو الصحيح، ومذهب أبي حَنِيفة أنه يُسْتَحب أن يدعو الإِمام من بلغته مبالَغَة في الإنذار، ولا يجب ذلك كمذهب الجمهور.
وفيه دليل على أن ذا الحسب أولى بالتقديم في أمور المسلمين، ومهمات الدين والدنيا، ولذلك كانت الخلفاء من قريش، لأنّه أحوط من أن يُدَنِّسوا أحلامهم.
وفيه دليل لجمهور الأصوليين أن للأمر صيغة معروفة، لأنّه أتى بقوله:"اعبُدوا الله" في جواب: "ما يأمركم"؟ وهو من أحسن الأدلة، لأن أبا
سفيان من أصحاب أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مقرًّا له ومذهب بعض الشافعية أنه مشترك بين القول والفعل بالاشتراك اللفظي، وقال آخرون بالاشتراك المعنوي، وهو التَّواطؤ بأن يكون القدر المشترك بينهما على ما عرف في الأصول.
واستدل به بعض العلماء على مَسِّ المحدِث والكافر كتابًا فيه آية أو آيات يسيرة من القرآن مع غير القرآن، وقال صاحب "الهداية": قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يَقْرَأُ الحائِضُ والجُنُبُ شَيئًا من القرآن" بإطلاقِهِ يَتَنَاوَلُ ما دون الآية، أراد أنه لا يجوز للحائض والنُفَساء والجُنب قراءة ما دون الآية خلافًا للطّحاوي، وخلافا لمالك في الحائض مطلقًا، وفي الجُنُب في اليسير كآية التعوذ ونحوه، قال: وليس لهم مسُّ المصحف إلَّا بغلافه، ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن، ولا يَمسُّ المحدث المصحف إلَّا بغلافه، ويكره مسه بالكم، وهو الصحيح، بخلاف الكتب الشرعية حيث يرخص في مسها بالكم لأن فيه ضرورة، ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حِفْظ القرآن، وفي الأمر بالتطهير حَرَجا لهم. هذا هو الصحيح.
وفيه أن الكذب مهجور، وعَيْب في كل مِلّة.
وفيه أن العدو يجب الاحتراز منه إذ لا يُؤمن أن يكذب على عدوه.
وفيه البيان الواضح على أن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاماته كان معلومًا لأهل الكتاب علمًا قطعيًا، وإنما تَرَكَ الإِيمان من تركه منهم عِنادًا، أو حَسدًا، أو خوفًا على فوات مناصبهم في الدنيا.
رجاله ستة: وفيه ذِكْرُ دِحْيَةَ الكلبي، وملك غسان، وهرقل.
الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع القُضاعي الحمصي البَهْرَانيُّ مولاهم، مولى امرأة من بَهْراء يقال لها: أم سَلَمة. قال العِجْلِيُّ: لا بأس به، وقال الخَليليُّ: نسخة شُعَيب رواها الأئمة، وتابع أبا اليَمان عليّ بن
الحمصي، وهو ثقة. وتكلم بعضُهم في سماعه من شُعيب، فقيل: إنها مناولة. وقيل: إنه مُجَرَّدُ إذن. وقد قال المُفَضّل بن غسان: سمعت يحيى ابن معين يقول: سألت أبا اليَمان عن حديث شعيب فقال: ليس هو مناولة، المناولة لم أخرجها لأحد، وبالغ أبو زرعة الرازي فقال لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلَّا حديثًا واحدًا، والباقي إجازة. قال ابن حَجَر: إن صح ذلك فهو حجة في صحة الرواية بالإِجازة، إلا أنه كان يقول في جميع ذلك: أجرنا، ولا مُشَاحّة في ذلك إن كان اصطلاحًا. وقال الأثْرَم: قال أبو عبد الله: كان أمْرُ شُعيب في الحديث عسرًا جدًّا، وكان علي بن عيّاش سمع منه، وذكر قصة لأهل حمص، أُراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه، فقال لهم: لا، ثم كَلّموه وحضر ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارووا عني تلك الأحاديث، فقلت لأبي عبد الله: مناولةً؟ قال: لو كان مناولة كان أعطاهم شيئًا، وهو لم يُعطهم كتبًا ولا شيئًا إنما سمع هذا فقط فكان ابن شُعيب يقول: إن أبا اليمان جاءني، فأخذ كتب شُعيب مني بعد موته، وهو يقول: أخبرنا. وقال إبراهيم بن الحسين: سمعت الحَكَم ابن نافع، يقول: قال لي أحمد بن حَنْبل: كيف سمعت الكتب من شعيب؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قَرَأ عليّ، وبعضه أجازني، وبعضه مناولة. فقال: قُل في كلها: أخبرنا شعيب.
وقال أبو زُرْعة الدِّمشقي، عن أبي اليَمان: كان شُعيب عسرًا في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة، فقال: هذه كتبي، وقد صححتها، فمن أراد أن يأخذها مني فَلْيَأخُذْها، ومن أراد أن يَعْرِض فَلْيعرِض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فإنه قد سمعها مني.
قال أبو بكر محمَّد بن عيسى الطَّرَسُوسِيُّ: سمعت أبا اليمان يقول: سِرت إلى مالك، فرأيت ثم من الحُجّاب والفُرُش شيئًا عجيبًا، فقلت: ليس هذا من أخلاق العلماء، فَمَضَيت وتركته، ثم ندمت بعد، وقال الأثْرم: سُئل أبو عبد الله عن أبي اليمان، فقال: أما حديثه عن صَفْوان وحَريز فصحيح، قال: وهو يقول: أخبرنا شعيب. اسْتَمَلّ ذلك بأمر
عجيب، قال أبو عبد الله: كان أمر شُعيب في الحديث عسرًا جدًّا .. الخ. ما مرّ قريبًا، وقال أبو حاتم: نبيل ثقة صدوق. وقال ابن عَمّار: ثقة، وقال البَرْدعِيُّ: قلت لمحمد بن يحيى في حديث أنس عن أم حبيبة يعني حديث "أرأيت ما تلقى أمتي بعدي" الحديث: حدثكم به أبو اليمان؟ فقال: نعم، حدثنا به من أصله، عن شُعيب، عن ابن أبي حُسين، فقلت: حدثنا به غيرُ واحدٍ، عن أبي اليمان، فقالوا: عن الزّهري، قال: لَقَّنوه عن الزُّهري، قلت: رواه يحيى بن مَعين، فقال: يحيى بن مَعِين لَقِيه بعدي. وقال أبو زُرْعة الدِّمَشْقيُّ، عن أحمد، بعد أن رواه عن أبي اليمان عن شعيب، عن ابن أبي حُسين: ليس لهذا أصل عن الزُّهري وكان كتاب شُعيب عن ابن أبي حُسين ملصقًا بكتاب الزُّهري، كأنه يذهب إلى أنه اختلط بكتاب الزُّهْري، فكان يَعْذُرُ أبا اليمان، ولا يَحْمِلُ عليه فيه. قال أبو زُرْعة: وقد سألت عنه أحمد بن صالح، فقال لي مثل قول أحمد بن حَنْبل، وقال إبراهيم بن هانىء النَّيْسابُوريُّ: قال لنا أبو اليمان: الحديث حديث الزُّهري، والذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها. وكذا قال يحيى بن معين عنه.
وروى عن: شعيب بن أبي حمزة، وحَرِيز بن عُثمان، وعَطّاف بن خالد، وسَعيد بن عبد العزيز، وصَفْوان بن عمرو، وغيرهم.
وروى عنه: البخاريُّ نسخة، وروى له الباقون بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهري، وروى عنه الذُّهليُّ، وأحمد بن حَنْبل، وابن مَعين، ومحمد بن عَوْف الطّائي، وأبو مسعود الرّازيّ، وغيرهم، وليس له في ابن ماجة إلا حديث واحد في خِطْبة علي بنت أبي جهل.
ولد سنة ثمان وثلاثين ومئة، ومات في ذي الحجة بحمص سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئتين.
وليس في الكتب الستة من اسمه الحكم بن نافع سواه، وفي الرواة الحكم بن نافع آخر روى عنه الطَّبراني، وهو قاضي القُلْزُم، وأما من اسمه
الحكم فهو نحو ثلاثة وثلاثين.
والقُضَاعِيُّ في نسبه نسبةً إلى قُضاعة وهو عمرو بن مالك بن مُرّة بن زيد بن مالك بن حِمْير بن سَبأ أبو حيٍّ باليمن، وتزعم نُسّاب مُضَر أن قُضاعة بن معد بن عدنان، والصواب هو الأول كما في "العُباب" وقال ابن ماكولا: هو الأكثر والأصح، وفي "المقدمة الفاضِلية": وأكثر العلماء على أنه قُضاعة بن معد بن عدنان، وأن مالك بن مُرّة زوج أمه، فنسب إلى زوج أمه عادة معروفة عند العرب بينهم. وقال أبو جعفر بن حبيب النَّسّابَة: لم تزل قُضاعة في الجاهلية والإِسلام تُعْرَفُ بِمَعد حتى كانت الفتنة بالشّام بين كَلب وقَيْس عَيْلان أيام مروان بن الحكم، فمال كلب يومئذ إلى اليمن، وانتمت إلى حِمْير استظهارًا منهم بهم على قَيس. وذكر ابن الأثير في "الأنساب" هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمَّد بن سلام البَصْري النّسابة لما سئل: أنِزار أكثر أم اليمن؟ فقال: إن تَمَعْدَدَت قُضاعة، فنزار أكثر، وإن تيمنت فاليمن.
والقضاعة لغة الفهد، وبه لقب عمرو بن مالك، وقيل: لقب به لانقطاعه عن قومه مع أمه من القضع بمعنى القطع، وقيل: من قَضَعَه بمعنى قهره، وإلى قُضاعة يُنسب القاضي أبو عبد الله محمد بن سَلامة ابن جَعْفر القُضاعِيُّ صاحب كتاب "الشهاب" وسميه أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد السلام القضاعي صاحب "المختار في الخُطط والآثار" توفي سنة أربع مئة وأربعة وخمسين، فقُضاعة إحدى القبائل الأربعة المُتَذَبْذِبة بين عدنان وقحطان التي أشار لها ناظم أنساب العرب الشَّنْقِيطِي حيث قال:
قُضاعةٌ مَذَبذبٌ بَينهُمَا
…
فَلِمعدٍّ عِند قَومٍ انْتَمى
وَهْوَ وَبلْه ما يَقول المُزْدَري
…
قُضَاعةُ بن مالِكِ بن حِمْيرِ
وأُمُّه عُكْبَرة على حَبَلْ
…
مِن مالِكٍ اتَّخَذتْ منهُ بَدَل
خُزَاعَةٌ كذاكَ ذُو تَذَبْذُب
…
مَا بَيْن قَمْعَةٍ وأزْدِ يَثْرب
وهكذا بجَيلةٌ الخُلَفَا
…
وخَثْعَمُ الكِرَام قَد تَوَقَّفَا
مَا بَين أنْمارِ نِزَارٍ السَّنِي
…
وبَيْنَ أنْمارِ أرَاشِ اليَمَنِ
والبَهْراني في نسبه نسبةً إلى بَهْراء بن عمرو بن الحاف بن قُضاعةَ أبو بطن من قُضاعة، يُمد وقد يُقصر، قال ابن سِيْدَهَ: لا أعْلم أحدًا حكى فيه القصر إلَّا كراع، وإنما المعروف فيه المد، أنشد فيه ثَعْلب:
وَقَد عَلِمت بَهْراءُ أنَّ سُيوفَنا
…
سُيُوفُ النَّصارى لا يَليقُ بها الدَّمُ
والنسبة إليه بَهْراني، مثل بَحْراني، على غير قياس، النون فيه بدل من الهمزة، وبهراوي على القِياس، قال ابن جِنّيّ: من حُذّاق أصحابنا من يَذْهب إلى أن النون في بَهْراني إنما هي بدلٌ من الواو التي تُبْدَل من همزة التأنيث في النسب، وأن الأصل بَهْراويّ، وأن النون هناك بدلٌ من هذه الواو، كما أُبْدِلت الواو من النون في قولك: من وافد، وإن وقفتَ وقفتُ، ونحوه، وكيف تَصَرَّفَتِ الحال، فالنون بدل من الهمزة، قال: وإنما ذهب إلى هذا لأنه لم ير النون أبدلت من الهمزة في غير هذا، وكان يحتج في قولهم: إن نون فعلان بدل من همزة فعلاء، وليس غرضهم هنا البدل الذي هو نحو قولهم في ذئب: ذيب، وفي جؤنة: جونة، إنما يريدون أن النون تُعاقِبُ في هذا المحل الهمزة، كما تعاقب لام المعرفة التَّنوين، أي: لا تجتمع معه، ولما لم تجامِعْه، قيل: إنها بدل منه، وكذلك النون والهمزة، قال: وهذا مذهب ليس بقصد.
والحِمْصيُّ في نسبهِ نسبةً إلى حمص بكسر الحاء وسكون الميم كُورة بالشام، أهلها يمانون، تذكر وتؤنث، وهي من أوسع مدن الشام، بها نهر عظيم، ولها رَسَاتِيق، سُميت بحِمص بن صِهْر بن حَمِيص بن صَاب ابن مكنف من بني عَمْلِيق، وقيل: حِمْص بن المهر بن حَاف، كما سميت حلب بحلب بن المهر، وقيل: سميت برجل من عامِلة هو أول من نزلها، وكانت حمص في قديم الزمان أشهر من دمشق. قال ابن حَوْقل هي أصح بلاد الشام تربةً، وليس فيها عقارب وحيات، افتتحها أبو عبيدة بن الجَرّاح سنة ست عشرة، ثم نافت، ثم صولحت، بها قبر سيدنا خالد
ابن الوليد، قال الثعْلَبي: دخلها تسع مئة رجل من الصحابة، ولا يجوز فيها الصرف كما يجوز في "هند" لأنه اسم أعجمى، وقال ابن التّين: يجوز الصرف وعدمه لقلة حروفه، وسكون وسطه. قال العَيْنِيّ: إذا أنثته منعته من الصرف لأن فيه حينئذ ثلاث علل التأنيث والعجمة والعلمية، فإذا كان سكون وسطه يقاوم أحد السببين يبقى سببان، وبها يمنع من الصرف كما في ماه.
الثاني: شُعَيب بن أبي حَمْزة، واسمه دِينار الأُموي مولاهم أبو بشر الحِمْصي. قال أبو زُرعة الدِّمشقي، عن أحمد: رأيت كتب شُعيب بن أبي حمزة، فرأيتها مقيدة مضبوطة، ورفع من ذكره، قلت: فأين هو من الزُّبيدي؟ قال: مثله. وقال الأثْرم، عن أحمد نحو ذلك، وقال محمد بن علي الجُوزجاني، عن أحمد: ثبت، صالح الحديث. وقال عُثمان الدَّارِمِيُّ، عن ابن مَعِين: ثقة، مثل يونس وعقيل في الزُّهْري، وكتب عن الزُّهري إملاءً للسلطان، وقال ابن الجُنَيد، عن ابن مَعِين: شعيب من أثبت الناس في الزُّهري، كان كاتبًا له، وقال العِجليُّ، ويعقوب بن شَيبَة، وأبو حاتم، والنَّسائي: ثقة. وقال علي بن عياش: كان من كبار الناس، وكان ضنينًا بالحديث، وكان من صنف آخر في العبادة، وكان من كُتّاب هشام، وقال أبو اليمان: كان عسرًا في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زُرْعة عن شُعيب وابن أبي الزِّناد، فقال: شُعيب: أشبه حديثًا وأصح من ابن أبي الزِّناد. وقال العِجليُّ: ثقة ثبت، وقال الخلِيليُّ: كان كاتب الزُّهري، وهو ثقة، متفق عليه، حافظ، أثنى عليه الأئمة، وقال أبو داود كان أصح حديثًا عن الزُّهري بعد الزَّبيدي.
روى عن: الزُّهري، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسين، وأبي الزِّناد، وابن المُنْكَدِر، ونافع، وهشام بن عروة وغيرهم.
وروى عنه ابنه بِشْر وبقية بن الوليد، والوليد بن مُسلم، ومِسكين بن
بُكَير، وأبو اليمان وعلي بن عيّاش، والحِمصيّ، وعدة.
قال الفضل الغَلابي: عنده من الزُّهري ألف وست مئة، ثقة حافظ متقن.
مات سنة اثنتين وستين ومئة، وقيل سنة ثلاث، جاوز السبعين، وليس في الكتب الستة من اسم شُعيب بن أبي حمزة سواه، وشعيب في الكتب الستة نحو ثمانية عشر.
والأمَويُّ في نسبه نسبةً إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو بضم الهَمْزَة على القياس، وبفتحها على غير قياس، كما في "المصباح" وقال ابن دُرَيد: مَنْ فَتَحَهَا فقد أخطأ، وأُمَيّة تصغير أَمَة بفتح الهمزة، والأمة محذوفة اللام، وهي واو، وأصلها أَمْوة، ولهذا ترد في التَّصغير، وكان الأصل أن يقال: أُمَيّيي بأربع ياءات، لكن حُذفت الياء الزائدة للاستثقال، كما تحذف من سليم ونحوها عند النسبة، وقلبت الياء الأولى ناسًا كراهية اجتماع الياءات مع الكسرتين، وحكى سيبويه عن يونس أن ناسًا من العرب يقولون أُمَيّي، ولا يغيرون. وأميَّة أيضًا بطن في الأنصار، وهو أمية بن زيد بن مالك، وفي قُضاعة وهو أمية بن عصبة، وفي طيِّىء وهو أمية بن عدي بن كِنانة.
الثالث: صَخر بن حَرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو سفيان القرشيُّ الأمويُّ مشهور باسمه وكنيته، وكان يكنى أبا حَنْظَلة، وأمُّه صَفِيّة بنت حَزْن الهِلالية عمة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان أسَنَّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وقيل غير ذلك، وهو والد مُعاوية، أسلم عام الفتح في قصة شهيرة، وشهد الطائف وحُنينًا، وأعطاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من غنائم حُنين مئة من الإِبِل، وأربعين أوقية كسائر المؤلفة قلوبهم، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال له أبو سُفيان: والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي، لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك فلنعم المسالمُ أنت، جزاك الله خيرًا.
قال يونُس بن عُبيد: كان عُتْبة بن ربيعة، وأخوه شيبَة، وأبو جَهْل، وأبو سُفيان لا يَسْقط لهم رأي في الجاهلية، فلمّا جاء الإِسلام لم يكن لهم رأي، وتبين عليهم السُّقوط، والهَلاك، والضَّعْف في الرّأي.
وتزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنته أم حَبيبة قَبل أن يُسلم، وكانت أسلمت قديمًا، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشةَ، فمات هُنالك.
وروى الزُّبير بن بَكّار أن أبا سُفيان كان يُمازِحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في دار بنته أم حبيبة، ويقول: والله إن هو إلا أن تركتُك وتركتك العَرَبُ إن انتطحت فيك جَمَّاء ولا ذاتُ قرن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول:"أنت تَقُول ذلك يا أبا حَنْظَلة" وعن ثابت البُنَانيُّ: إنما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سُفيان فهو آمن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوذي بمكة دخل دار أبي سفيان، ورُوي عن عِكْرِمة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أبي سُفيان بن حَرْب تمر عَجْوة، وكتَب إليه يَستهدِيه أدَمًا مع عمرو بن أمية، فنزل عمرو على إحدى زوجتي أبي سفيان، فقامت دونه، وقبل الهدية، وأهدى أدمًا.
فُقِئت عينه الواحدة يوم الطائف، والأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد، فقد روى الزُّبير من طريق سَعيد بن عبيد الثَّقَفي، قال: رميت أبا سفيان يوم الطائف، فأصبت عينه، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، قال:"إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة"، قال: الجنة. وعن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبيه، قال: فُقِدت الأصوات يوم اليرموك إلَّا صوت رجلٍ يقول: يا نصر الله اقترب، فنظرت، فإذا هُو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وفُقِئت عينه حينئذ، ويقال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استعمله على نَجْران، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو والٍ عليها، ورجع إلى مكة، وسكنها بُرْهَةً، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها. قال الوَاقِديُّ: أصحابنا يُنْكرون ولاية أبي سُفيان على نَجْران في حين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: كان أبو سفيان بمكة حين وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان عامله
على نَجران حينئذ عمرو بن حَزْم. وذكر ابن إسحاق أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وجَّهَه إلى مَنَاة، فهدمها.
وروى ابن سعد من طريق أبي السَّفَرِ قال: لما رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده، فقال: لو عاودت الجمع لهذا الرجل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، ثم قال:"إذا يُخْزيكَ الله" فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، والله ما تَفَوَّهت به إلا شيء حدثت به نفسي. ومن طريق أبي إسحاق السَّبِيعي نحوه، وقال: ما أيقنت أنك رسول الله حتى الساعة. ومن طريق عبد الله بن أبي بكر بن حَزْم، قال: قال أبو سفيان في نفسه: ما أدري بم غلبني محمَّد، فضرب في ظهره، وقال: بالله نَغْلِبُك. فقال: أشهد أنك رسول الله.
وعن ابن إسحاق من حديث ابن الزُّبَير قال: كنتُ مع أبي عام اليَرموك فلما تَعَبّى المسلمون للقتال، لبس الزُّبير لأمَتَهُ، ثم جلس على فرسه، وتركني، فنظرت إلى ناس وقوف على تلٍّ يقاتلون مع الناس، فأخذت فرسًا ثم ذهبت فكنت معهم، فإذا أبو سفيان في مشيخة من قريش، فجعلوا إذا مال المسلمون يقولون: أيده ببني الأصفر، وإذا مالت الروم قالوا: يا ويح بني الأصفر، فحدث به ابن الزبير أباه لما فتح الله على الإِسلام، فقال: قاتله الله يَأبَى إلا نِفاقًا، أو لسنا خيرًا له من بني الأصفر، قال ابن حَجَر: وهذا يبعده ما قبله، والذي قبله أصح.
وعن عَلْقَمَة بن نَضْلَة أن أبا سفيان بن حَرْب قام على رَدْم المرأتين، ثم ضرب برجله، فقال: سَنام الأرض إنَّ له سَنامًا، يزعم ابن فَرْقد أني لا أعرف حَقّي من حقّه، لي بياض المَرْوة وله سوادها، فبلغ ذلك عمر، فقال: إن أبا سفيان لقديم الظلم، ليس لأحد حق إلا ما أحاطت عليه جدرانه.
وذكر ابن المُبارك من طريق ابن أبْجَر: لما بوِيع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، جاء أبو سفيان إلى علي رضي الله عنه، فقال: أغلبكم على هذا الأمر أقل بيت في قريش؟ أما والله لأَملأَنَّها خيلًا ورجالًا إن
شئت، فقال علي: ما زلت عدوًّا للإِسلام وأهله، فما ضر ذلك الإِسلام وأهله أنّا رأينا أبا بكر أهلًا، وهذا الخبر رواه عبد الرزاق، عن ابن المبارك، عن الحسن، قال: إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه، فقال: صارت إليك بعد تَيْم وعَدِيّ، فأدرها كالكُرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو المُلْك، ولا أدري ما جنة ولا نار؟ فصاح به عثمان: قم، فعل الله بك وفعل.
وفي حديث ابن عباس، عن أبيه، لما أتى به العَبّاس وقد أردفه خلفه يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يُؤمِّنَهُ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا سفيان، ويحك، أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا، فقال: ويحك يا أبا سُفيان، ألم يَأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له: ويلك، اشهد شهادة الحق قبل أن تُضْرَبَ عنقك، فشهد وأسلم، ثم سأل له العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤمِّنَ من دخل داره، وقال: إنه رجل يحب الفخر والذكر، فأسعفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن، ومن ألقى السِّلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن.
قال ابن عبد البَرّ: وله أخبار كثيرة رديئة، ذكرها أهل الأخبار لم أذكُرها، وحديثُ ابن المُسَيِّب المتقدم يَدُلُّ على صحة إسلامه، ورُوِي أنه كان يقف على الكَراديس يوم اليَرموك، فيقول للناس: الله الله فإنكم ذَادّة العرب، وأنصار الإِسلام، وإنهم ذادّة الروم، وأنصار المشركين، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنْزِل نصرك على عبادك.
فالحاصل كما قال ابن عَبْد البَرّ، هو: أن الناس فيه طائفتان، طائفة تروي أنه لما أسلم حَسُنَ إسلامه، وطائفة تروي أنه كان كَهْفًا للمنافقين مُنذ أسلم، وكان في الجاهلية يُنْسَب إلى الزَّنْدَقة، وكان من أشراف قُرَيش
في الجاهلية، وكان تاجرًا يجهز التُجار بماله، وأموال قريش إلى الشام وغيرها من بلاد العَجَم، وكان يخرُجُ أحيانًا بنفسه، فكانت إليه راية الرُّؤساء المعروفة بالعُقَاب، وكان لا يَحبِسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش، فوضعت الرّاية في يد الرئيس، وكان أبو سفيان صديق العباس ونديمه في الجاهلية، له أحاديث روى عنه ابن عباس حديث هِرَقل، وقَيْس بن أبي حازم، وابنه مُعَاوية.
مات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وقيل: اثنتين، وقيل: أربع، وصلى عليه ابنه مُعاوية، وقيل: بل صَلّى عليه عثمان بموضع الجَنَائز، ودُفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: ابن بِضْع وتسعين سنة، وكان رَبْعَةً، دَحْداحًا، ذا هامةٍ عظيمةٍ.
وأبو سُفيان في الصحابة جماعة، لكن أبو سُفيان بن حَرْب من الأفراد، وصَخْر في الكتب الستة تسعة.
وأما دِحْية بكسر الدال ويفتح فهو ابن خَليفة بن فَروة بن فَضَالة بن زَيد ابن امرىء القيس بن الخَزْرج، وهو زيد مَنَاة بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عَوف بن عُذْرَة القُضَاعي، صحابيٍّ مشهور، أول مشاهده الخندق، وقيل: أحد، ولم يشهد بدرًا، وكان يُضربُ به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل ينزل على صورته، فقد أخرج النَّسائيُّ من حديث ابن عُمر رضي الله تعالى عنهما، كان جِبْريل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ. وعن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"كانَ جِبريلُ يَأتِينِي على صورة دِحْية الكلبيّ" وكان دِحية رجلًا جميلًا. وروى العِجْلِيُّ في "تاريخه"، عن عوانة بن الحكم، قال: أجمل الناس من كان جِبريل يأتي على صورته.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: كان دِحية إذا قدم المدينة لم تبق مُعْصر إلَّا خرجت تَنْظُر إليه، والمراد بالمعصر العاتق، وهو رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قَيصر، فَلَقِيه بحمص أول سنة سبع، أو آخر سنة ست، ومن المنكر ما أخرجه ابن عَسَاكر في "تاريخه" عن ابن عباس، أن دِحْية أسلم في خلافة
أبي بكر الصديق، وقد رده ابن عَسَاكر، وروى التِّرْمِذِي، من حديث المُغِيرة، أن دِحية أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خُفَّيْنِ فَلبسهمَا وعند أبي داود من طريق خالد بن يزيد بن مُعاوية، عن دِحية، قال: أُهْدِي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَبَاطي، فأعطاني منها قِبْطِيّة. وروى أحمد من طريق الشَّعْبي، عن دِحْية، قال: قلت: يا رسول الله، أأحْملُ لك حمارًا على فرس فيُنْتِج لك بَغْلًا فتركبَهَا، قال: قال: "إنّما يَفْعلُ ذلك الذين لا يَعلمون".
وأخرج ابن سعد من حديث مُجاهد، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دِحْية سَرِّيةً وحده، وقد شهد دحية اليرموك، وكان على كَرْدُوس، وقد نزل دِمشق، وسكن المِزَّة، وعاش إلى خلافة معاوية. قال ابن البَرْقِيّ: له حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حَجَر: اجتمع لنا عنه نحو السِّتّة.
روى عنه: خالد بن يزيد بن مُعاوية، ومَنصور بن سَعيد بن الأصْبَغ، وعبد الله بن شَدّاد بن الهاد، ومحمد بن كَعْب القُرَظِيُّ، والشَّعبيّ.
والقُضاعيّ في نسبه نسبةً إلى قُضاعة، ومرَّ الكلام عليه أول السند عند أبي اليمان، والمِزَّة -بكسر الميم وتشديد الزاي- قرية قرب دمشق، وليس في الصحابة من اسمه دِحْية سواه.
وملك غسان المُراد به الحارث بن أبي شمر، أراد حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم في غزوة، ولم أر له إسلامًا.
وأما هِرَقل بكسر الهاء وفتح الراء على المشهور، فهو عَلَم لملك الروم، ولقبه قَيْصر، ويلقب به كل ملك للروم، كما أن كل من ملك الفُرس يقال له: كسرى، وكل من ملك التُّرْك يقال له: خاقان.
ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول من ضَرَب الدنانير، وأحدث البيعة والصحيح أنه لم يُسْلم، ومات على نَصْرانيَّتِه.
لطائف إسناده: منها أن فيه رواية حِمْصيّ عن حمصي عن شاميّ عن مَدَني.
ومنها أنه قال أولا: حدثنا، وثانيا أخبرنا، وثالثا بكلمة عن، ورابعًا بلفظ أخبرني محافظة على الفرق الذي بين العبارات، أو حكايةً عن ألفاظ الرواة بأعْيانها، مع قَطْع النظر عن الفرق، أو تعليما لجواز استعمال الكل إذا قُلْنا بعدم الفرق بينها.
ومنها أنه ليس في "البخاري" مثل هذا الإِسناد أعني عن أبي سفيان، لأنه ليس في الصحيحين، وسنن أبي داود، والتِّرمذي، والنَّسائي حديث غيره، ولم يرو عنه إلا ابن عَبّاس رضي الله تعالى عنهم.
ومنها: أن رواية البخاري لهذا الحديث عن أبي اليَمان من الرواية عن النُّسخة، لأنَّ أبا اليَمان كما مرّ روى عن شُعيب نسخة، والنسخة هي رواية متون بإسناد واحد، كرواية هَمّام بن مُنَبّه، عن أبي هُريرة، رواها عبد الرزاق عن مَعْمَر، عنه واختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة، هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مُبْتَدأً به أولا؟ فالجمهور على الجواز، ومنهم البُخاري، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله، والأقل كالأستاذ أبي إسحاق الإِسْفَرايني منع من ذلك لإِيهامه أنه سمع ذلك، وقيل: يبدأ أبدًا بأول الحديث، ويذكر بعده ما أراد، وتوسط مسلم، فأتَى بلفظٍ يُشْعِر بأن المُفرد من جملة النسخة، فيقول مثلًا: حدثنا محمَّد بن رَافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبره مَعْمر، عن هَمّام قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أدنى مَقْعَد أحدِكُم أن يقال له: تَمَنَّ الحديث" وبعضهم يعيد سند الكتاب، أو الجزء في آخره، وذلك لا يرفع الخلاف الوارد في أفراد كل حديث بالسند، ولكنه احتياطٌ لما فيه من التأكيد، وأشار العِراقيُّ إلى الكلام عليها بقوله:
والنُّسَخُ الّتي بإسنادٍ قَطُ
…
تَجْديدُه في كلِّ مَتنٍ أحوَطُ