الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: حكم الطواف بغير بيت الله العتيق:
سبقت الإشارة إلى أن الطواف ببيت الله العتيق مما أمر الله به عباده وتعبدهم به (1)، بل جعل بناء الإسلام قائما عليه، فالحج أحد أركان الإسلام الخمسة، كما دل على ذلك قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (2).
وحديث عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان (3)» متفق عليه.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا (4)» . . . الحديث.
ولا يتم الحج إلا بالطواف - أعني طواف الإفاضة - للإجماع
(1) قال السرخسي في المبسوط 4/ 37: (والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية)
(2)
سورة آل عمران الآية 97
(3)
أخرجه البخاري في الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" بني الإسلام على خمس "(1) 1/ 8. ومسلم في الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام 1/ 177.
(4)
أخرجه مسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر 9/ 100.
على أنه ركن من أركان الحج لا يتم إلا به (1). ولم يأمر الله جل وعلا عباده بالطواف بغير بيته العتيق.
وبهذا يعلم أن الطواف بغير بيت الله العتيق كالطواف على القبور والأضرحة لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن يكون قصده من هذا الطواف التقرب إلى الله جل وعلا معتقدا أن ذلك مما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهذا ابتداع في دين الله وضلالة عن طريق الهدى والرشاد، ومنكر عظيم يجب التحذير منه.؛ لأنه مفض إلى الأمر الثاني. ذلك أن الله جل وعلا قد أكمل دينه الذي ارتضاه لعباده فما من شيء يقرب إلى الله سبحانه وتعالى إلا وقد أبانه ودل عليه رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق
(1) تقدمت الإشارة إليه في المطلب الذي قبله
(2)
سورة المائدة الآية 3
وصدق، لا كذب فيه ولا خلف) (1).
ويقول ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه) (3).
وقد حذر الله عباده أن يسلكوا طريق الأمم السابقة فيحلوا ويحرموا من تلقاء أنفسهم، أو يشرعوا من أنواع العبادات والقراءات ما لم يأذن به الله وإنما حسنته أهواؤهم وزينته عقولهم، فقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد التحذير لأمته من سلوك هذه الطريق الذي سلكته الأمم السابقة، وذلك لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة لن تخطئ سنن من قبلها، بل ستدخل مداخلها، وتسلك طرقها، وتسير على منوآله ا، كما أخبر بذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (5)» متفق عليه.
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 13.
(2)
سورة المائدة الآية 3
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 2/ 115.
(4)
سورة الشورى الآية 21
(5)
أخرجه البخاري في الاعتصام بالسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لتتبعن سنن من كان قبلكم " 8/ 151، ومسلم في العلم، 16/ 219.
فكان عليه الصلاة والسلام يحذر أمته من البدع في الدين، والتعبد بما لم يشرعه رب العالمين، كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه:«. . . وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1)» .
بل كان عليه الصلاة والسلام يحذر من ذلك دائما في خطبه، إذ يقول فيها:«أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2)» .
ومما سبق يعلم: أن الطواف بغير بيت الله العتيق، تعبدا لله، وتقربا لله جل وعلا يعد بدعة وضلالة.
الثاني: أن يكون الطواف بتلك القبور والأضرحة والمشاهد، تقربا لأصحابها رجاء نفعهم، أو خوف ضرهم. وهذا
(1) أخرجه أحمد 4/ 126، 127، وأبو داود في السنة، باب في لزوم السنة 4/ 200 (4607)، والترمذي في العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 4/ 149، 150 (2816) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين 1/ 15 (42)، والدارمي 1/ 44، 45. والحاكم 1/ 97، وابن حبان كما في الموارد ص56 (102).
(2)
أخرجه مسلم في الجمعة، باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة 6/ 153، من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم. . .) الحديث.
ما يحصل من بعض المنتسبين إلى الإسلام. إذ تجد بعضهم يقصد تلك الأماكن وهو يرجو نفعها أو يخاف نقمتها، فيقدم لها النذور والقرابين، ويقيم عندها، ويطوف بها. ويقبل أعتابها، ويستلم أركانها، ويتمسح بجدرانها، داعيا وراجيا، ومستغيثا ومستجيرا. ولا شك أن هذا من أخطر الأمور، لأن في هذا الصنيع صرفا لعبادة أمر الله عباده بها، وقد أخبر سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن دعوة الأنبياء جميعا اتفقت على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2).
فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله جل وعلا فقد عبد غير الله، وأشرك في عبادته مع الله، وهذا أظلم الظلم، وأعظم الذنوب وأخطرها، كما قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه:{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3). ولما «سئل عليه الصلاة والسلام عن أعظم الذنوب قال: أن تجعل لله
(1) سورة البينة الآية 5
(2)
سورة الأنبياء الآية 25
(3)
سورة لقمان الآية 13
ندا وهو خلقك (1)» فإذا كان الله جل وعلا تفرد بالخلق والإيجاد، والرزق والإنعام، كان حقا على العباد أن يفردوه بالعبادة وحده دون أحد سواه.
ولما كان الشرك بهذه المثابة من الخطورة والعظم، أخبر سبحانه أنه محبط للأعمال الصالحة مهما عظمت أو كثرت، قال تعالى مخاطبا نبيه عليه الصلاة والسلام وغيره تبع له في هذا الخطاب:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2){بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3) وكما أخبر أنه من مات وهو مشرك فقد حرم رحمة الله ومغفرته، واستحق دوام غضبه ونقمته، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (4).
وبهذا يعلم: أن الطواف بغير بيت الله العتيق من أخطر الذنوب، وأعظم الآثام. وأن من أوجب الواجبات على المسلمين عامة، وعلى علمائهم خاصة أن يحذروا الواقعين في
(1) جزء من حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة، باب قوله تعالى:(فلا تجعلوا لله أندادا) و (3) 5/ 148، وفي الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (20) 7/ 75، وفي الحدود، باب إثم الزناة (20) 8/ 21، وفى التوحيد، باب قول الله تعالى:(فلا تجعلوا أندادا) و (40)207. ومسلم في الإيمان، باب الشرك أقبح الذنوب 2/ 79، 80.
(2)
سورة الزمر الآية 65
(3)
سورة الزمر الآية 66
(4)
سورة النساء الآية 48