الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة:
من النشاطات المصرفية المعتادة والمتكررة لدى المؤسسات المالية الحوالات. والحوالات قد تكون بعملة البلد المحال فيه، كأن يطلب أحد الناس من أحد المصارف تحويل مبلغ من المال بعملة معينة كالريال السعودي أو الدولار الأمريكي، فيدفع للمصرف هذا المال ويطلب منه تحويله إلى بلد معين، فيقوم المصرف بذلك ويعطيه إشعارا بالتحويل إلى ذلك البلد على أحد المصارف أو على فرع من فروعه، هذا النوع من التحويل المصرفي حوالة محضة ليس لها تعلق بمسائل الصرف، وإنما هي من مسائل السفتجة. وقد عرفها بعضهم بقوله:
السفتجة: هي أن يعطي أحد الناس مالا لآخر مع اشتراط القضاء في بلد آخر؛ وذلك لضمان الطريق على سبيل القرض لا على سبيل الأمانة.
وقد اختلف العلماء في حكمها، فجمهورهم قالوا بجوازها مستدلين على ذلك بما روي عن عطاء أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه؛ فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا؛ فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
وروي أيضا مثل هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهؤلاء ثلاثة من أصحاب رسول الله أجازوا ذلك.
ورد المجيزون على المانعين قولهم بأن هذا من قبيل القرض الذي يجر نفعا وكل قرض جر نفعا فهو ربا؛ فإن دافع النقود يستفيد من ذلك أمنه من خطر الطريق - رد المجيزون على ذلك بقولهم:
المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابه، واستعماله، وقبول هديته، ولا مصلحة له في ذلك؛ بخلاف هذه المسألة، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان، فهي من جنس المعاونة والمشاركة.
وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى حيث قال: (والصحيح الجواز؛ لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك، وأمن خطر الطريق. فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض. والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم)(1) اهـ.
وفي مجموع رسائل وفتاوى شيخنا الجليل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ما نصه:
(1) ج 29 ص 531.
(فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منك، المتضمن أنك تقرض من تتولى بيع ماشيته لاستعجاله وتستوفي ما أقرضت مما تقبضه من قيمة ماشيته المباعة بواسطتك حتى تستكمل قرضك وتذكر أنك تتخذ هذه الطريقة لترغيب الجالبين وإيثارهم إياك دون غيرك.
والجواب: الحمد لله، لا شك أن أصل مشروعية القرض واستحبابه التقرب إلى الله في تفريج كرب المحتاجين، وهذا القرض ليس مقصدا من مقاصدك في الإقراض، وإنما غرضك جر منفعة لذاتك، وحيث إن هذه المنفعة لا تنقص المقترض شيئا من ماله فغاية ما في الأمر الكراهة) (1) اهـ.
وقال آخرون بمنعها؛ بحجة أن السفتجة قرض يستفيد منها المقترض أمن الطريق وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وقد تقدم رد هذا الاحتجاج بما يكفي عن إعادته.
وذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: السفتجات حرام. وهو حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فلا يصح الاحتجاج به. والقول بجواز ذلك هو ما تطمئن إليه النفس؛ لما في ذلك من المصلحة العامة، والتيسير على المسلمين في معاملاتهم، وانتفاء الدليل المقنع على المنع، ولأن الأصل في المعاملات الإباحة.
(1) ج7 ص 210 رقم الفتوى 1706.
وقد تكون الحوالة بنقد مغاير للنقد المراد تسلمه في البلد الآخر، فهذا النوع من التحويل يجتمع فيه الصرف والحوالة، ولا يخفى أن للصرف في حالة اختلاف العوضين جنسا شرطا هو التقابض في مجلس العقد. وقد تقرر لدى المجامع الفقهية والهيئات العلمية أن كل عملة ورقية جنس يجوز المصارفة بينها وبين غيرها من عملات الدول الأخرى مطلقا إذا كان يدا بيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فإذا اختلقت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1)» .
وعليه فيجب قبل التحويل إجراء عملية الصرف، بحيث يتسلم المحيل العملة التي يريد تحويلها بعد انتهاء عملية الصرف، سواء أكان تسلما حسيا أو تسلما في معنى الحس، كأن يعطيه شيكا مصدقا يملك بقبضه القدرة على التصرف فيه بتسلم محتواه، أو بقيده في حسابه أو تحويله، فإذا تسلم الشيك المصدق أمكنه بعد ذلك تحويله، وصار الأمر إلى الإجراءات المتخذة في الحال الأولى، وهي تحويل نقد معين إلى بلد أخرى، ولفضيلة الدكتور الشيخ عمر المترك رحمه الله بحث في الموضوع يحسن إكمال بحث مسألتنا بنقل قوله في ذلك. قال رحمه الله: (فإن كان المدفوع للمصرف نقودا ويراد تحويلها إلى نقود من غير جنسها تسلم في مكان آخر، كأن يتقدم شخص إلى مصرف ويسلم نقودا من الريالات السعودية طالبا تسليمها له جنيهات مصرية في مصر أو ليرات في سوريا أو نحو ذلك، فإننا
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن أبو داود البيوع (3349)، سنن ابن ماجه التجارات (2254)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 320).
إذا نظرنا إلى هذه العملية نجد أنها مركبة من صرف وتحويل، ومن شروط الصحة للصرف: التقابض في مجلس العقد ولا تقابض في هذا الصرف؛ لأن الواقع العملي والعادة المتبعة في المصارف أنهم لا يسلمونه المبلغ، وإنما يسلم طالب التحويل للمصرف النقود المطلوب تحويلها فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا مع شيك يتضمن حوالة على مصرف آخر بمبلغ يعادل هذا من النقود المطلوب التحويل إليها دولارات أو جنيهات مصرية؛ فتكون هذه العملية صرفا من غير تقابض وهو غير جائز، إلا أنه يمكن أن يقال إن العرف يعتبر تسليم الشيك بمثابة تسليم النقود في المعنى؛ لأنه في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود؛ لأنه محمي من حيث إن سحب الشيك على جهة بدون أن يكون له رصيد يفي بقيمة الشيك يعتبر جريمة شديدة يعاقب عليها قانونا حتى يطمئن جمهور المتعاملين إلى الثقة الواجب توفرها في الشيك كأداة وفاء؛ لذا فإنه يمكن القول بأن قبض الشيك كقبض مضمونه فيتحقق التقابض بناء على هذا التوجيه.
ولكن خروجا من شبهة الربا والريبة أرى أن يشتري المحيل النقود التي يريد تحويلها من المصرف أو غيره، وبعد قبضها يحيلها، فإن لم يمكن شراء العملة الأجنبية لكونها ممنوعا تصديرها خارج دولتها، فالمخرج أن يشتري عملة من العملات الأجنبية، وبعد قبضها ودفع قيمتها يحيلها، ثم بعد ذلك يصارف
البنك المحالة عليه بالعملة التي يريدها) (1). اهـ.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
(1) الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة ص384.