الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أجيب على سؤال قد يرد وهو: ما علاقة الطواف برمي جمرة العقبة، حتى كان الخلاف في أول وقت الطواف مبنيا على الخلاف في أول وقت رمي جمرة العقبة؟ والجواب على ذلك: أن رمي جمرة العقبة، والذبح، والحلق، والطواف كلها من أعمال يوم النحر. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وأن بعض الصحابة حصل منهم إخلال بهذا الترتيب، فأخذوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما قدموه أو أخروه من أفعال هذه اليوم، فكان يجيبهم صلى الله عليه وسلم:«افعل ولا حرج (1)» . . فكان هذا دليلا على أن أعمال يوم النحر مترابطة.
(1) سيأتي بحث هذه المسألة وتخريج الحديث في المطلب الثالث إن شاء الله
مسألة: أول وقت رمي جمرة العقبة:
اختلف العلماء رحمهم الله في أول وقت رمي جمرة العقبة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أول وقت رمي جمرة العقبة، يبدأ من منتصف
ليلة النحر. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة، وعطاء وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد، وطاوس، والشعبي.
القول الثاني: أن أول وقت الرمي يبدأ من طلوع الفجر الثاني، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية، وإسحاق، وابن المنذر. .
القول الثالث: أن الرمي لا يجوز قبل طلوع شمس يوم النحر. وإلى هذا ذهب مجاهد، وسفيان الثوري، والنخعي، وأبو ثور، والظاهرية (1). .
الأدلة:
1 -
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 -
بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (2)» . . . الحديث. .
(1) انظر المغني 5/ 295، المجموع 8/ 180، فتح الباري 3/ 528، المحلى 7/ 135
(2)
سنن أبو داود المناسك (1942).
صفحة فارغة
صفحة فارغة
وجه الاستدلال من الحديث:
الحديث نص صريح في أن أم سلمة رضي الله عنها رمت جمرة العقبة قبل الفجر، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الرمي، فدل ذلك على جواز الرمي قبل الفجر. قال الشافعي رحمه الله:(وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة قبل الفجر بساعة)(1). .
2 -
وبحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: «أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا؟ قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (2)» . .
وفي رواية لأبي داود، وابن خزيمة:«قلت: إنا رمينا الجمرة بليل؟ قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)» .
(1) الأم 2/ 213
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري في الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل (98) 2/ 178، ومسلم في الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهن 9/ 39. والظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، ثم أطلق على المرأة مطلقا
(3)
أخرجها أبو داود في المناسك، باب التعجيل من جمع 2/ 195 (1943)، وابن خزيمة في صحيحه 4/ 280 (2884)
وفي رواية لمالك والنسائي: «كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك (1)»
وجه الاستدلال منه:
أن صنيع أسماء رضي الله عنها من تعجيل الدفع من مزدلفة، ورميها جمرة العقبة بليل، ثم صلاتها الفجر في منزلها، وإخبارها أنهم كانوا يصنعون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز رمي جمرة العقبة قبل الفجر.
وقد عنون له ابن خزيمة: (باب الرخصة للنساء في رمي الجمار قبل طلوع الفجر).
3 -
وقالوا: إن رمي أم سلمة رضي الله عنها قبل الفجر، صالح لجميع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله. .
4 -
وقالوا: إن منتصف الليل وقت للدفع من مزدلفة، فكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس. .
(1) أخرجها مالك في الموطأ، في الحج، باب تقديم النساء والصبيان 1/ 391، والنسائي في المناسك، باب الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر بمنى 5/ 266 (3050)
2 -
واستدل أصحاب القول الثاني:
1 -
وجه الاستدلال منه:
تقديم ابن عمر رضي الله عنهما أهله إلى منى قرب صلاة الفجر، ورميهم الجمرة فور قدومهم، وإخبار ابن عمر بأن ذلك مما أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل صريح على جواز الرمي قبل طلوع الشمس.
2 -
وبحديث شعبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر (2)» . .
وجه الاستدلال منه:
إخبار ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء 9/ 41 (304)، وابن خزيمة 4/ 279 (2883) واللفظ له
(2)
أخرجه أحمد 12/ 174 من ترتيب المسند، قال في شرحه بلوغ الأماني:(وسنده جيد)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 258:(رواه أحمد، وفيه شعبة مولى ابن عباس، وثقه أحمد وغيره وفيه كلام). وقال عنه الحافظ في التقريب ص146: (صدوق سيئ الحفظ)
به مع أهله إلى منى، وأنهم رموا الجمرة مع الفجر، دليل على صحة الرمي قبل طلوع الشمس. وهذان الحديثان أقوى، وأصرح مما استدل به الأحناف من حديث ابن عباس الذي بعده.
3 -
وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله. صبيحة جمع، أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين (2)» .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن لضعفة أهله بالإفاضة مع أول الفجر، نهاهم أن يرموا الجمرة حتى يصبحوا، فدل ذلك على عدم جواز الرمي قبل الفجر. (فإن قيل): إن الحديث جاء بلفظ: (حتى تطلع الشمس). فالجواب: أن تأخير الرمي إلى طلوع الشمس مستحب، والرمي بعد الفجر وقبل طلوع الشمس جائز جمعا بين الأدلة. .
(1) أورده الكاساني بالمعنى، وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 216، 217.
(2)
الثقل: متاع المسافر وحشمه. انظر القاموس المحيط ص 1256، المصباح المنير 1/ 83 (1)
3 -
واستدل أصحاب القول الثالث:
1 -
بحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس (1)» . .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ضحى، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«خذوا عني مناسككم (2)» . فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.
2 -
بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات فجعل يلطح (4)» . .
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي 9/ 47
(2)
سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(3)
أخرجه أحمد 1/ 234، 311، 343، وأبو داود في المناسك، باب التعجيل من جمع 2/ 194 (1940)، والنسائي في المناسك، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 5/ 270 (3064)، وابن ماجه في المناسك، باب من تقدم من جمع 2/ 1007 (3025)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 217، والبيهقي 5/ 132، كلهم من طريق الحسن العرني عن ابن عباس، وهو لم يسمع من ابن عباس ولهذا مال الحافظ ابن حجر إلى تضعيفه في بلوغ المرام ص 91 فقال:(رواه الخمسة إلا النسائي وفيه انقطاع)، وقال ابن خزيمة في صحيحه عن حديث ابن عباس هذا 4/ 280:(ولست أحفظ في تلك الأخبار إسنادا ثابتا من جهة النقل)، لكن له طرق أخرى يقوي بعضها بعضا، منها ما أخرجه الترمذي في المناسك، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل 2/ 189 (894) من طريق المسعودي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. وقال حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، ولهذا أشار الحافظ في الفتح إلى تحسينه، والألباني إلى صحته. انظر: فتح الباري 3/ 528، إرواء الغليل 4/ 276
(4)
(3). أفخاذنا ويقول: أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم ضعفة أهله نهاهم عن رمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، فدل ذلك على أن رمي جمرة العقبة إنما يبدأ بعد طلوع الشمس.
3 -
وقالوا: إن دخول وقت الرمي بخروج وقت الوقوف، إذ لا يجتمع الرمي والوقوف في وقت واحد، ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر، فوقت الرمي يكون بعده (1). .
4 -
وقالوا: إن وقت الرمي هو وقت التضحية، وإنما يدخل وقت التضحية بطلوع الفجر الثاني، فكذلك الرمي (2). .
5 -
وقالوا: إن الرمي بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع، فهو
(1) انظر: المبسوط 4/ 21
(2)
انظر: المبسوط 4/ 21
أولى مما فيه خلاف (1).
المناقشة:
بالنظر إلى أدلة كل فريق نرى أنه بالإمكان التوفيق بينها، وأنها ليست من التعارض الذي يتعذر معه الجمع بينها، والجمع بين الأدلة - إن أمكن - إعمال للأدلة جميعا، وهو أولى من الترجيح؛ لأنه يقتضي إهمال بعضها.
أولا: الرمي بعد طلوع الشمس هو الأولى؛ لأنه الوقت الذي رمى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى به أغيلمة بني عبد المطلب، وفيه الخروج من الخلاف، وهذا ما دلت عليه أدلة القول الثالث.
ثانيا: أن الرمي قبل طلوع الشمس قد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم، فقول أسماء رضي الله عنها وقد رمت قبل طلوع الشمس بلا ريب:«كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)» .
وقول ابن عمر رضي الله عنه وكان يقدم أهله لصلاة الفجر، ويرمون الجمرة فور وصولهم:«أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)» . أدلة صحيحة صريحة في جواز الرمي قبل طلوع الشمس، فقول الألباني - عفا الله عني وعنه -:(واعلم أنه لا يصح حديث مرفوع صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص بالرمي قبل طلوع الشمس للضعفة. .) الإرواء 4/ 276. ولا إخاله يعد هذه أحاديث موقوفة، وهي صريحة في المراد. ولهذا لم يذهب ابن القيم رحمه الله إلى ما ذهب إليه الألباني، بل ذهب إلى الجمع بينها بأن النهي عن
(1) انظر: المغني 5/ 294. .
(2)
صحيح البخاري الحج (1679)، سنن النسائي مناسك الحج (3050)، سنن أبو داود المناسك (1943)، موطأ مالك كتاب الحج (889).
(3)
صحيح البخاري الحج (1676)، صحيح مسلم الحج (1295).