المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ورَسَموا مُنقطعًا عن رجلِ … وفي الأُصولِ نَعْتُهُ بالمرسلِ أما الذي - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ١

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌تنبيه:

- ‌ كوثر المعاني الدراري، في خبايا صحيح البخاري

- ‌مقدمة في حقيقة الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى

- ‌طبقات الصحابة

- ‌ما قيل في عدَّة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

- ‌بعض ما قيل في فَضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

- ‌بعض الأحاديث الواردة في فضلهم رضي الله عنهم

- ‌ومما هو وارد في فضلهم من الأحاديث:

- ‌الترتيبُ في فضلِ الصَّحابةِ

- ‌في فضل أحد من المتأخرين على أحد من الصحابة

- ‌ما قيل في محبة الصحابة

- ‌ما قيل فيمن سَبَّ الصحابةَ

- ‌الِإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة

- ‌ فروعً

- ‌فيما تُعْرَفُ به الصُّحبة

- ‌في عدالة الصحابة

- ‌في المكثرين رواية وفتوى

- ‌فِيْمَنْ يقالُ لَهُمُ: العبادلة

- ‌فيمن لهم أتباع في الفقه

- ‌فيمن انتهى إليهم العلمُ من الصَّحابةِ

- ‌في عدد الصحابة وطِباقِهم

- ‌في ترتيبهم في الفضل

- ‌في أول من أسلم من الصحابة

- ‌في آخرهم موتًا

- ‌حقيقة التابعين وطبقاتهم

- ‌أفضل التابعين

- ‌الفقهاء السبعة

- ‌المُخَضْرَمونَ

- ‌فائدتان

- ‌نبذة من السيرة النبوية

- ‌ما يُقال فيمن يقال له: قرشي وعلى اشتقاق التسمية

- ‌موت والده عبد الله

- ‌مدة الحمل به ومحل ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌عام ولادته صلى الله عليه وسلم

- ‌الشهر الذي وُلِدَ فيه

- ‌في أي يوم من الشهر ولد

- ‌اليوم الذي ولد فيه

- ‌على أنه ولد ليلًا

- ‌فضل ليلة المولد على ليلة القدر

- ‌إرضاعه صلي الله تعالى عليه وسلم

- ‌رد حليمة له إلى أمه صلى الله عليه وسلم

- ‌موت أمه آمنة صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌موت جده عبد المطلب

- ‌قصة بحيرى الراهب

- ‌قصة نسطورا الراهب

- ‌وقت البعثة

- ‌مخرجه إلى المدينة

- ‌مكثه بمكة بعد البعثة

- ‌قدومه المدينة

- ‌قيامه بالمدينة

- ‌عدد غزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم

- ‌سِنه عليه الصلاة والسلام

- ‌أزواجه عليه الصلاة والسلام

- ‌أولاده عليه الصلاة والسلام

- ‌أسماؤه عليه الصلاة والسلام

- ‌معنى محمَّد

- ‌معنى أحمد

- ‌خاتَم النُّبُوّة

- ‌تنبيه:

- ‌ تعريف البخاري

- ‌زهده وحسن سيرته

- ‌ثناء أشياخه عليه

- ‌ثناء أقرانه وطائفة من أتباعه عليه:

- ‌عجيب حفظه

- ‌فضائِلُ الجامعِ الصحيح

- ‌ما وقع له مع محمَّد بن يحيى الذُّهْلِيّ

- ‌رجوعه إلى بخارى

- ‌مبادئ علم الحديث

- ‌سند المؤلف المتصل بالبخاري

- ‌ كتاب بدء الوحي

- ‌باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌تنبيه:

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌أنواع الرواية:

- ‌الألفاظ التي يؤدي بها السماع من لفظ الشيخ

- ‌أقسام التدليس

- ‌أولها: تدليس الإِسناد:

- ‌والثاني من الأقسام: تدليس الشيخ

- ‌الثالث: تدليس التسوية المعبر عنه عند القدماء بالتجويد

- ‌رواية الأقران

- ‌إبدال الرسول بالنبي وعكسه:

- ‌الغريب

- ‌العزيز

- ‌المشهور

- ‌ المتواتر

- ‌ الفرد

- ‌الحديث الثاني

- ‌وأما رجاله فستة:

- ‌الحديث الثالث

- ‌وأما رجاله فستة

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجالُهُ ثلاثةٌ:

- ‌تنبيه:

- ‌الحديث الخامس

- ‌وأما رجاله فخمسة:

- ‌الحديث السادس

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌الحَديث السابع

- ‌الرجال أربعة:

- ‌ كتاب الإِيمان

- ‌1 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإِسلام على خمس

- ‌2 - باب دعاؤكم إيمانكم

- ‌الحديث الأول

- ‌رجاله أربعة:

- ‌3 - باب أمور الإِيمان

- ‌الحديث الثاني

- ‌رجاله ستة:

- ‌4 - باب المُسلم مَنْ سَلم المسلمون من لِسانِهِ ويده

- ‌الحديث الثالث

- ‌رجاله ستة:

- ‌ورجال التعليقين خمسة:

- ‌5 - باب أي الإِسلام أفضل

- ‌الحديث الرابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌6 - باب إطعام الطعام من الإسلام

- ‌الحديث الخامس

- ‌رجاله خمسة:

- ‌7 - باب من الإِيمان أن يُحبَّ لأخيه ما يُحبَّ لنفسهِ

- ‌الحديث السادس

- ‌ورجال الطريقين ستة:

- ‌8 - باب حُبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإِيمان

- ‌الحديث السابع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثامن

- ‌رجال الإِسناديْن سبعة:

- ‌9 - باب حلاوة الإِيمان

- ‌الحديث التاسع

- ‌رجاله خمسة:

- ‌10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار

- ‌الحديث العاشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌11 - باب

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌12 - باب من الدّين الفِرار مِنَ الفتن

الفصل: ورَسَموا مُنقطعًا عن رجلِ … وفي الأُصولِ نَعْتُهُ بالمرسلِ أما الذي

ورَسَموا مُنقطعًا عن رجلِ

وفي الأُصولِ نَعْتُهُ بالمرسلِ

أما الذي أَرسلهُ الصحابي

فحُكمهُ الوَصْلُ على الصوابِ

وقال في "طلعة الأَنوار":

ومُرْسلُ الأصحابِ قُلْ مُتصِلُ

إذ غالبًا من الصَّحابي يحصلُ

وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي بدء الخلق عن فَرْوة، ومسلم في الفضائل عن أبي بكر بن أبي شَيْبة:

‌الحديث الثالث

3 -

باب *: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ -أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ- أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَلتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3]. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَاّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ- وَكَانَ امْرَأً قد تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ،

ص: 229

وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَاّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.

[الحديث 3 - أطرافه في: 3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982]

قولها: "أولُ ما بُدِىء" -بضم الموحدة وكسر الدال- وهذا الحديث يحتمل أن يكون من مراسيل الصحابة، فإن عائشة لم تدرك هذه القصة، لكن الظاهر أنها سمعت ذلك منه صلى الله عليه وسلم لقولها:"قال: فأَخَذَني، فغَطَّني" فيكون قولها: "أولُ ما بُدِىءَ به" حكايته ما تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا يكون من المراسيل.

وقولها: "من الوَحْي" يحتمل أن تكون تَبْعيْضيَّةً، أي من أقسام الوحي، وأن تكون لبيان الجنس، والرؤيا الصالحة هي التي ليس فيها ضِغْثٌ، ووقع في التفسير "الصادقة".

وقوله: "في النوم" لزيادة الإِيضاح، لأن الرؤيا خاصة بالنوم، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة، لجواز إطلاقها عليها مجازًا، قلت: وقد قيل: إن الرؤيا حقيقة في رؤية العين أيضًا، وعليه تكون في النوم للتقييد لا للإِيضاح، لقول الشاعر يصف صيادًا:

وكَبَّرَ للرُّؤيا وهَشَّ فُؤادُهُ

وبَشَّرَ قَلْبًا كانَ جَمًّا بَلابِلُهْ

وقوله: "مثل فَلَقِ الصُّبح" بنصب مثل، على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو صفة لمصدر محذوف، أي جاءت مجيئًا مثل فلق

ص: 230

الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخُصَّ بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه، وقيل: عبر به لأن شمس النبوة قد كانت مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها، وتم نورها، وإنما بدىء بالرؤيا ليكون ذلك تمهيدًا وتوطئة لليَقَظَة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر عليه، وذلك كله لئلا يَفْجَأَهُ الملك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تحتمل القوى البشرية ذلك، فبُدىءَ بأوائِل خِصال النبوة، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، فيما حكاه البَيْهَقِيّ، وحينئذ يكون ابتداء النبوة بالرؤيا حَصَلَ في شهر ربيع، شهر مولده، عليه الصلاة والسلام، واختلف هل أُوحي إليه من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله في اليَقَظَة.

وقوله: "ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ" بالبناء، لم يُسمَّ فاعِلهُ، لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر. والخلاء بالمد الخلوة؛ وإنما حببت إليه الخلوة، لأن معها فراغ القلب، والانقطاع عن الخَلْق ليجدَ الوحي منه متمكنًا كما قيل:

فصَادَفَ قَلبًا خالِيًا فتَمَكَّنا

وخلوته، عليه الصلاة والسلام، إنما كانت لأجل التقرب، لا على أن النبوة مكتسبة.

وقوله: "وكانَ يَخْلو بغارِ حِراء" -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء والمد، وبفتح الحاء، ويقصر- وهو مصروف إن أُريد المكان، وممنوع إن أُريد البقعة، فهي أربعة، التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وكذا حكم قُباء، وقد نظم بعضهم أحكامهما، فقال:

حِرا وقُبا ذَكِّر وأَنِّثْهُما مَعًا

ومُدَّ واقْصُر واصْرِفَنْ وامْنَعِ الصَّرفا

وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، على يسار الذاهب إلى مِنى، والغار نقب فيه، وإنما خصه بالتعبد فيه دون غيره لمزيد

ص: 231

فضله على غيره، لأنه مُنْزَوٍ مجموع لتحنثه، وينظر منه الكعبة المعظمة، ونظرها عبادة، فكان له، عليه الصلاة والسلام، فيه ثلاث عبادات؛ الخلوة والتَّحَنُّث، والنظر إلى الكعبة، وقيل: إنه هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال له ثَبِير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فاعذرني يا رسول الله.

وقوله: "فيَتَحَنَّث فيه" بالحاء المهملة وآخره مثلثة. وهو من الأفعال التي معناها السلب، أي اجتناب فاعلها لمصدرها، أي يتجنب الحِنْث، أي الإِثم، مثل تأثم وتَحَوَّب، إذا اجتنب الإِثم والحُوب، أو هي بمعنى يَتَحَنَّف -بالفاء- أي يتبع الحنفية، دين إبراهيم، والفاء قد تبدل تاء.

وقوله: "وهو التَّعَبُّدُ" الضمير راجع إلى مصدر يَتَحَنَّثُ، أي والتحنث التعبد على حد قوله تعالى:{عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل، وهذا التفسير للزُّهري مُدرج في الحديث.

وقوله: "الليالي ذوات العدد" الليالي متعلق، بـ "يتحنث" منصوب على الظرفية، وذوات منصوب بالكسرة، صفة لليالي، والمراد الليالي مع أيامهن، واقتُصر عليهن للتغليب، لأنهن أنسب للخَلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإِرادة التقليل، كقوله تعالى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد، وهو المناسب للمقام، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر، لما عند المؤلف، ومسلم:"جاوَرْتُ بِحِراء شَهْرًا"، وعند ابن إِسحاق:"أَنّهُ شَهرُ رَمَضان" ولم يصِحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أكثر منه، وقوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] حجة للشهر، والزيادة إنما كانت إتماما للشهر، حيث استاك، أو أكل فيه، كسجود السهو، فقوي تقييدها بالشهر، وأنها سنة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا، فإن

ص: 232

الاعتزال عن الناس، ولا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، وقيل: كان يتعبد بالتفكر.

ودل الحديث على أن خلوته حكم مرتب على الوحي، لأن كلمة "ثم" للترتيب، فالخلوة مرتبة على الرؤيا الصالحة، التي هي من الوحي، وأيضًا لو لم تكن من الدين، لَنُهي عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق، وظهوره مباركًا عليه، وعلى أمته، تأسيسًا وسلامة من المناكير وضررها؛ وللخَلوة شروط مذكورة في كتب القوم، واختلف هل كان صلى الله عليه وسلم، قبل البعث متعبدًا على شريعة أحد أم لا؟ والثاني هو قول الجمهور، وعلى الأول اختلف فيه على ثمانية أقوال، قيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: بشريعة من قبله من غير تعيين، وقيل جميع الشرائع شَرْعٌ له، وهذا عندي قريب من الذي قبله، ثامنها: الوقف.

وقوله: "قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله" نَزَعَ كرَجَع زنةً ومعنىً.

وقوله: "ويَتَزَوَّد لذلك" بالرفع عطفًا على يتحنث، والتزود استصحاب الزاد.

وقوله: "ثم يرجِعُ إلى خديجة فيَتَزَوَّد لمثلها" وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإِبهام، أو إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة، لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينقطع في الغار بالكلية، بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم، ثم يَخْرُجُ لِتَحَنُّثِهِ. وخديجة يأتي تعريفها.

وقوله: "حتى جاءه الحق وهُو في غار حراء" والحق المراد به الوحي.

وقوله: "فجاءه المَلك" الفاء تفسيرية كهي في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] لأن مجيء الملك تفصيل

ص: 233

للمجمل الذي هو مجيء الحق، والملك هو جبريل، فقد جاءه يوم الاثنين، لسبع عشرة خلت من رمضان، والنبي ابن أربعين سنة، قاله ابن سعد.

وقوله: "فقال: اقرأ" يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتَّيَقُّظ، لما سيُلقى إليه، وأن يكون على بابه من الطلب، فيُسْتَدلُّ به على تكليف ما لا يُطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد.

وقوله: "قال: ما أنا بقارىء" أي ثلاثًا، و"ما" نافية، واسمها "أنا"، وخبرها "بقارىء"، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة، وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وقيل: إنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في "مغازيه" عن عُروة أنه قال: كيف أقرأ؟ ورواية عُبيد بن عُمر: ماذا أقرأ؟ ودخول الباء على الخبر المثبت جائز عند الأخْفَش.

وقوله: "فأخَذَني فغَطَّني حتى بَلَغَ مني الجَهْد" غطني بغين معجمة وطاء، وفي رواية الطَّبري، بتاء مثناة من فوق، يعني: ضَمَّني، وعَصَرني، والغَطُّ: حبس النفس، ومنه غَطَّهُ في الماء، أو أراد غمني، ومنه الخنق. والجَهْد روي بالنصب وفتح الجيم، أي بلغ الغط مني غاية وسعي، ففاعل بلغ على هذا ضمير الغط المفهوم من الفعل السابق؛ وروي بالرفع وضم الجيم، أي بلغ مني الجهد مبلغه، ورجع بعضهم على رواية النصب ضمير فاعل "بلغ" على جبريل، فيكون جبريل بلغ غاية وسعه، وأُورِدَ على هذا أن البنية البشرية لا تتحمل استنفاذ القوة الملكية، وأُجيب بأن جبريل في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى بها في حالة الغط، وحينئذ يضمحل الإِيراد.

وقوله: "فأَرْسَلَني" أي: أطلقني، وهذا الغط ليفرغه عن النظر إلى أمور الدنيا، ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه، وكرره للمبالغة، واستدل به

ص: 234

على أن المُؤدِّبَ لا يضرِب صبيًّا أكثر من ثلاث ضَرَبات، وقيل: الغطة الأولى ليتخلى عن الدنيا، والثانية ليتفرغ لما يوحى إليه، والثالثة للمؤانسة، ولم يذكر هنا في الثالثة الجهد، وذكره في التفسير، وعد بعضهم هذا من خصائصه، عليه الصلاة والسلام، إذ لم يُنْقَل عن أحد من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أنه جرى له عند ابتداء الوحي إليه مثله.

وقوله: فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختص بمقروء عن مقروء، وقوله:{بِاسْمِ رَبِّكَ} حال أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، وهو عند القَسْطَلاني: فيه دليل على أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة، وما قاله غير ظاهر، فإن البسملة لا ذكر لها، والمذكور اسم ربك، وهو يصدق بذكر أي اسم من أسمائه تعالى، كبسم الله، أو الرحمن، أو غير ذلك.

وقوله: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإِطلاق في قوله: {خَلَقَ} أولًا على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئة لقوله:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الزائد في الكرم على كل كريم. وفيه دليل للجمهور على أنه أول ما نزل. وروى أبو عمرو الدّاني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أول شيء نزل من القرآن خمس آيات إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال: {مِنْ عَلَقٍ} ، فجمع ولم يقل من علقة، لأن الإِنسان في معنى الجمع، وخُصَّ الإِنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه، وقال السُّهَيلي: لما قال: ما أنا بقارىء ثلاثًا، قيل له:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي: لا تقرأه بقوتك، ولا بمعرفتك، لكن بحَوْل ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نَزَع عنك علق الدم، ومضمر الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت نكتب بالقلم بعد أن كانت أمية.

وقوله:"فرجَعَ بها" أي: بالآيات أو بالقصة.

ص: 235

وقوله: "يرجُفُ فؤادهُ" بضم جيم "يرجفُ"، أي يخفِق ويَضْطَرِبُ، والفؤاد القلب، أو باطنه أو غشاؤه، لما فَجَأَهُ من الأمر المخالف للعادة، والمألوف، فنفر طبعه البشري، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها.

وقوله: "زَمِّلوني، زَمِّلوني" بكسر الميم مع التكرار مرتين من التزميل، وهو التلفيف، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرِّعدة بالتلفف.

وقوله: "فزَمَّلوهُ حتى ذَهَبَ عنه الرَّوع" بفتح ميم زملوه، والروع -بفتح الراء- الفزع.

وقوله: "لقد خشيت على نفسي" وهذه الخشية اختلف العلماء فيها، فقيل: خشي الموت من شدة الرعب، أو المرض، أو أنه لا يطيق حمل أعباء الوحي لما لقيه أولًا عند لقاء الملك، وليس معناه الشك في أن ما أتى من الله، أو العجز عن النظر إلى الملك من الرعب، أو عدم الصبر على أذى قومه، أو تكذيبهم إياه، أو أن يقتلوه، أو تعييرهم إياه، أو مفارقة الوطن، وأُكِّدَ باللام وقد، تنبيهًا على تمكن الخشية من قلبه المقدس، وخوفه على نفسه الشريفة.

وقوله: "كلّا واللهِ لا يُخْزيكَ الله أبدًا" كلا معناها النفي والإِبعاد، أي لا تقل ذلك، أو لا خوف عليك، ويُخْزيك -بضم أوله وسكون الخاء المعجمة، وزاي مكسورة بعدها مثناة تحتية- من الخِزْي، أي لا يفضحك الله، وروي بالحاء المهملة من الحزن، والزاي مضمومة من الثلاثي، أو بضم أوله من الرباعي، يقال: حُزْنُهُ وأحزانه، ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدًا بأمر استقرائي، فقالت:"إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق". وإنك بكسر الهمزة، لوقوعها في الابتداء، لأنها جواب لسؤال مقدر، كأنها لما قالت ما قالت: قيل لها: وما السبب

ص: 236

فيما أقسمت عليه؟ قالت: إنك

الخ. والرَّحِمْ: القرابة من قبل الأب والأم، والكَلُّ -بفتح الكاف، وتشديد اللام- هو الذي لا يستقل بأمره، قال الله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76].

وتَكسِبُ المعدوم -بفتح أوله- أي تُعطي غيرك المعدومَ الذي لا يجده عندك، بحذف أحد المفعولين، يقول: كسبت الرجل مالًا وأكسبته بمعنى، وروي بضم أوله من الرباعي، وأُورِدَ على هذه أن الذي يكسب هو المعدم لا المعدوم فإنه لا يكسب، وأجيب بأن المعدم يطلق عليه معدوم، يقال رجل عديم لا عقل له، ورجل معدوم لا مال له، كأنهم نزلوا وجود من لا مال له منزلة العدم، وقيا: معناه تكسب المال المعدوم، وتُصيب منه ما لا يُصيب غيرك، وكانت العرب تتمادَحُ بكَسْبِ المال ولا سيما قريشٍ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظًا في التجارة، ولا بدَّ في هذا المعنى من أن يَنْضَمَّ إليه ما يليقُ به من كونه كان مع إفادته للمال ينفِقُهُ في الوجوه التي ذكرت من المكارم، وقد قال أعرابي يمدَحُ إنسانًا: كان أَكسَبَهُم لمعدومٍ وأعطاهم لمحرومٍ. وتَقْري الضَّيْف -بفتح أوله بلا هَمْز من الثلاثي، وسمع ضمه من الرباعي- أي تُهيِّئ له طعامه ونزله.

ونوائب الحق: حوادثه، وهذه الكلمة جامعة لأفراد ما تقدم، ولما لم يتقدم، وإنما قالت: نوائب الحق، لأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد:

نوائِبُ مِنْ خَيرٍ وشَرٍ كِلاهُما

فلا الخَير مَمدودٌ ولا الشَّرُّ لازِبُ

وفي بعض الروايات "وتَصْدُقُ الحديث" وهي من أشرف الخصال، وفي بعضها "وتُؤدي الأمانة" وفيما وصفته به، عليه الصلاة والسلام، جميع أصول مكارم الأخلاق، لأن الإِحسان إما إلى الأقارب أو الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من لا يستَقِلُّ بأمره، أو من يستَقِلُّ، وذلك كله مجموع فيما وصفته به، وإنما أجابته بكلام فيه قسم وتأكيد، بـ "أن" و"اللام" لتزيل حيرته ودهشته، وفيما قالت دليل على أن من طُبِعَ على أفعال الخير لا يُصيبه ضَيْر. وفي القصة استحباب تأنيس من

ص: 237

نزل به أمر بذكر تيسيره عليه، وتهوينه لديه، وأن من نزل به أمر استحب له أن يُطْلِعَ عليه من يَثِقُ بنصحهِ، وصحة رأيه.

وقوله: "فانطلقت به خَديجة حتى أتت به ورقةَ بن نَوْفَلٍ

الخ" انطلقت به أي مضت معه، فالباء للمصاحبة، لأنها تكون مع الفعل اللازم المعدى بالباء، بخلاف المعدى بالهمزة كأذهبته، وورقة بفتح الراء.

وقوله: "ابن عم خديجة" بنصب ابن، ويكتب بالألف وهو بدل من ورقة، أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره، لأنه يصير صفة لعبدِ العُزّى، وليس كذلك، ولا كَتْبُهُ بغير ألف، لأنه لم يقع بين علمين.

وقوله: "وكان امرأً قد تَنَصَّر في الجاهلية" وفي بعض الروايات إسقاط "قد"، أي صار نصرانيًا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نُفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها، يسألون عن الدين؛ فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، كان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ابن مَرْيم، لم يُبَدَّل، ولذلك أخبر بالنبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل، وسيأتي تعريفه قريبا. وأما زيد بن عَمرو فسيأتي خبره في المناقب، ويأتي تعريفه هناك. والجاهلية هي ما قبل الإِسلام من أمور الكفر.

وقوله: "فكان يكتب بالكتابِ العبرانيِّ" -أي الكتابة العبرانية- "فيكتُبُ من الإِنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" أي: يكتبه بحذف العائد. وفي رواية يُونُس ومَعْمر: "ويكتُبُ من الإِنجيل بالعربية" ولمسلم: "فكان يكتُبُ الكتاب العربيَّ" والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني، والكتابة العبرانية، فكان يكتب بالعبرانية، كما كان يكتب بالعربية، لتمكنه من الكتابتين واللسانين، وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه، لأن حفظ التوراة والإِنجيل لم يكن متيسرًا كتيسر حفظ القرآن الذي خُصَّت به هذه الأمة، ولهذا جاء في صفتها: "أناجيلُها

ص: 238

صدورُها". والعِبْرانية بكسر العين نسبة إلى العِبْر -بكسر العين، وسكون الموحدة- وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سُميت بذلك لأن الخليل، عليه الصلاة والسلام، تكلم بها لما عبر الفرات فارًّا من نمروذ، وقيل: إن التوراة عبرانية، والإِنجيل سرياني.

وعن سُفيان: ما نزل من السماء وحيٌ إلا بالعربية، وكانت الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، تترجمه لقومها.

وقوله: "يا ابنَ عَمِّ" هذا النداء على حقيقته، ووقع في مُسلم:"يا عَمّ" وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحًا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد، ومخرجها متحد، فلا يُحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فيتعين الحمل على الحقيقة. وإنما جوز ذلك فيما مضى من العبراني والعربي، لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج، فأمكن التعداد.

وقولها: "من ابنِ اخيكَ" تعني به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، أي فيكون أبوه عبد الله وورقة في عدد النسب إلى قُصَيّ بن كِلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه. وفي الحديث إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه مَنْ يعرف قدره، ممن يكون أقرب منه للمسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة:"اسمع من ابن أخيك" أرادت بذلك أن يتأهب لكلامه، عليه الصلاة والسلام، وذلك أبلغ في التعليم.

وقوله: "يا ابن أخي: ماذا ترى؟ " فيه حذف تقديره فأتت به ورقةَ ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى، فقال: يا ابن أخي .. الخ. ذكره أبو نعيم في "دلائل النبوة".

وقوله: "هذا الناموس الذي نزل على موسى" هذا إشارة إلى الملك المذكور في خبره، عليه الصلاة والسلام، ونَزَّلَهُ منزلة القريب بقرب

ص: 239

ذكره، والمراد به جبريل، وكانوا يسمونه الناموس الأكبر، والناموس صاحب السر مطلقًا، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء، وقيل: هو صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول هو الصحيح "ونَزَّلَ" بتشديد الزاي، وهو يستعمل فيما نُزِّلَ نجومًا. وفي رواية الكُشْمِيْهَنيّ:"أنزل الله"، وهو يستعمل فيما نُزِّلَ جملةً. وفي التفسير: أنزل بالبناء للمفعول، فإن قلت: لم قال: على موسى؟ ولم يقل: على عيسى؟ مع أنه كان نصرانيًا؟ أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام، وكذلك القرآن بخلاف كتاب عيسى، فإنه أمثال ومواعظ، أو لأن موسى بُعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة، أبي جَهل ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقًا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوته.

وقوله: "ياليتني فيها جَذعًا" ضمير "فيها" لمدة النبوة، أو الدعوة، وقيل: إن المنادى محذوف تقديره يا محمَّد، ليتني. وحيث يكون المنادى وحده ليس معه أحد ينادى، كقول مريم:{يَا لَيْتَنِي مِتُّ} [مريم: 23] يقدر أنه جرد شخصًا لنفسه، وخاطبه و"جَذعًا" روي بالرفع على الأصل، وروي بالنصب فقيل: إنه على لغة من ينصب الجزأين بـ "ليت" وأخواتها كما قال الشاعر:

إذا اسْوَدَّ جُنْحُ الليلِ فَلتَأْتِ ولتكن

خُطاك خفافًا إِنَّ حراسَنا أُسْدًا

أو منصوب بكان مقدرة، أو بفعل محذوف جعلت، أو على الحال.

والجَذَع -بفتح الجيم والذال- الصغير من البهائم، واستعير للإِنسان، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإِسلام شابًا حتى يقوى على المبالغة في نُصرته، وبهذا يتبين سر وصفه بأنه كان كبيرًا أعمى. وفي هذا دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل الخير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابًا، وهو محال عادة، والظاهر أن التمني ليس مقصودًا

ص: 240

على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.

وقوله: "إذْ يُخْرِجُكَ قومُكَ" فيه استعمال "إذ" في المستقبل كإذا، على حد قوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] قاله ابن مالك وغيره، وتعقبه البُلْقِينيّ بأنهم منعوا وروده، يعني وروده ورودًا محمولًا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وأولوا ما ظاهره ذلك بأن فيه استعمال الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البُخاري:"حينَ يُخْرِجُكَ قومُكَ" والتحقيق أن في كل من الأمرين ارتكاب مجاز، والمجاز الأخير أولى لما ينبني عليه من إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقًا، أو استحضارًا للصورة الآتية في هذه دون تلك.

وقوله: "أو مُخْرجيَّ هُمْ؟! " -بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها- جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، ولا يجوز العكس، لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، لأن إضافة مُخرجي غير مَحْضة، بل هي لفظية، لأن اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وأصل "مخرجي" مخرجوي، حذفت نون الجمع للإِضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت الياء والواو، وسُبِقَ أحدهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأُدغمت، لقول ابن مالك:

إِنْ يَسكن السابقُ مِنْ واوٍ وَيا

واتَّصلا ومن عَروضٍ عَريا

فياءً الواوَ اقلبنَّ مدِغمًا

والهمزة للاستفهام الإِنكاري، إنه استبعد إخراجه عن الوطن، لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضي ذلك؛ فإنه عليه الصلاة والسلام، كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإِكرامه، وإنزاله منهم محل الروح من الجسد، والجملة عطف على قول ورقة:"إذ يُخْرجُكَ قومُك" وعطف الإنشاء على الخبر جائز عند النحاة. وأهل البيان

ص: 241

يقدرون في مثل هذا التركيب جملة بين الهمزة والواو وهي المعطوف عليها، كما قدره الزَّمَخْشري هنا: أمعادِيَّ هم، ومخرجي هم؟ وعلى ما قالوه تكون الهمزة في محلها الأصلي، وعلى كلام النحاة تكون الهمزة مقدمة عن محلها بعد العاطف خُصَّتْ بهذا التقديم على العاطف مع أنه لا يتقدم عليه جزء مما عطف تنبيهًا على أصالتها في أدوات الاستفهام، وهو له الصدر. نحو {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} [الروم: 9] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} [الأعراف: 185]{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} [يوسف: 109] وقد جاء الاستفهام بغيرها متأخرًا عن العاطف في قوله تعالى {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34]{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]. وقيل: جملة الاستفهام عطف على جملة التمني في قوله: "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك" فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها، وهو من عطف الإِنشاء على الإِنشاء. وأما عطف جملة على جملة في كلام الغير فهو سائغ وارد في القرآن العظيم. قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

-إلى قوله- قَالَ ومِنْ ذْرَيتي} [البقرة: 124].

وقوله: "لم يأتِ رجلٌ قَطُّ" فقط ظرف مستغرق للزمن الماضي، منقول من القَطِّ بمعنى القطع، فإذا قلت: ما رأيتهُ قطُّ فمعناه فيما انقطع من عمري، وبنيت على حركة لأن لها أصلًا في التمكن، لأن أصلها القط، وكانت ضمة، تشبيهًا لها بقبل لدلالتها على ما تقدم من الزمان مثله، والغالب أنها لا تأت إلا بعد النفي، وجاءت نادرًا بعد موجب في قول عمر: قَصَرْنا الصلاةَ معَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أكثَرَ ما كُنّا قَطُّ.

ومنه قول الزبَيْر: "وكان عبد الله أحسنُ رجلٍ رُئِي في قريشٍ قَطُّ". وفيها لغات: قط -بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة، وبفتحها وتشديد الطاء مكسورة، وبفتحها وسكون الطاء، وبفتحها وضم الطاء مخففًا، وبضمها وتشديد الطاء مضمومة- وجمعها ابن بون بقوله:

وقد يُقالُ قَطُّ قُطُّ قَطِّ قَطْ قَطُ

قَطُ وما تَثليثُ عَوْضٍ بالغَلَط

وعَوْض بتثليث الضاد بعكس قط فهي لاستغراق الزمن المستقبل.

ص: 242

وقوله: "إلَّا عُودي" في رواية، في التفسير "إلا أوذي"، فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفاتهم، ولأنه علم من الكتب أن لا يجيبونه لذلك، وأنه يلزمه حينئذٍ منابذتهم ومعاداتهم، فتنشأ العداوة من ثم. وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يُجيب به إذا اقتضاه المقام.

وقوله: "وإِنْ يُدرِكني يومُك" بجزم "يدركني" بـ "أنْ" الشرطية، وفي رواية زيادة:"حيًّا"، وفي رواية:"إن أدركتُ ذلك اليوم"، يعني يوم الإِخراج، ولما كان ورقة سابقًا، واليوم متأخرًا أسند الإِدراك إلى اليوم، لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق.

وقوله: "أَنْصركَ نصرًا مُؤزرًا" أي قويًا، مأخوذٌ من الأَزْر، وهو القوة، يحتمل أن يكون من الإِزار، إشارة بذلك إلى تشميره في ضرته، قال الأخطل:

قومٌ إذا حارَبوا شَدَّوا مَآزِرَهُم

دونَ النساءِ ولو باتت بأطهارِ

وقوله: "ثم لم يَنْشَب ورقة أن تُوفّي، وفَتَرَ الوحي" أي لم يلبَث، فهو كلَبِثَ زنةً ومعنى. وأصل النُّشوب التعلق، أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا يخالف ما في السيرة لابن اسحاق من أن ورقة كان يَمُرُّ ببلال يُعَذَّبُ، وهذا يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة؛ ويمكن الجمع بأن يقال: الواو في قوله: "وفتر الوحي" ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه، لا إلى ما هو الواقع، ويأتي في تعريفه قريبًا جميع ما قيل في شأنه. وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الرَّوعْ، وليحصُلَ له التشوق إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير ما يدُلُّ على ذلك، وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين على ما جَزَم به ابن إسحاق، ورواه أحمد في "تاريخه" عن الشَّعْبِيّ، وفي بعض الأحاديث أنها قدر سنتين ونصف،

ص: 243