الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن ابن تيمية رحمه الله ذكر أن هذا الحديث لا دلالة فيه لعدم تكفير تارك الصلاة - وإن كان أجود ما اعتمدوا - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها.
ثم ذكر أن الفقهاء الذين يقولون بعدم تكفيره يقولون بأنه يقتل مع إسلامه، مع أنه لا يتصور أن يقر مسلم بأن الله أوجب الصلاة عليه، ويأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا، فهذه مسألة يمتنع وقوعها وهي من باب فرض ما لا يقع؛ بل من يفعل هذا الفعل لا يكون إلا كافرا غير مقر بوجوبها (1).
ومن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين (2).
(1) ينظر الفتاوى، ابن تيمية، جـ7 ص: 218، 615 - 616.
(2)
المصدر نفسه، جـ28/ 308.
المبحث الثالث: الكفر العملي حده وحكمه؛ وبعض الأمثلة عليه:
أما الثاني من أنواع الكفر: فهو الكفر الأصغر، الذي يسميه أهل السنة: الكفر العملي، وهو: مخالفة حكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية، لا تخرج عن أهل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار، دون الخلود فيها، وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر.
قال ابن القيم: " الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان "(1).
فللكفر فروع دون أصله: " لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أن للإيمان من جهة العمل فرعا للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلام "(2).
وعلى هذا فإنه يجتمع في الإنسان كفر عملي لا ينقل عن الملة وإيمان؛ وهذا من أصول أهل السنة، وخالفهم المبتدعة على اختلاف أصنافها في هذا.
(1) كتاب الصلاة، ابن القيم، ص:53.
(2)
تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر المروزي، ص:520.
وعلى هذا الأصل فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان؛ فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بإنسان ما
أن يكون كافرا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر.
وقد ورد عن سلف الأمة تقسيم الكفر إلى ما يخرج عن الملة، وإلى ما لا يخرج عن الملة، ومن هؤلاء: ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، وعطاء، وغيرهم.
واختلف العلماء: هل يسمى مرتكب الكبائر كافرا كفرا أصغر،
أو منافقا النفاق الأصغر (1)، على أنه لا يترتب على هذا الخلاف اختلاف في حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة.
أمثلة هذا النوع من الكفر:
ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة تسمية بعض الذنوب كفرا، وأجمع أهل السنة على أن صاحبها لا يكفر الكفر الناقل من الملة، ومن هذه النصوص:
الأول: قال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (2)» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3)» .
والكفر الوارد في هذين النصين هو الكفر الأصغر، الذي لا يخرج عن الملة، لأن الله تعالى لم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخا لولي القصاص أخوة الدين، وذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4).
(1) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، جـ1، 111.
(2)
أخرجه البخاري 48 و (6044) و (70760) ومسلم 64، وابن ماجه (69) و (3939)، وأحمد 1 (385) و (411) و (433) والنسائي 7/ 122.
(3)
أخرجه البخاري (4403) و (6166) و (6785) و (7077) ومسلم (66، 120) والنسائي 7/ 126 و 127، وأبو داود (4686) وابن ماجه (3943) وأحمد 2/ 85، 87، 104.
(4)
سورة البقرة الآية 178
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1){إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).
فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وجعلهم جميعا إخوة، والمراد أخوة في الدين.
واستدل البخاري رحمه الله وغيره بهذه الآية على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت فقال:
" باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3)، فسماهم المؤمنين "(4).
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2)
سورة الحجرات الآية 10
(3)
سورة الحجرات الآية 9
(4)
صحيح البخاري، كتاب الإيمان، 1/ 84 (الصحيح مع الفتح).
وعنده أيضا " باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية (1)» .
قال ابن حجر: وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أو الكبائر.
كذلك مواقف السلف العملية فإنها تؤكد على هذا فقد كانوا " مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض،
(1) نفس المصدر والصفحة.
ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون معاملة المسلمين مع ما كان بينهم من القتال (1)، بل الراوي لحديث «لا ترجعوا بعدي كفارا (2)» الصحابي أبو بكرة الثقفي لم يمتنع من الصلاة خلف الصحابة المتقاتلين، وكذا كان يمتثل أوامرهم، مما يدل على أنه لم يكن يعتقد فيهم الكفر الناقل عن الملة (3). ومن المعاني والتأويلات التي ذكرها العلماء في هذين الحديثين:
1 -
أن الكفر الحقيقي الناقل عن الملة إنما هو في المستحل.
2 -
أو أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود.
3 -
أو أنه قد يؤول إلى الكفر بشؤمه، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام.
4 -
أو أنه كعمل الكفار لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
5 -
أو أن المراد الكفر اللغوي وهو التغطية والستر، لأن حق
(1) الفتاوى، ابن تيمية 3/ 285.
(2)
البخاري الحج (1654)، مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، أحمد (5/ 39).
(3)
فتح الباري، ابن حجر: 1/ 112.
المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كأنه غطى على هذا الحق.
6 -
أو أن إطلاق الكفر مبالغة في التحذير.
فهذا كله يؤكد - كما سبق - على أن المتقاتلين من المسلمين لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر وهي هذه الخصلة (1).
الثاني: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (2)» متفق عليه.
والكفر المراد هنا هو الكفر العملي: يدل على ذلك أنه سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه (3).
وقد ذكر النووي رحمه الله أن هذا الحديث عده بعض
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 7/ 355.
(2)
أخرجه البخاري (6103)(6104) ومسلم 11، 60، والترمذي (2137) وأحمد (2/ 18) وأبو داود (4687).
(3)
الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 355.
العلماء من المشكلات لأن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي، فيحمل هذا الحديث على المستحل لذلك، أو أن نقيصته لأخيه ترجع عليه، أو أن ذلك محمول على الخوارج، وهذا غير صحيح؛ لأن الصحيح أن الخوارج لا يكفرون (1)، أو أن المعنى أن ذلك يؤول به إلى الكفر، فالمعاصي بريد الكفر، أو أن تكفيره لأخيه المؤمن كأنه تكفير لنفسه؛ ذلك أنه كفر من هو مثله (2).
وذكر ابن حجر رحمه الله أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم (3).
ومهما اختلفت التأويلات فالحاصل أن العلماء مجمعون على أن هذا الفعل لا يعد من الكفر الأكبر؛ بل هو من الكفر الأصغر.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (4)» متفق عليه.
(1) سيأتي التعريف بهم في الفصل القادم.
(2)
شرح النووي: 2/ 49.
(3)
فتح الباري، ابن حجر: 10/ 466.
(4)
أخرجه البخاري 34 و 2459 و 3178 ومسلم 58 وأبو داود 4688 والترمذي 2634 والنسائي 8/ 116 وأحمد 2/ 189.
وقد فسر أهل العلم النفاق هنا بالنفاق الأصغر؛ ذلك أن النفاق عندهم نفاقان: نفاق أكبر وهو نفاق القلب، ونفاق أصغر، وهو نفاق العمل، قال ابن حجر معلقا على ترجمة البخاري باب علامة المنافق: لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك؛ (1) فالنفاق هنا هو نفاق العمل، وذلك بأن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك، والنفاق في اللغة من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير.
وقال الإمام البغوي: والنفاق ضربان: أحدهما أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فهذا يسمى منافقا، ولكنه نفاق دون نفاق (2).
وقال ابن تيمية: فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكنه لم يفعل الواجب كله لا من
(1) فتح الباري، ابن حجر: 9/ 89.
(2)
شرح السنة، البغوي: 1/ 76.
هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقا تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرما ظاهرا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علما وعملا بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين، وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم (1).
ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر بالرجوع إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال؛ خشي أن يكون ذلك منه نفاقا؛ جاء في الحديث عن حنظله الأسيدي أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟
قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 427.
والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة (1)» . (2).
فالخصال المذكورة في الحديث هي خصال المنافقين، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، وأطلق النفاق هنا تحذيرا للمسلم من ارتكاب هذه الخصال، مع أن المؤمن يجتمع فيه " إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان، وشعبة من شعبة الكفر "(3) كما في هذا الحديث.
فالحديث دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب يزيد وينقص، فكذلك شعب النفاق من الكذب والخيانة والفجور والغدر فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه أصل النفاق من: غل النبي صلى الله عليه وسلم أو حرج من قضاياه، أو يجوز أن دين النصارى أو اليهود
(1) أخرجه مسلم 2750.
(2)
ينظر جامع العلوم والحكم ابن رجب 2/ 480 - 495.
(3)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 520. ينظر: شرح النووي: 2/ 47 فتح الباري ابن حجر: 1/ 90.
دين صحيح ويميل إليهم، فهذا لا شك في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، ومن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال، وكان في قلبه جزم بالإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه وبالمعاد، فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها وليس هو بكافر (1).
الرابع: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد (2)» . متفق عليه.
والمراد بالإيمان المنفي هنا: كمال الإيمان الواجب، وإن كان مع الإنسان أصل الإيمان؛ ذلك أن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، فلا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان؛ فأهل السنة مجمعون على أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك (3).
ولفظ الحديث يفهم منه هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ولو أراد نفي حقيقة الإيمان عن أصحاب هذه المعاصي، وإخراجهم منه
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي: 11/ 364
(2)
أخرجه البخاري (2475) و (5578) و (6772) و (6810) ومسلم 57 وأبو داود (4689) الترمذي (2625) وابن ماجه (3936) والنسائي 8/ 64، 65، 313 وأحمد 2/ 243، 317، 376، 386، 479.
(3)
ينظر: شرح النووي 2/ 41 فتح الباري، ابن حجر 1/ 34 مجموع الفتاوى ابن تيمية: 7/ 524.
إلى الكفر لقال: إن الزاني والسارق غير مؤمنين، أو أنهما ليسا من المؤمنين، ولم يعدل إلى هذه العبارة المقيدة بحال المباشرة للذنب والملابسة له، ولا يخلو عدوله إليها من معنى لطيف لبلاغته التامة (1)، فنفي الإيمان عنهم كان لانتفاء ذوق حقائقه، ونقص بعض واجباته، فمن كان مخلصا لله حق الإخلاص، وقام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة لم يزن، وإنما يزني لخلوه عن ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه، ولم ينزع منه أصله فلهذا قيل هو مسلم (2).
قال أبو جعفر: هذا الإسلام، ودور دارة واسعة، وهذا الإيمان، ودور دارة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله (3).
(1) العواصم والقواصم لابن الوزير: 9/ 233.
(2)
ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 7/ 306 جامع العلوم والحكم ابن رجب 1/ 113.
(3)
الإبانة، ابن بطة، 2/ 713.
وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: معناه ينزع عنه اسم المدح الذي سمى الله به أولياءه، فلا يقال في حقه مؤمن، ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق.
وقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب الحدود أحد أبوابه بعنوان: باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة (1).
وقال ابن أبي شيبة في هذا الحديث: «لا يزني الزاني حين
(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود 12/ 75 (الصحيح مع الفتح).
يزني وهو مؤمن (1)»: لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصا من إيمانه (2).
الخامس: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3).
جاء عن السلف تفسير الكفر الوارد في هذه الآية بالكفر الأصغر، وعلى رأس هؤلاء ابن عباس رضي الله عنهما الذي قال: هي به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله (4).
وقال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. قال سفيان: أي ليس كفرا ينقل عن الملة (5).
وعن عطاء قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق (6).
(1) البخاري الأشربة (5256)، مسلم الإيمان (57)، الترمذي الإيمان (2625)، النسائي الأشربة (5659)، أبو داود السنة (4689)، ابن ماجه الفتن (3936)، أحمد (2/ 386)، الدارمي الأشربة (2106).
(2)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 329.
(3)
سورة المائدة الآية 44
(4)
الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ابن بطة العكبري رقم 1005 جـ2.
(5)
الإبانة ابن بطة: 2/ 736 رقم 1010.
(6)
المصدر السابق نفسه رقم 1009.
وعن طاوس قال: ليس بكفر ينقل عن الملة (1).
وهذه النصوص أوردها الإمام ابن بطة تحت عنوان: باب: ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج عن الملة (2).
وهي كلها تفيد أن الحكم بغير ما أنزل الله معصية وكبيرة، وليست بكفر ناقل عن الملة، على أن هناك نصوصا أخرى عن ابن عباس أيضا تفيد أنه كفر أكبر ناقل عن الملة، منها قوله:" ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ".
وقوله: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق.
ولا تعارض بين هذه النصوص وما قبلها، ذلك أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما
(1) المصدر السابق نفسه رقم 1007.
(2)
الإبانة: ابن بطة: 2/ 723.
أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه لرشوة دفعت إليه، أو عداوة للمحكوم عليه، أو قرابته أو صداقته للمحكوم له ونحو ذلك، مع اعترافه أنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا أصغرا (1).
السادس: قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد (2)» .
والكفر المراد هنا هو الكفر الأصغر، وأورد ابن بطة هذا الحديث تحت باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج عن الملة (3).
والكاهن: هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرا، أما بعد المبعث فإنهم قليل، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة إخبار الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة؛ ومما يؤكد على أن المراد بالكفر هنا الكفر الأصغر ما رواه مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
(1) شرح الطحاوية، ابن أبي العز، 2/ 493 فتاوى اللجنة الدائمة: 2/ 93.
(2)
أخرجه أبو داود (3904) والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، وأحمد: 2/ 408، 429، 476.
(3)
الإبانة ابن بطة: 2/ 730.
أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما (1)» .
والعراف هو الكاهن؛ ففي هذا الحديث نص على عدم قبول صلاته، فلا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولكنه لم يشر إلى كفره، فيجمع بينه وبين الحديث الأول بأن المراد بالكفر هناك: كفر دون كفر أي الكفر الأصغر.
السابع: قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (2)» .
وقد حمل العلماء ذلك على الكفر والشرك الأصغر، وهما من أكبر الكبائر، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (3).
(1) أخرجه مسلم (2230) وأحمد 4/ 68.
(2)
أخرجه الترمذي (1535) وصححه الحاكم 1/ 18.
(3)
أخرجه الإمام أحمد 3/ 230 وابن ماجه (4203) وإسناده حسن كما قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
مع أنه من المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر، وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على هذا القول، فالحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وعلى تقدير الصدق في الحلف بغير الله، فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
الثامن: قال صلى الله عليه وسلم: «ثنتان في أمتي هما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (1)» .
والكفر هنا هو الكفر الأصغر، وأطلق على هذين الفعلين هذا الوصف لأنهما من أعمال الكفار، وأخلاق الجاهلية. والمراد تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة (2).
والمراد بالطعن في النسب هو الوقوع فيها بالعيب والتنقص، ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية (3)» . متفق عليه.
(1) أخرجه مسلم (67)، وأحمد 2/ 377، 441، 496.
(2)
ينظر شرح النووي: 2/ 57.
(3)
أخرجه البخاري (30) ومسلم (1661).
فالطعن في النسب من عمل الجاهلية، والمسلم قد يكون فيه شيء من خصال الجاهلية ولا يوجب ذلك كفره (1).
والنياحة هي: رفع الصوت بالندب على الميت، وهي من الكفر العملي، لأنها تسخط بقضاء الله، وهذا ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة (2).
التاسع: قال صلى الله عليه وسلم: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر (3)» .
والكفر الوارد هنا ليس هو الكفر الذي يخرج عن ملة الإسلام، ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك لعظم حق الوالد، فهو أصل الولد الذي منه خلق، والولد من كسبه، فالجحد له شعبة من شعب الكفر؛ لأنه جحد لما منه خلقه ربه، فكان فيه كفر بالله من هذا الوجه، ولكن ليس هذا كمن جحد الخالق بالكلية (4).
إلى غير ذلك من الأحاديث، والقاعدة هي أن يقال:
إن أهل السنة مجمعون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة - كما قالت الخوارج - إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة
(1) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 540.
(2)
ينظر: فتح المجيد، عبد الرحمن بن حسن ص 262.
(3)
أخرجه البخاري (113) وأخرجه مسلم (6768) وأحمد: 5/ 526.
(4)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 356.
لكان مرتدا يقتل على كل حال، فلا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجرى الحدود، فدل هذا على أنه ليس بمرتد، بل ما زال مسلما تجري عليه أحكام الإسلام، وإن كان غير كامل الإيمان، فمن لم يقترف تلك المعاصي أكمل منه إيمانا.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام:
" أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب الجرائم، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان، والبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم والآخران فيها تسمية الكفر، وذكر الشرك ".
ثم قال: " وإن الذي عندنا في الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا ولا توجب كفرا، ولكن إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم في مواضع من كتابه "(1).
(1) المصدر نفسه ص 93.