الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه جمهور العلماء: أن تأخير طواف الزيارة، لا يوجب دما، ولو بعد مضي أيام النحر، أو انقضاء شهر ذي الحجة. وذلك لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والأصل براءة الذمة، وعدم إلزامها بشيء حتى يرد الشرع به. والقول: بأن الطواف مؤقت بأيام النحر، أو بشهر ذي الحجة غير مسلم؛ لأنه لو كان مؤقتا بذلك لما صح أداؤه بعد انقضاء وقته، كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار فهذه المناسك لما كانت مؤقتة بزمن لم يصح أداؤها بعد مضي زمنها. وأما القول: ببطلان الحج إذا لم يطف حتى انقضى شهر ذي الحجة، فلا أعلم أحدا قال به غير ابن حزم، وهو منازع في المراد بالأشهر المعلومات (1). (والله أعلم).
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن 2/ 405 المغني 5/ 110 المجموع (7/ 145)
المطلب الثالث: ماذا يترتب على طواف الإفاضة
؟:
أعمال يوم النحر أربعة هي: الرمي، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة. ولا خلاف بين العلماء أن السنة في ترتيب هذه الأعمال أن يبدأ بالرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف،
لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه حديث أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق خذ. . . . (1)» قال الطبري: (في الحديث دلالة على استحباب الترتيب، بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق)(2).
وفي هذا المطلب سأتناول ماذا يترتب على طواف الإفاضة في مسألتين:
إحداهما: ماذا يترتب على تقديمه على أفعال يوم النحر؟
الثانية: ماذا يترتب على فعله من التحلل؟
مسألة: ماذا يترتب على تقديم طواف الإفاضة على أفعال يوم النحر:
أشرت إلى أن السنة تأخير طواف الإفاضة بعد الرمي، والنحر، والحلق. فهل يجوز تقديمه على بقية أعمال هذا اليوم؟ وهل يلزمه إذا قدمه عليها شيء أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز تقديم الطواف على بقية الأعمال، إلا أنه خلاف السنة، ولا يلزم من قدم الطواف على بقية الأعمال
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب السنة يوم النحر 9/ 52.
(2)
القرى لقاصد أم القرى للطبري ص 453.
شيء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وداود، وأبو ثور، وعطاء، وإسحاق، ومجاهد، وطاوس.
القول الثاني: أنه يجب تقديم الرمي على الإفاضة، فلو طاف قبل الرمي فعليه هدي. وبه قال مالك. .
القول الثالث: أن تقديم الرمي على الإفاضة واجب، فلو طاف قبل الرمي فطوافه غير صحيح. وهي رواية عن مالك. .
القول الرابع: أنه يجب الترتيب بين أعمال يوم النحر، فمن قدم منها شيئا أو أخره، عالما متعمدا فعليه دم. وبه قال أحمد في رواية، وهو قول سعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وقتادة، والنخعي (1). .
الأدلة:
1 -
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 -
بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، إني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج " وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، قال: فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال: " افعلوا ولا حرج»
(1) انظر المغني 5/ 322، الفروع 3/ 515، وهي اختيار أبو بكر الأثرم، الإنصاف 4/ 42، القرى للطبري ص 467
متفق عليه. أخرجه، وفي رواية لمسلم:«أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: " فاذبح ولا حرج " قال: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج (1)» . .
2 -
وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح، والحلق، والرمي، والتقديم، والتأخير فقال: لا حرج (2)» متفق عليه. وفي رواية للبخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: "لا حرج" فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: " اذبح ولا حرج" قال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: لا حرج (3)» .
وجه الاستدلال منهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن تقديم أعمال يوم النحر بعضها على بعض، وفي كلها كان يقول:«افعل ولا حرج (4)» فدل ذلك على عدم وجوب الترتيب بينها، وأنه لا يلزم بتقديم بعضها على بعض دم، وقد شمل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السؤال عن أربعة أمور هي:
(1) أخرجها مسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري 9/ 56
(2)
أخرجه البخاري في الحج باب إذا رمى بعد ما أمسى (130) 2/ 190، ومسلم في الحج باب جواز تقديم الذبح 9/ 57.
(3)
أخرجها البخاري في الباب المشار إليه (130) 2/ 190.
(4)
صحيح البخاري العلم (83)، صحيح مسلم الحج (1306)، سنن الترمذي الحج (916)، سنن أبو داود المناسك (2014)، سنن ابن ماجه المناسك (3051)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 202)، موطأ مالك الحج (959)، سنن الدارمي المناسك (1907).
1 -
الحلق قبل الذبح.
2 -
والحلق قبل الرمي.
3 -
والنحر قبل الرمي.
4 -
والإفاضة قبل الرمي (1).
2 -
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
بأثر ابن عباس رضي الله عنهما (من قدم شيئا من حجه أو أخره، فليهرق لذلك دما).
وجه الاستدلال منه:
أن من قدم الإفاضة على الرمي فقد قدم نسكا يجب تأخيره، على نسك يجب تقديمه، فعليه دم.
3 -
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
- بأثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول فيمن أفاض قبل أن يحلق: (يرجع فيحلق أو يقصر، ثم يفيض)(2).
(1) وقد أشار الحافظ في الفتح 3/ 571، إلى صور أخرى جاء السؤال عنها في بعض الأحاديث فانظر.
(2)
انظر القرى للطبري ص 469، المغني 5/ 323.
وجه الاستدلال منه:
أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأمر من عجل الإفاضة عن وقتها بإعادتها، وهذا دليل على عدم صحتها وإجزائها.
4 -
واستدل أصحاب القول الرابع بما يلي:
1 -
بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1). .
وجه الدلالة من الآية:
أن الله سبحانه وتعالى نهى عن الحلق قبل نحر الهدي، فدل ذلك على وجوب تقديم النحر على الحلق.
2 -
بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذوا عني مناسككم (2)» . . .
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أفعال يوم النحر وأمر بأن يقتدى به في أفعال المناسك، فدل على أن الترتيب بينها واجب، وأن الإخلال بذلك موجب للدم.
3 -
وبحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم في أدلة الفريق الأول؛ إذ جاء فيه السؤال مقيدا بعدم العلم أو بعدم التعمد؛ لأن السائل كان يقول: لم أشعر). فيحمل
(1) سورة البقرة الآية 196
(2)
جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9/ 44.
الحديث المطلق على المقيد، وذلك دليل على التفريق بين الجاهل والناسي وبين العالم والعامد.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح؟ فقال: إن كان جاهلا، فليس عليه، فأما التعمد فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل، فقال: لم أشعر. قيل لأبي عبد الله: سفيان بن عيينة لا يقول: لم أشعر. فقال: نعم، ولكن مالكا والناس عن الزهري: لم أشعر (1). .
الرأي المختار:
الذي أختاره هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول: أن الأولى ترتيب أعمال يوم النحر كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف، اتباعا للسنة، وخروجا من الخلاف، لكن لو قدم الإفاضة على أعمال ذلك اليوم فلا شيء عليه، لما يلي:
1 -
أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قد تضمن السؤال عن أربعة أشياء، ومنها تقديم الإفاضة على الرمي. وفي كلها يقول صلى الله عليه وسلم:«لا حرج (2)» . ونفي الحرج مع عدم الإخبار بوجوب شيء آخر دليل على نفي الإثم، وغيره كوجوب الدم، أو الإعادة؛ إذ لو كان شيئا من
(1) انظر: المغني 5/ 322
(2)
صحيح البخاري الحج (1721)، صحيح مسلم الحج (1307)، سنن النسائي مناسك الحج (3067)، سنن أبو داود المناسك (1983)، سنن ابن ماجه المناسك (3050)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 291).
ذلك يجب عليه لبينه؛ لأن الوقت وقت الحاجة للبيان. .
2 -
وأما القول: بأن ذلك خاص بالجاهل، والناسي لقوله في الحديث:(لم أشعر). فالجواب عنه: أن الروايات دلت على أن السؤال عن التقديم والتأخير لم يكن من شخص واحد، بل من أناس متعددين، فلا يلزم من إخبار بعضهم بعدم شعوره، أن جميعهم لم يشعروا بذلك، بل إن إخبار الراوي بعموم رفع الحرج فيما قدم أو أخر، دليل واضح على هذا المراد، كقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في آخر الحديث:«فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج (1)» .
3 -
وأما الاستدلال بالآية، فقد أجيب عنه: بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي ذبحه فيه، وقد حصل. وإنما يتم له ما أرا د لو قال: ولا تحلقوا حتى تنحروا (2).
4 -
وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (من قدم أو أخر
(1) وأجاب بعضهم بقوله: بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف، فإنه لو سعى قبل أن يطوف، وجب عليه إعادة السعي. انظر: القرى للطبري ص 468، فتح الباري 3/ 572.
(2)
انظر: فتح الباري 3/ 571، 572.