الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه بعض المآخذ على هذا القول في وجه الإعجاز في الأحرف المقطعة، ونرى أنها مع ما نقلناه من ردود أخرى كافية لرده، والله أعلم.
القول الرابع: أن وجه الإعجاز في أعداد الحروف (حساب الجمل)
.
وبيان ذلك عند أصحاب هذا القول أن مجموع أعداد الحروف المقطعة في كل سورة ترمز إلى تاريخ وقوع حادثة غيبية كواقعة من الوقائع أو مدة هذه الأمة أو مدد أقوام أو آجالهم.
وهي طريقة حسابية أدخلها اليهود وتلقوها عن سحرة بابل ويستخدمها السحرة والمنجمون والكهان في طلاسمهم ورموزهم، كما استعملها عدد من الأدباء في تاريخ بعض الأحداث والوقائع نظما أو نثرا.
أما في التفسير فإن هذا القول ينسب إلى أبي العالية (1) وإلى
(1) المحرر الوجيز: ابن عطية، ج1 ص 39، وتفسير الرازي، ج 2 ص 6، والبيضاوي، ج1 ص 44.
الربيع بن أنس الذي روى عنه الطبري قوله: (وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم. . .)(1)، ولعل محمد بن السائب الكلبي هو المراد بقول الطبري:(وقال بعضهم هي حروف من حساب الجمل - كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه - إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله)(2)، وليست هذه العبارة من الطبري بذم لهذا القول؛ إذ هو ممن يقول به. . . فقد قال:(والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع. . . إلخ)(3)، وقال في موضع آخر:(. . . وهن من حروف حساب الجمل)(4)، يعنى الأحرف المقطعة، وقال السهيلي:(لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة)(5).
واستدل القائلون بهذا الرأي بدليل عقلي ودليل نقلي:
أما الدليل العقلي فقالوا: لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل، وسوى تهجي قول القائل: ألم، قالوا: وغير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمون ويعقلون عنه، فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله: ألم لا
(1) تفسير الطبري: ج1 ص 208.
(2)
تفسير الطبري، ج1 ص 220.
(3)
تفسير الطبري، ج1 ص 222.
(4)
تفسير الطبري، ج1 ص 220.
(5)
الإتقان: السيوطي، ج 2 ص 14، وانظر الروض الأنف: السهيلي، ج4 ص419، 420.
يعقل لها وجه توجه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادا بها تهجي ألم صح وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل، لأن قول القائل: ألم لا يجوز أن يليه من الكلام {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (1) لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول، إن ولي ألم (2) ذلك الكتاب.
وأما النقلي: فبما رواه محمد بن إسحاق في السيرة قال: (وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليلبسوا الحق بالباطل - فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله بن رئاب - أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة البقرة: {الم} (3){ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (4) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: (تعلموا والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه {الم} (5){ذَلِكَ الْكِتَابُ} (6) فقالوا: أنت سمعته؟ فقال: نعم. فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك: {الم} (7){ذَلِكَ الْكِتَابُ} (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، قالوا: أجاءك بها جبريل من عند الله؟ فقال: نعم، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أكل (9) أمته غيرك،
(1) سورة البقرة الآية 2
(2)
جامع البيان: الطبري، ج1 ص 216.
(3)
سورة البقرة الآية 1
(4)
سورة البقرة الآية 2
(5)
سورة البقرة الآية 1
(6)
سورة البقرة الآية 2
(7)
سورة البقرة الآية 1
(8)
سورة البقرة الآية 2
(9)
الأكل، بالضم الرزق والطعام ويريد بأكل أمته طول مدتهم.
وقال حيي بن أخطب وأقبل على من معه فقال لهم: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة!! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: ألمص قال: هذه والله أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد ستون فهذه إحدى وستون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم: الر قال: هذه والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتان، وهل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم: ألمر قال هذه والله أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1)، (2).
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2)
سيرة ابن هشام، ج 2 ص 194 - 195.
قال السهيلي: (وهذا القول من أحبار اليهود وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم)(1).
وقد رد المنكرون لهذا القول على أدلتهم، فقالوا عن الدليل العقلي: إن قصر المراد من الفواتح على وجهين (التهجي، وحساب الجمل) غير مسلم، فالأقوال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض، وإذا سلمنا جدلا بقصر المراد على هذين الوجهين فأنى لهم إبطال الأول منهما وقد قال به جمهرة من المفسرين، ثم أنى لهم تعين الثاني وليس له مستند من النقل ولا من العقل (2).
أما الدليل النقلي فقد رده المنكرون من ناحية السند ومن ناحية المتن.
أما السند: فقد قال ابن كثير: فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به (3)، وقال الشوكاني سنده ضعيف (4)، وقال الأستاذ أحمد شاكر:(فهذا إسناد ضعيف جهله ابن إسحاق فجاء به معلقا بصيغة التمريض. . .)(5) والعجيب أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى
(1) الروض الأنف: السهيلي، ج4 ص 418، 419.
(2)
مختصر البيان: د. حسن عبيدو، ص 44.
(3)
تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(4)
فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص 31.
(5)
تفسير الطبري: ج1 ص 218 الهامش.
قد استدل بهذا الحديث مع وصفه لمحمد بن السائب الكلبي بأنه ممن لا يجوز الاحتجاج بنقله (1) قال الأستاذ شاكر: (فكان عجبا منه - يعني الطبري - بعد هذا أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة ويرضى هذا التأويل المستنكر بحساب الجمل)(2).
أما المتن: فقد قال البيضاوي: (والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه السلام تبسم تعجبا من جهلهم)(3) وقال ابن كثير عن هذا الحديث: (. . . وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. . . وقال: (. . . ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم)(4) وقال الشوكاني: (فانظر ما بلغت إليه أفهامهم - يعني اليهود - من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع {الم} (5){ذَلِكَ الْكِتَابُ} (6) من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل
(1) تفسير الطبري، ج1 ص 66.
(2)
تفسير الطبري، ج1 ص 220 الهامش.
(3)
أنوار التنزيل: البيضاوي، ج1 ص 44.
(4)
تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(5)
سورة البقرة الآية 1
(6)
سورة البقرة الآية 2
ومدلول يفهم لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ ذي بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم) (1).
وقال ابن عاشور: (وليس في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع. والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم)(2).
ولم يكتف المنكرون برد الأدلة ونقضها فحسب، بل أنكروا هذا المذهب في تفسير الأحرف المقطعة أصلا واستدلوا بما رواه عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(إن قوما يحسبون أبا جاد وينظرون في النجوم ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق) وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له،
(1) فتح القدير: الشوكاني، ج1 ص31.
(2)
التحرير والتنوير: ابن عاشور ج1 ص 194، 195.
وطار في غير مطاره) (1).
ونقل السيوطي عن ابن حجر قوله في حساب الجمل: (وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة)(2) وقد ألف الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى رسالة في أعداد الحروف رد فيها هذا القول وأبطل الاحتجاج بالحديث - على فرض صحته - من عدة وجوه.
ومن المعاصرين الذين أنكروا هذا المذهب في الأحرف المقطعة الأستاذ رشيد رضا الذي قال: (إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك)(3) ولعلك بعد هذا تقول وما وجه الإعجاز في حساب الجمل عند القائلين به؟ والجواب أن وجه الإعجاز أن فيها كشفا لأمور غيبية.
فمن ذلك ما قاله الخويبي: وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: {الم} (4){غُلِبَتِ الرُّومُ} (5) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ووقع كما قاله (6).
(1) تفسير ابن كثير، ج1 ص 38.
(2)
الإتقان: السيوطي ج2 ص14.
(3)
تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج1 ص 122.
(4)
سورة الروم الآية 1
(5)
سورة الروم الآية 2
(6)
الإتقان: السيوطي، ج2 ص14، وانظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: الزملكاني، ص60.
ومنها ما روي أن عليا رضي الله عنه كان يعلم ذلك واستخرج وقعة معاوية منه {حم} (1){عسق} (2).
ومن الخرافات التي بنيت على مذهبهم تحديد يوم القيامة عند بعض الدارسين المحدثين بأنه سيكون في عام 1710 هـ اعتمادا على حساب الجمل (3).
وغير ذلك، فإذا ثبت بطلان هذا القول من أصله فإن ما يبنى عليه لا أساس له ولا يصح تفسير القرآن الكريم بمثل هذه التكهنات والأوهام والخرافات، سيما وقد علمنا أن السحرة والكهان هم الذين يستخدمون مثل هذه الأحرف والأرقام والرموز والطلاسم في تنبؤاتهم التي نهينا عن تصديقها، وكذب المنجمون ولو صدقوا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) سورة الشورى الآية 1
(2)
سورة الشورى الآية 2
(3)
حروف المعجم: د. محمد أبو فراخ، ص52 ونسب هذا القول إلى د. رشاد خليفة.