الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كابن تيمية، وابن دقيق العيد، والسيوطي، والشوكاني وغيرهم.
والدعوة إلى سد باب الاجتهاد دعوى لا ينبغي أن تأخذ من بحثنا كثيرا، لأنها مجرد صيحات أطلقها بعض الكسالى من المنتسبين للعلم؛ لرد شر من عجزوا عن مناجزته أو لحفظ مكانتهم العلمية.
لكن الذي ينبغي أن يقف عنده الواقف، إعراض كثير من العلماء عن منصب الاجتهاد خلال أكثر من عشرة قرون، ومن هنا نخلص إلى القول بأنه ليس لمن يرجع إلى هذه الدعوة سبب جمود الفكر الإسلامي خلال عشرة قرون مستمسك، لأن هذه الدعوة ما قال بها إلا شواذ من العلماء نحن مع من يلومهم عليها، لكن المسألة مسألة واقع، فلنقرأ أوراق هذا الواقع ونكشف أسبابه، ثم نبحث عن علاجه، لأننا مع قولنا بعدم انقطاع الاجتهاد، وبإمكان وجود المجتهد المطلق، إذا استعرضنا اثني عشر قرنا لا نجد بعد الأئمة الأربعة من جاء وأثر في حياة المجتمع الإسلامي تأثيرهم، ولا نجد من فرض نفسه على واقع الناس مثلهم إلا ما ندر. والله المستعان.
المقدمة الثانية: في التقليد:
درج بعض أهل العلم على إطلاق مصطلح الاتباع بدلا من التقليد فرارا من المعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة، لكن لكون مصطلح التقليد هو الشائع في كتب العلماء المتقدمين فلا ضير من
استعماله ولو شوش عليه من شوش، وإن مصطلح الاتباع كما سنشير إليه قد يعد مرتبة وسطى فوق التقليد ودون الاجتهاد.
تعريف التقليد لغة:
التقليد لغة: مأخوذ من القلد، وهو تعليق شيء على شيء وليه به، ومنه تقليد البدنة، وذلك أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي (1) ومن ذلك تقليد ولاة الأمر الولايات.
وسمي تقليد العامي للعالم تقليدا؛ لأنه يجعل أمر دينه في عنق العالم، فالعالم يتحمل تبعة ما قلد فيه (2) أو لأن العامي يجعل قول العالم قلادة في عنقه (3) تسوقه إلى العمل دون دليل، كما أن الدابة يسوقها التقليد إلى ما يراد منها من ذبح ونحوه.
تعريف التقليد اصطلاحا:
عرف الأصوليون التقليد بعبارات عديدة تكاد تتفق في المعنى، والعبارة الشائعة عندهم في ذلك أن التقليد عبارة عن: قبول قول الغير بلا حجة (4)
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة: قلد.
(2)
إرشاد الفحول (265).
(3)
التعريفات للجرجاني (57).
(4)
المصدر السابق.
وقد عرفه ابن همام بتعريف أدق من هذا حين قال في التحرير: بأنه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة (1)
فالتعبير بقوله: ليس قوله إحدى الحجج، أدق من قول الأول: الغير.
حكم التقليد:
هذه المسألة من المسائل التي يبحثها علماء الأصول، ولكن الباحث يعجب منها حين يرى تباين آراء العلماء فيها، وتعصب كل قوم لرأيهم، ولعل السبب يرجع إلى أن محل الخلاف فيها غير محرر، إذ إن القارئ سيجد كثيرا من النقول عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كلها تذم التقليد وتحذر منه، وترمي صاحبه بأشنع الألقاب، لكنه أيضا سيرى أن الأصوليين إذا بحثوا هذه المسألة لا ينسبون الخلاف في جواز التقليد إلا لطائفة من المعتزلة، وهذا ما جعل الشوكاني وغيره يرمي الأصوليين بالتوهم في هذه المسألة، إذ لم ينسبوا منع التقليد إلا لبعض المعتزلة، مع أنه مروي عن عدد لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لذا فهو كما قال: كالإجماع إن لم يكن إجماعا (2) ولعل الشوكاني رحمه الله قد
(1) انظر تيسير التحرير 4/ 241
(2)
إرشاد الفحول (268)
فاته أن المسألة عند الأصوليين محصورة في تقليد العامي للعالم، وهي مسألة لا يكاد يخالف فيها أحد سوى قليل من المعتزلة، فمحل النزاع عند الأصوليين محصور، أما عند غيرهم فتتسع دائرته أكثر، ولذا تباينت الآراء فيها.
ولكي يتضح المقام سنعرض هذه المسألة عند الأصوليين، ثم نعرض موقف من منع التقليد من السلف مع توجيه قولهم، ونختم المسألة بخلاصة توضح الصورة للقارئ إن شاء الله تعالى.
محل النزاع في هذه المسألة عند الأصوليين:
يكاد يتفق الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة وأداه اجتهاده إلى حكمها، أنه يجب عليه اتباع هذا الحكم، وليس له اتباع غيره في خلاف هذا الحكم.
أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فقد اختلف الأصوليون في حكم اتباعه، وهذه النقطة هي أم المسائل التي يبحثها الأصوليون (1) فيدخل في هذه المسألة العامي، كما يدخل فيها كل من لم تتوفر له آلات الاجتهاد في مسألة وإن توفرت له في غيرها بناء على القول بتجزئة الاجتهاد، كما يدخل فيها أيضا من ضاق عليه الوقت ولم يجتهد.
وأبرز آراء العلماء التي يحكيها الأصوليون في هذه المسألة أربعة:
(1) أصول مذهب الإمام أحمد (657).
1 -
قول الجمهور، وهو أنه يلزمه اتباع المجتهد والأخذ بفتواه.
2 -
أنه لا يجوز له الاتباع إلا بعد تبين صحة الاجتهاد ودليله.
3 -
قول الجبائي: يجوز في مسائل الاجتهاد دون ما يظهر، كالعبادات الخمس (1)
3 -
ما قاله بعض القدرية من وجوب النظر على العامة مطلقا (2) ومرد هذه الأقوال الأربعة إلى قولين جواز التقليد ومنعه؛ لأن القولين الثاني والثالث يرجعان إلى الأول.
أما الثاني فلأن معرفة العامي للدليل لا يخرجه عن التقليد، لأن العامي في الغالب لا يدرك طريقة أخذ الحكم من الدليل، بالإضافة إلى أن بعض العلماء قالوا إن المفتي لا يطالب ببيان الدليل، ولا يلزم العامي طلبه والسؤال عنه، كما سنرى في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
وأما القول الثالث فإننا سنعرف أيضا أن العامي وغيره متى علم حكما شرعيا واستقل بمعرفته، وجب عليه العمل به ولم يقلد فيه أحدا فلا ريب أن من علم وجوب الصلاة والصوم ونحوهما لا يجب عليه أن يقلد غيره فيها، وقد نبه إلى هذا أبو الخطاب وغيره
(1) المصدر السابق
(2)
روضة الناظر لابن قدامة (383)
من محققي العلماء، وقالوا: إن ما علم من الدين بالضرورة لا يجب على العامي التقليد فيه (1) بقي أن نلقي نظرة على أدلة مجيزي التقليد وأدلة ما نعيه ليكمل لنا تصور المسألة.
أدلة مجيزي التقليد:
استدل مجيزو التقليد بأدلة منها:
1 -
قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)، فالآية صريحة في إيجاب سؤال أهل الذكر على من لا يعلم.
2 -
إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز استفتاء العامة للمجتهدين وتقليدهم بالعمل بما يفتون به.
3 -
أن العامي متعبد بالشريعة وأحكامها، ولو قيل بوجوب النظر والاجتهاد للزم الحرج على عامة الناس، بتفرغهم لذلك وتعطيل مصالحهم الضرورية وأمور معاشهم، وقد نفى الله الحرج، ولم يكلف العباد ما يشق عليهم، فكان حكم العامي التقليد.
4 -
أن إيجاب الاجتهاد على كل أحد غلو وإفراط وإنكار
(1) المصدر السابق (384)
(2)
سورة النحل الآية 43
للبدهيات، فليس كل المسلمين مؤهلا لذلك، لا من حيث القدرات العقلية، ولا من حيث الوقت، إذ يحتاج الأمر إلى سنين عديدة يتفرغ فيها المكلف لإثبات الأدلة الشرعية بالنقول الموثقة، ثم الاجتهاد فيها، وبخاصة عند التعارض أو خفاء دلالتها (1)
أدلة منكري التقليد:
أما منكرو التقليد فاستدلوا بأدلة منها:
1 -
ما ورد من النصوص التي تنهى عن القول على الله بغير علم، كقوله تعالى:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)، والاعتماد على التقليد قول بلا علم، فكان منهيا عنه.
2 -
ما ورد من نصوص تفيد وجوب طلب العلم على جميع المسلمين، كقوله صلى الله عليه وسلم:«طلب العلم فريضة على كل مسلم (3)» 3 - أن المجتهد قد يخطئ وقد يكذب، فكيف يؤمر المقلد باتباع الخطأ والكذب.
(1) القول المفيد للشوكاني (20 و35)
(2)
سورة البقرة الآية 169
(3)
أخرجه أبو داود عن أنس برقم (224).
4 -
الأدلة الكثيرة التي تنهى عن تقليد الآباء والرؤساء، مما ذم الله عليه الكفار كقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1){قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (2){فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (3).
قالوا: وقد احتج بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة الكفر والإيمان، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين من حيث إنه تقليد بغير حجة للمقلد، وإن اختلفت الآثام فيه (4)
وقد جرت بين الفريقين مجادلات ومحاورات يقصر المقام عنها، غير أن ذا البصيرة لا يخفى عليه ما في أدلة المانعين من ضعف إذا أريد بها منع تقليد العامي للعالم، لأنه لم يقل على الله بغير علم، فأصل عمله فتوى المجتهد التي هي حكم الله، ثم إن استفتاءه للمجتهد من طلب العلم، أما الخطأ والكذب المحتملان فلا يمنعان
(1) سورة الزخرف الآية 23
(2)
سورة الزخرف الآية 24
(3)
سورة الزخرف الآية 25
(4)
القول السديد للشنقيطي (12) والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (59) وما بعدها.
من قبول الفتوى، إذ لو فتح هذا الباب لم يقبل حكم القاضي ولا شهادة الشهود ولا غير ذلك.
أما أدلة النهي عن التقليد: فإن سلمت حملت على ما يعارض نصا صريحا أو قاعدة شرعية عامة والله أعلم.
نظرة إلى ما ورد عن السلف من نهي عن التقليد:
إن الناظر في بعض كتب السلف رحمهم الله وما ورد عنهم من آثار، يجد أن فيها حملة شديدة على التقليد، ودعوة إلى نبذه والبعد عنه، سواء في ذلك الأئمة الأربعة، أو حتى غيرهم من كبار الصحابة والتابعين، ومن ذلك مثلا: ما روي عن ابن مسعود من قوله: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)، ومنه ما روي عن ربيعة أنه بكى، فلما سئل: ما يبكيك؟ قال: (رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا)، ومنها قول عبيد الله بن المعتز:(لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد)(1)
وقول الشافعي: (إنه لا يلزم قول رجل إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول مالك: (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك)، وقول أبي حنيفة: (لا يحل لأحد يأخذ بقولنا حتى يعلم
(1) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 114).
من أين أخذناه)، وقول الإمام أحمد:(لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا)(1) وغير ذلك مما ورد عن السلف رحمهم الله.
إن من يقولون بمنع التقليد اتخذوا من هذه الأقوال حجة قوية لمنع التقليد ولزوم الاجتهاد، ولا ريب في خطأ هذا الصنيع، لأن هذه النصوص ونحوها لا يمكن أن يقصد بها سوى غير العامة من طلاب العلم الذين لهم يد في الخوض في مسائل العلم، ولقد أراحنا الإمام ابن عبد البر رحمه الله في هذا المقام حيث قال بعد أن ساق نصوصا عديدة عن الأئمة:(وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة، لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)(3) وقد طرد ابن عبد البر حكم العامة حتى شمل من عجز عن الوصول إلى الحكم من طلاب العلم، قال: (فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من
(1) انظر: المذهبية المتعصبة هي البدعة لمحمد عيد عباسي (55، 56).
(2)
سورة النحل الآية 43
(3)
جامع البيان (2/ 114، 115).
التقليد) (1) فتبين أن المقصود بذم الأئمة رحمهم الله طالب العلم القادر على معرفة النصوص واستنباط الحكم منها، وقد ذكر الدهلوي في الإنصاف بعض الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها كلام الأئمة ونصوصهم في ذم التقليد وهي:
1 -
أنها تحمل على من له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة.
2 -
أنها تحمل على من ظهر له ظهورا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ.
3 -
أنها تحمل على من يكون عاميا ويقلد رجلا من الفقهاء بعينه يرى أن يمتنع عن مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه ألا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه.
4 -
أنها تحمل على من لا يجوز استفتاء الحنفي للشافعي ونحوه (2)
هذا ما ذكره الدهلوي من احتمالات، ولا يرتاب عاقل أن الأئمة ما عنوا العامي ونحوه ممن لا يستطيع أن يأخذ الحكم من
(1) المصدر السابق (2/ 81).
(2)
الإنصاف (99 - 101).
مصادره، بل لا بد له من معرف ودال على الحكم، وعبارات العلماء في جواز ذلك للعامي لا تحصى، فمنها ما قاله الشاطبي في آخر ما وجد من كتاب الاعتصام حيث قال:(وإذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسطائهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه)(1) ويقول أيضا في الكتاب نفسه: (وإذا كان مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به)(2)
ومن هذه العبارات ما قاله الإمام ابن تيمية في المسودة: (فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر)(3) ويقول رحمه الله: (الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض، منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة أصولها وفروعها على كل أحد، ومنهم من يحرم الاستدلال الدقيق على كل أحد، وهذا في الأصول والفروع، وخيار الأمور أوسطها)(4)
(1) الاعتصام (2/ 326)
(2)
الاعتصام (2/ 343)
(3)
المسودة (52)
(4)
مجموع الفتاوى (20/ 18).
ويقول رحمه الله أيضا في هذا المقام: (الذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز، حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوبا ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز). اهـ (1) وهذا العلامة ابن القيم الذي شن حملة على المقلدين في كتابه: إعلام الموقعين، تجاوزت مائتي صفحة، يصرح في بداية بحثه بانقسام التقليد إلى أقسام، فيقول:
(ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب) اهـ (2) ثم استطرد رحمه الله في القسم الممنوع ولم يذكر
(1) مجموع الفتاوى (20/ 204)
(2)
إعلام الموقعين (2/ 187).
القسم الواجب والجائز.
والعز بن عبد السلام بين أيضا في كتابه قواعد الأحكام: (أن وظيفة العامي التقليد، لعجزه عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد)(1)
فهذه آراء بعض جهابذة العلم، وإن كانت المسألة واضحة لا تحتاج كل هذا الاستطراد، ولكن انبناء ما بعدها عليها دعاني إلى التركيز عليها.
وبقيت نقطة هامة تتعلق بهذه المسألة وهي ضوابط التقليد، حيث إن العلماء الذين أجازوا التقليد جعلوا له ضوابط يجب على المقلد مراعاتها في أثناء تقليده.
ولعل أهم هذه الضوابط ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام حيث قال: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم. . . . . . لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا)(2) فأهم نقطة ينبغي للمقلد أن ينتبه إليها أنه لا يقلد هذا العالم لكونه على مذهبه، أو لشهرته، أو غير ذلك، بل لأنه دليله إلى حكم الله تعالى.
(1) قواعد الأحكام (2/ 135)
(2)
الاعتصام (2/ 343).
ولذلك يزيد الشاطبي المسألة وضوحا فيقول: (وينبغي ألا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا، فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والرجوع عن صوب العلم الحاكم، فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا، ثم مخالفة متبوعه. . . لخروجه عن شرط الاتباع؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها)(1) فالخلاصة أن التقليد جائز في الشريعة، وأن المقلد إنما يقلد العالم؛ لأنه دليله إلى حكم الله، ثم أيضا يجب عليه ألا يصر على تقليده إذا تبين له خطؤه، أو ترجح عنده غيره؛ لأن المجتهد بالنسبة للعامي بمثابة الدليل الظني إذا عورض بأقوى منه سقط، وقد أكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:(وأما تقليد العالم حيث يجوز، فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن، كخبر الواحد والقياس، لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد، كما يغلب على ظنه صدق المخبر)(2) فإذا تيقن المقلدون هذه الأمور والتزموا بهذه الآداب، سار
(1) الاعتصام (2/ 345)
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 17)