الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (1)» أخرجه مسلم أيضا في صحيحه.
(1) صحيح مسلم الجنائز (975)، سنن النسائي الجنائز (2040)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 353).
الحياة في القبر
س: إذا قيل: إن الميت يحيا في القبر، فهل هي نفس حياته الأولى، وكم حاسة ترجع إليه، وإلى كم تبقى حياته في القبر، إذا كان الميت تسأل جثته، فما مصير الذين يحرقون مثل الهندوس واليابان وغيرهم، وأين يتم سؤالهم؟
إن الطبيب عندما يجري العملية يبعد الحواس لدى الإنسان عنه بمخدر. . أما هذا الموت فإني أتساءل كيف هو؟
ج: أولا: ينبغي أن يعلم أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة التصديق بما أخبر الله به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأمور المتعلقة بالآخرة والحساب والجنة والنار، وفيما يتعلق بالموت والقبر وعذابه ونعيمه، وسائر أمور الغيب مما جاء في القرآن الكريم أو صحت به السنة المطهرة، فعلينا الإيمان والتسليم والتصديق بذلك؛ لأننا نعلم أن ربنا هو الصادق فيما يقوله سبحانه وفيما يخبر به جل وعلا لقوله تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (1)،
(1) سورة النساء الآية 122
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1).
ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، فما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، وجب التصديق به، وإن لم نعرف حقيقته.
فالواجب علينا أن نصدق بما جاء به من أمر الآخرة، وأمر الجنة والنار، ومن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وكون العبد في القبر يعذب أو ينعم، وترد إليه روحه، كل هذا حق جاءت به النصوص، فعلى العبد أن يسلم بذلك، ويصدق بكل ما علمه من القرآن، أو صحت به السنة، أو أجمع عليه علماء الإسلام.
ثم إذا من الله على المؤمن والمؤمنة بمعرفة الحكمة في ذلك والأسرار، فهذا خير إلى خير، ونور على نور، وعلم إلى علم، فليحمد الله وليشكره على ما أعطاه من العلم والبصيرة في ذلك، التي من الله عليه بها حتى زاد علمه، وزادت طمأنينته.
أما ما يتعلق بالسؤال في القبر وحال الميت فإن السؤال حق، والميت ترد إليه روحه، وقد صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الميت في قبره غير حياته الدنيوية، بل هي حياة خاصة برزخية، ليست من جنس حياته في الدنيا التي يحتاج فيها إلى الطعام والشراب ونحو ذلك، بل هي حياة خاصة يعقل معها السؤال والجواب، ثم ترجع روحه بعد
(1) سورة النساء الآية 87
ذلك إلى عليين، إن كان من أهل الإيمان، وإن كان من أهل النار إلى النار، لكنها تعاد إليه وقت السؤال والجواب، فيسأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فالمؤمن يقول ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، هكذا يجيب المؤمن والمؤمنة، ويقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ (محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: هو رسول الله، جاءنا بالهدى، فآمنا به وصدقناه، واتبعناه، فيقال له: قد علمنا إن كنت لمؤمنا، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويرى مقعده من النار، ويقال: هذا مكانك لو كفرت بالله، أما الآن فقد أعاذك الله منه، وصرت إلى الجنة.
أما الكافر فإذا سئل عن ربه ودينه ونبيه، فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين: يعني: الجن والإنس، وتسمعها البهائم، فيفتح له باب إلى النار، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويكون قبره عليه حفرة من حفر النار، ويفتح له باب إلى النار يأتيه من سمومها وعذابها، ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويفتح له باب إلى الجنة فيرى مقعده من الجنة، ويقال له: هذا مكانك لو هداك الله.
وبذلك يعلم أن القبر: إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. والعذاب والنعيم للروح والجسد جميعا في
القبر، وهكذا في الآخرة في الجنة أو في النار.
أما من مات بالغرق أو بالحرق أو بأكل السباع: فإن روحه يأتيها نصيبها من العذاب والنعيم، ويأتي جسده من ذلك في البر أو البحر، أو في بطون السباع ما شاء الله من ذلك، لكن معظم النعيم والعذاب على الروح التي تبقى؛ إما منعمة وإما معذبة. فالمؤمن تذهب روحه إلى الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن روح المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، يأكل من ثمارها، والكافر تذهب روحه إلى النار (1)» .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الاطمئنان إلى ما أخبر به الله، وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يصدق بذلك على الوجه الذي أراده الله عز وجل، وإن خفي على العبد بعض المعنى، فلله الحكمة البالغة سبحانه.
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1641)، سنن النسائي كتاب الجنائز (2073)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1449)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 455)، موطأ مالك الجنائز (566).
بحث في الذهب في بعض خصائصه وأحكامه
للشيخ عبد الله بن سليمان المنيع.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد رسول رب العالمين، الهادي إلى الصراط المستقيم، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فالذهب معدن نفيس، استهوى الإنسان منذ القدم بحبه وإيثاره، والافتخار بتملكه، والتزين به، حتى أغراه بعبادته، قال تعالى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (1){فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} (2).
فالذهب معدن نفيس، يتميز عن المعادن الأخرى بميزات طبيعية، تكمن في قدرته على مقاومة عوامل التعرية، وسلامته من التعرض للصدأ، فبمشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ عرفجة بن هرثمة أنفا من ذهب، حينما قطع أنفه في إحدى المعارك مع رسول الله، وبالرغم من حرمة التحلي به على الرجال، فقد أذن
(1) سورة طه الآية 87
(2)
سورة طه الآية 88
في اتخاذ الأسنان منه للرجال للحاجة.
ولوقور محبته في النفس البشرية وإيثاره في حب التملك ذكره الله تعالى في عداد أمور زين للناس حب تملكها، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (1) الآية.
وقد جعله الله في الجنة من وسائل الإنعام والتنعيم، قال تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} (2).
ولما وقر في النفس البشرية من إيثار لهذا النوع من المعادن دون غيره، عدا الفضة وكونهما بعد التملك مظنة البخل بهما وإمساكهما، فقد حذر تعالى من كنزهما دون إنفاقهما في سبيل الله، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3).
ولما في الذهب من تأثير على النفس البشرية من حيث الافتخار والاعتزاز، واعتبار ذلك من مقومات الوجاهة والقيادة والاعتبار، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون وفي معرض إنكارهم رسالة موسى عليه السلام وأن دعواه الرسالة تفتقر إلى ما يسندها من مقومات الاعتبار:{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} (4).
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2)
سورة الحج الآية 23
(3)
سورة التوبة الآية 34
(4)
سورة الزخرف الآية 53
وقال تعالى في معرض الفداء، مشيرا إلى أغلى ما يملكه الإنسان وهو الذهب، وأنه لو ملك منه ملء الأرض لرضي ببذله فداء له، لما حل به من سوء العذاب، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (1). ولما في الذهب والفضة من الإغراء للنفوس البشرية؛ فقد جعلهما الإنسان أكثر إيثارا من غيرهما من المعادن الأخرى في اتخاذ زينته منهما. ولحكمة ربانية تقتضي كبح النفس البشرية عن التجبر والتكبر والطغيان؛ فقد حرم الله تعالى على الرجال اتخاذهما زينة لهم، إلا ما استثني، وذكر صلى الله عليه وسلم تعليل التحريم بأن فيهما كسرا لقلوب الفقراء. ولما فيهما من الإغراء والتمتع بالتزين بهما، ولأن النساء في وضع يقتضي تمكينهن من أسباب تعلق الرجال بهن؛ فقد أباح للنساء اتخاذهما حليا لزينتهن أمام أزواجهن، وحرم ذلك على الرجال، كما حرم تعالى اتخاذ الأواني المنزلية والتحف الجمالية منهما، لما في ذلك من كسر قلوب الفقراء، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وقد أشار تعالى إلى طبيعة النفس البشرية في تمتعها بالذهب، فجعل من تمتع الصالحين من بني آدم في الجنة أن من أدواتهم المنزلية صحافا من ذهب، قال تعالى:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} (2).
(1) سورة آل عمران الآية 91
(2)
سورة الزخرف الآية 71
النشأة التاريخية لاتخاذه ثمنا:
لقد مر على الإنسان حين من الدهر وهو يعاني الإشكال في حصوله على احتياجه من طعام وشراب ومسكن ومركب ونحو ذلك، فهو مدني بطبعه، قليل بنفسه، كثير ببني جنسه، لا يستطيع العيش بدون معونتهم؛ فبالرغم من البساطة التامة في حياته إبان العصور الأولى، فقد كان محتاجا إلى ما عند الآخرين، فإن كان مزارعا فهو محتاج إلى أدوات الحرث والري من الصناع، وإن كان صيادا أو راعي أنعام فهو محتاج إلى بعض الحبوب والثمار من المزارعين. ولا شك أن كل فرد في الغالب يضن ببذل ما عنده لحاجة غيره، ما لم يكن ذلك البذل في مقابلة عوض.
وتحقيقا لعوامل الاحتياج نشأ لديهم ما يسمى بالمقايضة، بمعنى أن الصياد أو مستنتج الأنعام مثلا يشتري حاجته من الإنتاج الزراعي، مما يملكه من لحوم وأصواف وجلود وأنعام وهكذا.
ويعتقد علماء الاقتصاد أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما، إلا أن تطور الحياة البشرية، وما يعترض الأخذ بمبدأ المقايضة من صعوبات أهمها:
(أ) صعوبة التوافق المزدوج بين متبادلين، فصاحب القمح قد لا يجد من يبادله بما هو في حاجة إليه من أدوات الحرث مثلا.
(ب) صعوبة توازن قيم السلع وحفظ نسب التبادل بينها، فلا يمكن قياس كمية من السكر بجزء من السمن أو الشاي أو غيرهما إلا بعناء.
(ج) صعوبة التجزئة، إذ قد تكون الحاجة إلى شيء تافه، فلا يتكافأ هذا الشيء التافه مع ما يرغب فيه من سلعة أخرى.
(د) صعوبة احتفاظ السلع بقيمتها لتكون مستودعا للثروة وقوة للشراء المطلق ومعيارا للتقويم.
كل ذلك أدى إلى الاستعاضة عنها بطريقة يحصل بها التغلب على الصعوبات المشار إليها، فنشأ مبدأ الأخذ بوسيط في التبادل، وليكون في ذلك الوسيط وحدة للمحاسبة، ومقياس للقيم، وخزانة للثروة، وقوة شرائية مطلقة. إلا أن نوعية هذا الوسيط لم تكن موحدة بين الناس؛ فكان للبيئة أثرها في تعيين وسيط التبادل. فالبلاد الساحلية كانت تختار الأصداف نقدا، والبلاد الباردة وجدت في الفراء ندرة تؤهلها لاختيارها وسيطا للتبادل، أما البلاد المعتدلة فنتيجة للرخاء في عيشة أهلها آثروا المواد الجميلة كالخرز والرياش وأنياب الفيلة والحيتان نقودا، ويذكر أن اليابان كانت تستعمل الأرز وسيطا للتبادل، كما كان الشاي في وسط آسيا، وكتل الملح في أفريقيا الوسطى، والفرو في الشمال من أوروبا.
وبتطور الحياة البشرية بمختلف أنواعها من فكرية واجتماعية واقتصادية ظهر عجز السلع وسيطا للتبادل عن مسايرتها هذا التطور الشامل.
هذا العجز يكمن في تأرجح قيم السلع ارتفاعا وانخفاضا، تبعا لمستلزمات العرض والطلب، وأن السلع عرضة للتلف فضلا عن صعوبة حملها، وعن الأخطار التي تصاحب نقلها من مكان إلى آخر.
وفضلا عن ذلك كله، فهناك مجموعة من السلع لا تنسب لها قيمة تذكر بجانب السلع المتخذة وسائط تبادل، كالبيضة والبطيخة والرغيف من الخبز، ونحو هذه المعدودات، مما يحتاجه الجميع دائما.
لذلك اتجه الفكر الاقتصادي إلى البحث عن الاستعاضة عن السلع وسيطا للتبادل بما يسهل حمله، وتكبر قيمته، ويكون له من المزايا والصفات الكيمياوية والطبيعية ما يقيه عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان؛ فاهتدى إلى المعادن النفيسة من ذهب وفضة ونحاس، ووجد فيها أسباب التغلب على الصعوبات التي كانت تصاحب السلع كوسائط للتبادل، فساد التعامل بها ردحا من الزمن على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة. إلا أن اختلاف أنواع هذه المعادن وخصوصا الذهب، أوجد في استعمالها ثغرة كانت ميدانا للتلاعب والفوضى، فليس كل الناس يعرف المادة الأصلية للذهب، وليس كل الناس يعرف المعيار المقبول للتبادل، ثم إن ترك تقدير القطع النقدية وخصوصا فيما له ندرة عالية كالذهب، وإرجاع ذلك إلى الوزن، أوجد فرصا لسرقتها بالتلاعب بوزنها، فضلا عما في كل صفقة بيع من المشقات الناتجة عن وزن المقادير المتفق عليها من المعدن الثمين.
لهذا كان واجبا على ولاة الأمور التدخل في شئون النقد، وحصر الإصدار في الإدارات الحكومية، وأن يكون على شكل قطع مختلفة من النقود المعدنية، لكل منها وزن وعيار معلومان، وأن
تختم كل قطعة بختم يدل على مسئولية الحاكم عن الوزن والعيار.
فتدخل الحكام في ذلك، وأصبحت العمل المعدنية معدودة بعد أن كانت توزن، وصار كل جنس منها متفقا بعضه مع بعض في النوع والمقدار. ويذكر أن أول من ضرب النقود كرويوس ملك ليديا في جنوب آسيا الصغرى في القرن السابع قبل الميلاد. ويقال بأنه يوجد أنموذج من نقوده في المتحف البريطاني.
ثم قام بتقليده غيره من ملوك المماليك المتاخمة لها. وفي ازدهار الحضارة اليونانية اتخذت لنفسها عملة خاصة أطلقت عليها اسم الدراخمة، ومعناها قبضة اليد. ولا يزال هذا الاسم هو اسم العملة اليونانية حتى يومنا هذا، ويقال بأن العرب نقلوا اسم الدراخمة إلى العربية وعربوها باسم الدرهم.
وقد ذكر بعض العلماء أن الذهب والفضة يعتبران أثمانا بالخلقة والطبيعة، سواء في ذلك مسكوكهما وسبائكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن؛ ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال:«جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول صلى الله عليه وسلم الله يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: زن وأرجح (1)» ، ومثله حديث جابر بن عبد الله وبيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه حينما قال:«يا بلال اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2)» . وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فجاء في
(1) سنن الترمذي البيوع (1305)، سنن النسائي البيوع (4592)، سنن أبو داود البيوع (3336)، سنن ابن ماجه التجارات (2220)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 352)، سنن الدارمي البيوع (2585).
(2)
صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309)، صحيح مسلم المساقاة (715)، سنن الترمذي النكاح (1100)، سنن النسائي البيوع (4639)، سنن أبو داود النكاح (2048)، سنن ابن ماجه النكاح (1860)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 314)، سنن الدارمي النكاح (2216).
مجموع الفتاوى ما نصه: (إن الناس في زمن رسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا)(1). اهـ.
والذي يظهر لي أن الأثمان يتم اعتبارها بالاصطلاح، وأن أي شيء يتعارف عليه الناس ويتخذونه ثمنا؛ فيلقى قبولا عاما فهو ثمن يحمل في نفسه مقومات الثمنية: من قبول عام، ومستودع للثروة، ومقياس للقيم.
ولهذا كان أقرب تعريف للنقد وأصوبه تعريفه بأنه كل شيء يلقى قبولا عاما وسيطا للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون.
وقد أشار بعض المحققين من علماء الإسلام إلى هذا. ففي المدونة الكبرى للإمام مالك في كتاب الصرف ما نصه: (ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة). اهـ.
وفي مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا - إلى أن قال - والوسيلة المحضة التي لا
(1) ج19 ص 248.
يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) (1). اهـ.
ففي قوله رحمه الله: (والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت). في قوله هذا إشارة إلى أن النقد هو ما يلقى قبولا عاما كوسيلة للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ.
وذكر لنا سماحة شيخنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله أنه اطلع على نقل عن الغزالي بأنه يرى أن النقد ما تم الاتفاق على اعتباره، حتى ولو كانت قطعة من أحجار أو أخشاب.
وجاء في فتوح البلدان للبلاذري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له: إذن لا بعير فأمسك (2).
وعليه فإننا في شك من صحة ما قيل بأن النقدين الذهب والفضة خلقا للثمنية. وقد يقوى الشك في صحة هذا القول لمن يتم له استعراض الأدوار التاريخية التي مر بها النقد حتى صار إلى ما هو عليه الآن (3).
وبما ذكرنا نستطيع القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء أكان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام، وأن
(1) ج 19 ص 251.
(2)
(فتوح البلدان) للبلاذري ص 578.
(3)
انظر (الورق النقدي) ص26 - 32 لمؤلفه عبد الله المنيع.