الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
16 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَاّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» .
[الحديث 16 - أطرافه في: 21، 6041، 6941]
وقوله: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه" ثلاث مبتدأ، خبره بالجملة، وساغ الابتداء بالنكرة، لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ثلاث خصال، ويحتمل في إعرابه غير ذلك، وقوله:"كُنَّ" أي: حصلن، فهي تامة.
وقوله: "وجد" أي أصاب، ولذلك عَدّاه بمفعول واحد، وهو قوله:"حلاوة الإِيمان" ومعنى حلاوة الإِيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، وإنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإِيمان بالشجرة في قوله تعالى:{مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] فالكلمة هي كلمة الإِخلاص، والشجرة أصل الإِيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يَهْتَمُّ به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها، وهل هذه الحلاوة حسية أو معنوية، وعلى الثاني فهو على سبيل المجاز. وفي قوله:"حلاوة الإِيمان" استعارة تخييلية، واستعارة بالكناية، وذلك أنه شبه رغبة المؤمن في الإِيمان بالعسل، ونحوه، ثم أثبت له لازم ذلك، وهو الحلاوة، وأضافه إليه، فالتشبيه المضمر استعارة بالكناية، وإثبات اللازم استعارة تخييلية،
وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح، لأن المريض الصَّفراوِيَّ يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يَذُوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما نقص ذَوْقُه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يُقَوّي استدلال المصنف على زيادة الإِيمان ونقصانه.
وقوله: "أحب إليه" منصوب خبر يكون، قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العَقْلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فينفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله.
قلت: وهذا هو المعبر عنه فيما مرّ بالحب الاختياري، ثم قال: فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا يَنْهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يَقْتضي رجحان ذلك، تمرن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة، لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، قال: وإنما جعل هذه الأمور عنوانًا لكمال الإِيمان ، لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانِع في الحقيقة سواه، وأنَّ ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحبُّ إلا ما يُحِبّ، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعدوا وعد حق يقينًا ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العَوْد إلى الكفر إلقاء في النار، وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24] ومحبة العبد لله تعالى تحصل بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك الرسول، وكل من المحبتين على قسمين: فرض وندب، وهما متلازمتان، لا تحصُلُ إحداهما دون الأخرى، فالغرض فيهما هو المحبة التي تَبْعث على امتثال الأوامر،
واجتناب المعاصي، والرضى بما قدره الله تعالى، فمن وَقَعَ في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في المحبتين، حيث قَدَّمَ هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات، والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء، فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يُسْرِع إلى الإِقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث:"لا يَزْني الزْاني حينَ يَزْني وهُو مؤمن" والندب أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف بذلك نادر، ويزاد في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام أن لا يَتَلَقّى شيئًا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يَسْلُك إلا طريقه، ويرضى بما شرعه، حتى لا يَجِدَ في نفسه حرجًا مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه في الجود والإِيثار والحلم والتواضع وغيرهما، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإِيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك.
وقوله: "مما سواهما" إنما قال: مما، ولم يقل: ممن لِيَعُمَّ من يعقل ومن لا يعقل، وفيه دليل على أن لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذي خطب حيث قال: ومن يعصِهما فقد غوى: "بئس الخطيب أنت" فليس من هذا لأن المراد في الخطب الإِيضاح، وأما هُنا فالمراد الإِيجاز في اللفظ لِيُحْفَظَ، ويَدُلُّ عليه ما في سنن أبي داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في موضع آخر:"ومن يعصِهما فلا يَضُرُّ إلا نفسه" واعترض هذا الجواب بأن هذا الحديث إنما ورد في خطبة النكاح، وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإِيجاز، فلا نقض، ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أنَّ تثنية الضمير هنا للإِيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلا ولا يُحِبُّ رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأوقع متابعة مكتنفة بين قطري محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد، وأما أمر الخطيب بالإِفراد فلأن كل واحد
من العصيانين مستقل باستلزام الغِواية إذ العطفُ في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأعاد أطيعوا في الرسول ولم يُعده في أولي الأمر، لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة، كاستقلال الرسول.
قلت: عندي في هذه التفرقة نظر، لأن طاعة الرسول لا استقلال لها أيضًا دون طاعة الله تعالى، الَّلهم إلا أن يقال: إن طاعته طاعة لله تعالى، لقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ولا كذلك طاعة أولي الأمر، فقد لا تكون طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، لعدم عصمتهم، ولكن على هذا أيضًا لا توجد مستقلة، فتأمل، ومن الأجوبة أيضًا أن الجمع من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فيمتنع من غيره، لأن غيره إذا اجَمَع أوهَم التسوية، بخلافه هو عليه الصلاة والسلام، فإن مَنْصِبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، ومنها أجوبة أخرى.
قوله: "وأن يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا لله" حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر، ولا ينقُص بالجفاء، كما قاله يحيى بن مُعاذ.
وقوله: "وأن يكره أن يعودَ في الكُفْر" زاد أبو نُعيم في "المستخرج" بعد: "إذْ أنْقَذَهُ الله مِنه" وكذا هو في طريق أخرى للمصنف، والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإِسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإِيمان، كما وقع للصحابة، وعلى الأول يحمل قوله:"يعود" على معنى الصيرورة كما في قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] بخلاف الثاني، فإن العود فيه على ظاهره، وإنما عَدّى العَوْد بفي ولم يُعَدِّه بإلى لأنه ضمنه معنى الاستقرار، فكأنه قال: يستقر فيه، على حد قوله تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89].