الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمشايخ والشبان حتى بلغوا مليون قتيل، وقد كان ابن العلقمي وزيرا عند الخليفة المستعصم يظهر الولاء والنصرة، له فضل في الإنشاء والأدب لكنه كان منافقا يضمر الحقد على الإسلام وأهله، كاتب التتار وزين لهم اجتياح بغداد، وكان ذلك بعد أن سرح الجند وصرف الجيوش عن بغداد حتى لم يبق منهم إلا عشرة آلاف ثم أرسل إلى التتار يسهل عليهم أمر اجتياح المدينة فقدموا وحدث ما حدث (1).
والأمثلة كثيرة جدا ولهذا كان الواجب التحذير من النفاق، وبيان صفات أهله، وكشف جهودهم في هدم الإسلام وخدمة أعدائه وموالاتهم وتنفيذ مخططاتهم.
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/ 200 وما بعدها).
المبحث الرابع: أسباب النفاق:
المنافق كافر في الباطن يستتر بالإسلام، وتظاهره بالإسلام له أسباب كثيرة ترجع إلى حب الشهوات أو تأثير الشبهات، فشهوة حب الحياة والخوف على أنفسهم من القتل أو السبي، والخوف على المنصب والرياسة والجاه والزعامة تجعله ينافق، وكذلك شهوة حب حظوظ الدنيا والطمع في الغنائم إذا انتصر المسلمون في حروبهم، أما الشبهات فإن بعض المنافقين كان أول أمره مؤمنا لكن الإيمان لم يخالط بشاشة قلبه، يعبد الله على شفا جرف هار، فإذا جاءت فتنة أو حلت
بالمؤمنين نكبة نافق، ولهذا يمكن القول أن أهم أسباب النفاق ما يلي:
أولا: حب الشهوات ومنها:
أ- حب أنفسهم والخوف عليها من القتل أو السبي.
وهذا السبب يبدو واضحا في نفاق من نافق بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكثرة أتباعه، وانتصاره يوم بدر، فحينئذ أصبحت للمسلمين قوة تهاب فظهر النفاق، أما في مكة فلم يكن هناك منافقون لأنهم كانوا يظهرون كفرهم ولا يخشون شيئا فلما قوي الإسلام وأهله خافوا على أنفسهم من القتل أو الطرد أو السبي.
قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (1){مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (2).
قال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق فلما أوعدهم الله بهذه الآية أسروا ذلك وكتموه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) أن المنافقين بعد ظهور الإسلام وذل النفاق وأهله لم يستطيعوا أن يظهروا ما كانوا
(1) سورة الأحزاب الآية 60
(2)
سورة الأحزاب الآية 61
يظهرونه من الكفر قبل ذلك قبل بدر وبعدها، وقبل أحد وبعدها، فأخفوا النفاق وكتموه فلهذا لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم (1).
ب- حب الجاه والرياسة والزعامة والخوف من ضياعها.
قد يكون لبعض المنافقين جاه ورياسة يخاف إن أظهر كفره أن يتفرق عنه أتباعه وأعوانه فيخفيه ويظهر الإسلام، كما فعل عبد الله ابن أبي ابن سلول فإنه كان قاب قوسين أو أدنى من الرياسة في قومه، ثم تفاجأ بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سيدا فيها وحاكما لها، فكان هذا ما حمله على النفاق في مبدأ الأمر.
جـ- حب حظوظ الدنيا والطمع في الغنائم:
من المنافقين من يكون سبب نفاقه حب الدنيا والطمع في الغنائم، ولهذا نراهم يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يقاتلون، ومنهم من لا يخرج وإذا رجع رسول الله جاء معتذرا طمعا في عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه. فهم لحبهم للدنيا يؤملون الغنائم وقد ذكر الله سبحانه صفتهم هذه في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2).
(1) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 20)، (7/ 214 و215) ومختصر منهاج السنة (1/ 91).
(2)
سورة التوبة الآية 42
وقد كان هذا في غزوة تبوك لما رأى المنافقون شدة الحر وبعد المسافة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية موبخا لهم، مبينا أن السفر لو كان قريبا سهلا، والغنيمة قريبة المتناول حاضرة، لخرجوا معك أما قولهم لما جاءوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مجرد كذب لأنهم كانوا مستطيعين (1).
«ولما رجع المسلمون من غزوة بني المصطلق (3)» .
وقد سأل المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم السماح لهم بالخروج معه إلى خيبر لما أملوا من الغنائم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم لأن غنائم خيبر كانت خاصة بمن ذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا وكان المنافقون حينئذ قد تخلفوا عنه، وقد وعد الله المؤمنين لما
(1) انظر: الطبري (10/ 141) المجلد السادس، وابن كثير (2/ 361).
(2)
دلائل النبوة للبيهقي (4/ 60).
(3)
(2) فقدت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسعى لها الرجال يلتمسونها، فقال رجل من المنافقين كان في رفقة من الأنصار: أين يسعى هؤلاء؟ قال أصحابه: يلتمسون راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال المنافق: أفلا يحدثه الله بمكان راحلته؟ فأنكر عليه أصحابه ما قال. وقالوا: قاتلك الله، نافقت فلم خرجت وهذا في نفسك؟ قال: خرجت لأصيب عرضا من الدنيا
انصرفوا من الحديبية فتح خيبر، وجعل الله غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة فإنهم انصرفوا على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. فلما رأى المنافقون أن الله وعد رسوله مغانم كثيرة عجلت له منها خيبر طلبوا الخروج قال تعالى:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1).
فالمخلفون هم الذين تخلفوا عن عمرة الحديبية سيقولون إذا انطلقتم إلى مغانم خيبر ذرونا نخرج معكم، بعد أن تخلفوا وقت محاربة الأعداء ومصابرتهم فأمر الله رسوله ألا يأذن لهم عقابا لهم من جنس ذنبهم.
ومعنى قوله تعالى: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} (2) أي هكذا قال الله لنا أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية (3).
ثانيا: الفتن والشبهات:
سنة الله في عباده أن يمتحنهم ليعرف الصادق من الكاذب، فإذا جاءت الفتنة كانت سببا في نفاق من كان إيمانه ضعيفا، ومن أمثلة ذلك
(1) سورة الفتح الآية 15
(2)
سورة الفتح الآية 15
(3)
انظر: تفسير الطبري (26/ 80) المجلد 13، والبغوي (4/ 192) وابن كثير (4/ 190).
حادثة تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فقد كانت اختبارا وابتلاء من الله ومحنة امتحن الله بها الناس، وبعدها ارتد طائفة عن الإيمان قال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1)، ومن هذه الفتن هزيمة المسلمين يوم أحد فإنه لما حصل ذلك ارتد طائفة ونافقوا قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (2){وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (3).
قال ابن تيمية: " قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} (4) ظاهر فيمن أحدث نفاقا، وهو يتناول من لم ينافق من قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانيا) (5).
ثم ذكر أن الذين انخذلوا يوم أحد مع عبد الله بن أبي رأس المنافقين كانوا ثلاثمائة لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين (6).
وهذا حال الناس اليوم، إذا ابتلوا بالمحنة ينقص إيمانهم كثيرا
(1) سورة البقرة الآية 143
(2)
سورة آل عمران الآية 166
(3)
سورة آل عمران الآية 167
(4)
سورة آل عمران الآية 167
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 279).
(6)
المرجع السابق.
وينافق كثير منهم، وإذا انتصر الأعداء على المسلمين ارتدوا عن الإسلام، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت 1285 هـ) رحمه الله في فتح المجيد حال من رأوه من هؤلاء الناس.
قال ابن تيمية: " وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيرا، وينافق أكثرهم أو كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم، كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنا وظاهرا، لكن إيمانا لا يثبت على المحنة "(1).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ معلقا على كلام شيخ الإسلام: " ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان "(2)، ونحن كذلك رأينا في عصرنا عند غلبة أعدائنا ما فيه عبرة للمعتبرين وسنة الله ماضية إلى قيام الساعة.
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 280).
(2)
فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص (477).