الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث: أن يستحكم الغضب بصاحبه ويشتد به فهو قد تعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره، فهذا موضع الخلاف محل النظر.
المبحث الأول:
حكم طلاق الغضبان:
اختلف العلماء في طلاق الغضبان على التفصيل السابق على قولين:
- فذهب الأحناف وبعض الحنابلة أن طلاق الغضبان لغو لا عبرة به.
- وذهب المالكية والحنابلة أن طلاق الغضبان واقع معتبر.
الأدلة:
استدل الأحناف ومن وافقهم بعدة أدلة:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1)» . والإغلاق يتناول الغضبان؛ فإنه قد انغلق عليه رأيه (2).
2 -
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (3) قال ابن عباس: (لغوا اليمين أن تحلف وأنت غضبان) فلما رفع
(1) سبق تخريجه وهو حديث حسن
(2)
مشارق الأنوار للقاضي عياض (1/ 134) وقد سبقت الإشارة إليه.
(3)
سورة البقرة الآية 225
الله المؤاخذة عن الغضبان فيما تلفظ به علمنا إلغاءه لكلامه ومنه طلاقه (1).
3 -
قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (2) وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق ونحوه هو من نزغات الشيطان، فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا فلا يترتب عليه حكمه (3).
ويدل عليه حديث عطية السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الغضب من الشيطان (4)» .
4 -
حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين (5)» .
فإذا كان النذر الذي أثنى الله على من أوفى به قد أثر الغضب في انعقاده؛ لكون الغضبان لم يقصده فالطلاق أولى
(1) طلاق الغضبان ص (32).
(2)
سورة الأعراف الآية 200
(3)
طلاق الغضبان ص (35).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب (الآداب)، باب ما يقال عند الغضب برقم (4774)، وأحمد في مسنده (4/ 226.).
(5)
أخرجه النسائي في سننه، كتاب (الأيمان والنذور)، باب كفارة النذر برقم (3841) وما بعده، وأحمد في مسنده (4/ 433، 440) وغيرها. والحاكم في مستدركه (4/ 305)، والبيهقي في (سننه)(10/ 70). ومداره على محمد بن الزبير وهو متروك، التقريب (2/ 161)، التهذيب (9/ 167). فهو حديث ضعيف جدا، وضعفه الألباني في الإرواء (8/ 211).
وأحرى (1).
5 -
حديث أبي بكرة مرفوعا: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان (2)» ، ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينه عن الحكم حال الغضب، فدل على نفي القصد فيبطل قوله ومنه طلاقه (3).
6 -
أن السكران بسبب مباح طلاقه غير واقع؛ لأنه غير قاصد للطلاق، ومعلوم أن الغضبان كثيرا ما يكون أسوأ حالا من السكران (4).
المناقشة:
1 -
أما حديث عائشة رضي الله عنها في الإغلاق فإنه خارج محل النزاع؛ إذ هو في الإغلاق، والإغلاق ليس هو محض الغضب. قال ابن القيم:(قال شيخنا: الإغلاق انسداد باب العلم والقصد عليه)(5) وهذا طلاقه غير واقع بالاتفاق وهو الحالة الثانية من تقسيم الطلاق.
(1) طلاق الغضبان ص (41).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الأحكام)، باب هل يقضي القاضي وهو غضبان برقم (7158)، ومسلم في صحيحه، كتاب (الأقضية)، باب كراهه قضاء القاضي وهو غضبان (1717)، والترمذي في جامعه، كتاب (الأحكام)، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان رقم (1324)، وأحمد في مسنده (5/ 52 - 182).
(3)
طلاق الغضبان ص (43).
(4)
طلاق الغضبان ص (45).
(5)
تهذيب السنن (6/ 187).
أما تفسير ابن عباس فغير صحيح. قال ابن رجب: (لا يصح إسناده)(1)، هذا وقد نقل عنه في تفسير الآية غير ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/ 268) عن سعيد بن جبير عنه أن لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك، قال ابن رجب:(صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة).
3 -
أما القول بأن ما يتكلم به الغضبان هو من نزغات الشيطان فلا يترتب عليه حكمه، فهذا غير صحيح فإن معناه أن ما كان أثرا لنزغات الشيطان فلا حكم له، وهذا ظاهر البطلان فإن غالب معاصي ابن آدم وسيئاتهم إنما هي من نزغات الشيطان ووساوسه، أعاذنا الله وإياكم منها.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال، فلولا أنه مكلف مؤاخذ لما أمر بذلك، والله تعالى أعلم.
4 -
وأما حديث عمران فهو ضعيف كما سبق.
5 -
وأما حديث أبي بكرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلف الحاكم حال غضبه
(1) جامع العلوم والحكم ص (149).
فدل على عدم خروجه عن التكليف؛ ثم إن الحكم يرتبط بحق الغير وليس كالطلاق فإنه مختص باللافظ فقط.
6 -
وأما قياسه على السكران فهو صالح للمرتبة الثانية دون ما نحن بصدده؛ وذلك لأن السكران غير عالم بما يقول. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) وتقدم أن صاحب المرتبة الثانية هو من بلغ به الغضب نهايته فأزال عقله حتى لا يعلم ما يقول، والله تعالى أعلم.
وقد استدل المالكية والحنابلة لقولهم بما يلي:
1 -
عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر، وإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تشكوا إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة في قصة طويلة.
فهذا الرجل ظاهر في غضبه فألزم بالكفارة ولم يلغه؛ لكونه غضبانا والظهار كالطلاق (2).
2 -
عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت
(1) سورة النساء الآية 43
(2)
انظر: جامع العلوم والحكم ص (149)، وزاد المعاد (5/ 325).
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قالت: إنه لم يرد الطلاق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» ، وذكر القصة وفي آخرها قال:«فحول الله الطلاق فجعله ظهارا (1)» .
قال ابن رجب في جامعه ص (149): (فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال: إنها حرمت عليه بذلك، يعنى لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة ولم يلغه).
وقد يرد على الحديثين اعتراض بأن المراد به الحالة الأولى حيث يكون الغضب في مبادئه، فأقول: قد ورد الحديث بذكر الغضب مطلقا عاما؛ إذ إنه لم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فتدخل الحالات الثلاث فيه، ويكون كل من طلق في غضب ألزم بطلاقه، وخص الإجماع الحالة الثانية حين يبلغ الغضب أشده فتخرج، وتبقى الحالتان الأخريان مرادتين بهذا الحديث.
3 -
ما روي عن مجاهد عن ابن عباس أن رجلا قال له: إني
(1) أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير (4/ 321)، ابن جرير (28/ 5)، والبيهقي (7/ 392). وله شاهد عن ابن عباس عند البيهقي أيضا.
طلقت امرأتي ثلاثا وأنا غضبان. فقال: ابن عباس لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك.
4 -
قول الحسن: (طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرا من غير جماع، وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض، فإن بدا له أن يراجعها كان أملك بذلك، فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، ما يذهب غضبه)(1).
5 -
أن القاعدة الفقهية تقول: (دلالة الأحوال تختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها، وتترتب عليها الأحكام بمجردها)(2).
قال ابن رجب في قواعده: (يتخرج على القاعدة مسائل منها: كنايات الطلاق في حالة الغضب والخصومة لا تقبل دعوى إرادة غير الطلاق بها) اهـ.
وفيما ذكره خلاف ذكره صاحب المغني (10/ 360) وهذا في كنايات الطلاق، ففي صريحه أولى وأحرى، قال في المغني: (والغضب هاهنا يدل على قصد الطلاق فيقوم
(1) أخرجه القاضي إسماعيل كما في جامع العلوم والحكم (ص 149).
(2)
القواعد لابن رجب ص (322)، القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة.