الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطمع دنيوي، أو رهبة وخوفا من الحاسدين والأعداء العامة، ومما يوضح هذا أن أبا زرعة سأله شيخه البلقيني قائلا: ما تقصير تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قد رتبت للفقهاء الأربعة على المذاهب الأربعة، وإن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من ذلك، وحرم القضاء وامتنع الناس عن استفتائه، ونسبت إليه البدعة. فتبسم البلقيني ووافقه على ذلك. (1)
(1) الاجتهاد للأيوبي (152)
واقعنا الذي نعيشه
والآراء في هذه المسألة: (1)
تعتبر مسألة التمذهب من المسائل القديمة الجديدة، فهي وإن كانت قد بحثت قديما منذ ظهور المذاهب، إلا أنها لا تزال في قائمة المسائل المهمة التي يكثر حولها الجدال، والناظر إلى واقعنا يجد أن المسلمين ينقسمون حيال هذه المسألة إلى ثلاث فئات هي:
الفئة الأولى: طائفة من المنتسبين لأهل الحديث يريدون اطراح المذاهب والعودة بالناس إلى الكتاب والسنة، وهم لا يطالبون بهذه الفكرة دفعة واحدة، وإنما يطالبون بأن يتفقه الناس عبر المذاهب بعيدا عن التعصب، ثم توحد المذاهب ويطرح غثها، ثم
(1) انظر الاجتهاد للقرضاوي (147).
يرجع بالناس إلى الكتاب والسنة مباشرة (1) لكن بعضهم في أثناء حماس المناقشات ينسون هذا التدرج، ويحملون على المذاهب جملة وتفصيلا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الفئة الثانية: المذهبيون وهم علماء كثر، كان أغلب من دعا للفكرة منهم في القرن الماضي الشيخ محمد الحامد وأضرابه، وهؤلاء يدعون إلى وجوب اتباع المذاهب حسما للفوضى الدينية، كما يقول عنوان رسالة للشيخ محمد الحامد في هذا الشأن، ولعله أبرز من مثل هذا المنهج في هذا العصر، ولا بأس بعرض بعض أفكاره من تلك الرسالة لكي تتضح الفكرة:
يقول: والذي علينا علمه والعمل به هو ما قرره فقهاؤنا رحمهم الله تعالى من أن الاجتهاد المطلق في الأحكام ممنوع بعد أن مضت أربعمائة سنة من هجرة مولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
ويقول: نعم قد تعرض بعض الحوادث في زماننا هذا مما لا يعهده الناس من قبل، فيتشوفون إلى معرفة أحكامها، والمخلص من الحيرة هو النظر في فروع الفقه وقواعده الكلية، فإنه كفيل بتعريفنا بحكم الجديد من هذه الحوادث، على أنه لا مانع من الاجتهاد
(1) ملحق كتاب المذهبية للعباسي (112)
(2)
ص9
للتعرف على أحكام جزئية فردية طارئة
…
الخ. (1)
ويقول رحمه الله: وبعد فنحن ملتزمون مذاهبنا فيما عدا الحوادث الفاذة، ولسنا مجتهدين حتى نفتي من الأحاديث الشريفة ابتداء. اهـ (2)
أقول: وهذه الفئة - أعني المتمذهبين- هي الشائعة في العالم الإسلامي في غربه وشرقه، وأغلبهم من العامة، أو من العلماء الذين لم ينالوا حظا كبيرا من العلم، أو لم يدرسوا العلم بطريقته الحديثة في المدارس والجامعات، أو غلبت عليهم عاطفة المذهب فتحرجوا من خلافها.
ولعلي قبل أن أترك هذا الفريق أبين أن هذا القول هو أحد الوجهين للحنابلة والشافعية، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في الفتاوى، غير أنه قال:(إن الجمهور منهم لا يوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه (3)
وتتبين نظرة الحنابلة من كلام ابن حمدان في أثناء حديثه عن
(1) ص12
(2)
ص13
(3)
مجموع الفتاوى (20/ 222).
مذاهب الحنابلة في هذه المسألة، فهو يقول: (والثاني يلزمه ذلك - أي التمذهب - لأنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى ذلك إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه
…
الخ). (1)
وكلام ابن حمدان هذا يمثل أيضا نظرة الشافعية الموجبين للالتزام إلى هذه المسألة، لأن أصل هذا الكلام لابن الصلاح في أدب المفتي (2) وقد نقله عنه النووي وصدره بقوله:(فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين). (3)
وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى ابن الصلاح نقل الإجماع على عدم تقليد غير الأئمة الأربعة، وقبله قال الجويني في البرهان:(أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين). (4)
وقال أحد متأخري مذهب المالكية: (قد منع جميع العلماء اتباع
(1) صفة الفتوى لابن حمدان (72).
(2)
ص162
(3)
المجموع (1/ 55)
(4)
البرهان (3/ 1146)
مذاهب غير الأئمة الأربعة من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داود إلى هذا الزمان، سواء كان اتباع التزام أو مجرد تقليد) (1)
وإنما سقت لك هذه الأقوال والنقول لتعلم أن فكرة إيجاب التمذهب شائعة بين الفقهاء، حتى لا تقول إنك هونت من هذه الفكرة وحقرت شأنها، ولم تنسبها إلا إلى شرذمة قليلة من أتباع المذاهب.
ولعلي أزيد الأمر إيضاحا فأقول: إن العلماء رحمهم الله يطلقون القول بوجوب التمذهب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ولكنهم لا يتفقون على ما نفهمه من هذه الكلمة من كون المقلد يجب عليه أن يلتزم مذهبا لا يحيد عنه قدر أنملة، وإنما لهم في ذلك إطلاقات نذكر منها من باب التمثيل ما يلي:
1 -
أنهم قد يقصدون بوجوب التمذهب وجوب التقليد عموما، وهذا لا ينازع أحد في وجوبه على العامة.
2 -
قد يريدون عدم تقليد الصحابة والتابعين، وحصر التقليد فيمن نقلت أقوالهم وضبطت؛ لأن العامي قد لا يفهم ما يريده الصحابي، فيحمله على غير محمله، أو يكون قول الصحابي منسوخا أو مجمعا على خلافه، ولعل عبارة صاحب البرهان موحية بهذا.
(1) الاجتهاد للأفغاني (93)
3 -
أنهم قد يريدون بالتمذهب الانتماء للمذهب مع جواز تركه إذا ترجح غيره، ويدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وعليه أيضا يحمل قول ابن حمدان وابن الصلاح وأضرابهم من كبار العلماء، فقد سئل الإمام ابن تيمية عن معنى قول ابن حمدان:(من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر)، فأجاب: (هذا يراد به شيئان: أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر ......
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها، لكنا نتكلم عليها على تقدير إرادتها، وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه ...... ولا ريب أن التزام الناس المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ....... وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني ...... فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله
في أمر أن لا يعدل عنه). (1)
4 -
قد يريدون به أخيرا كل ما تدل عليه الكلمة من معنى من إيجاب الالتزام بالمذاهب وعدم الحياد عنها ونحو ذلك، وللأسف إن هذا المعنى غلب على العامة ومتوسطي طلاب العلم وذوي العاطفة المذهبية وبخاصة في العصور الأخيرة وهو يمثل الواقع أكثر من تمثيله الفكر.
الفئة الثالثة: فئة متوسطة بين الفريقين يرون أن أهل المذاهب ومن يلتزم بها على حق وفي خير، ومن تركها وأعرض عنها والتمس لنفسه طريقا آخر في حدود الشرع فهو كذلك.
وأغلب هذه الفئة تنتسب إلى المذاهب لكنها لا تلزم نفسها بكل ما في مذهبها، بل إذا رأت ما هو ضعيف في المذهب اعتمدت فيه على غيره.
وكأن هذه الفئة تحاكي فقهاء الأمة وفضلاءها في القرون الماضية ممن سلكوا هذا المنهج وساروا عليه، وبخاصة الإمام ابن تيمية وابن القيم والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد وأضرابهم ممن سبقهم أو تلاهم.
وهذه الفئة اليوم تتمثل في أتباع الدعوات الإصلاحية،
(1) مجموع الفتاوى 20/ 220 - 223
بالإضافة إلى كثير من طلاب العلم وأساتذته في الجامعات والمدارس الذين اطرحوا التعصب، ولم يزهدوا في المذاهب.
وهذه الآراء الثلاثة هي المطروحة على ساحة الواقع في هذه المسألة، ولعلنا قبل أن ننتقل إلى أدلة كل فئة أعرض بعض النقاط التي ينبغي أن يعرفها الباحث في هذه المسألة، وهي أشبه ما تكون بتحرير محل النزاع من خلال أقوال بعض الخائضين في هذه المسألة.
أولا: يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية: (هناك أمور لا خلاف فيها لا بد من إبعادها عن دائرة البحث في أصل الدعوى الخطيرة)، ثم عد من هذه الأمور ما يأتي:
1 -
أن المقلد لأحد هذه المذاهب ليس ثمة ما يلزمه شرعا بالاستمرار في تقليده، وليس ثمة ما يمنعه من التحول عنه إلى غيره.
2 -
أن المقلد إذا ما تمرس في فهم مسألة من المسائل وتبصر بأدلتها من الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، وجب عليه أن يتحرر من الأخذ بها من مذهب إمامه وحرم عليه التقليد فيها.
3 -
أن جميع الأئمة الأربعة على حق، ومن هنا فاتباع المقلد
لمن شاء منهم اتباع للحق وتمسك بهدي. (1)
ثانيا: دعاة اللامذهبية وأبرزهم الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله محدث الشام وأتباعه، قد صدر لهم كتب ومباحث في كتب، ولعل أبرز كتبهم ما كتبه محمد عيد عباسي بعنوان: المذهبية المتعصبة هي البدعة، أو التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين، وقد شرح المؤلف ما يدعون إليه، وقرره في أكثر من خمسمائة صفحة، وبين أنهم لا ينكرون التقليد على العامة، ولا يطالبونهم بالاجتهاد، وإنما يطلبون الاجتهاد من المشايخ، يقول:(إن موضوع دعوتنا عن الاجتهاد والتقليد بالدرجة الأولى الذين يدعون العلم الآن علماء الدين والمشايخ)(2)
ويحصر الخلاف أيضا بقوله في التقليد: (إنه لا ضرورة لا محيص عنها، وقد أقرها الإسلام بشروط، منها ألا يكون المقلد مستطيعا للاجتهاد أو الاتباع، ومنها: ألا يكون يقلد رأيا بلغه مصادمته للكتاب والسنة، ومنها: ألا يلتزم تقليد مذهب إمام معين، وإنما يقلد من اتفق). اهـ (3)
(1) اللامذهبية (34 - 38).
(2)
المذهبية للعباسي (117)
(3)
المذهبية للعباسي (328)
ويزيد الكاتب المسألة قربا من الفريق الآخر حين ينقل في ملحق الكتاب عن الشيخ الألباني رحمه الله قوله: (إن الواجب على الناس في زماننا هذا أن يبدؤوا بتعلم الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ويدرسوا الدين من كتبها، ثم يتدرجوا في طريق العلم الصحيح بأن يختاروا كتابا من كتب مذاهبهم، ككتاب المجموع للنووي عند الشافعية وكتاب فتح القدير عند الحنفية، وغيرها من الكتب التي تبين الأدلة وتشرح طريقة الاستنباط، ثم يتركوا كل قول ظهر لهم ضعف دليله وخطأ استنباطه، ثم يتدرجوا خطوة ثالثة بأن ينظروا في كتب المذاهب الأخرى التي تناقش الأدلة أيضا وتبين طريق الاحتجاج بها ويأخذوا من هذه الكتب ما ظهر لهم صحته وصوابه وهكذا). اهـ (1)
ثم يضيف الكاتب إلى هذا الكلام بعد فقرة: (بأن هذا لا يجوز إلا لمن لم يتوفر له الجو العلمي الصحيح القائم على دراسة الفقه من الكتاب والسنة، وأما من توفر له هذا المناخ الصحي العلمي المناسب، كسلفيي دمشق فلا حاجة لهم إلى ذلك، كما أنه لا بد من بيان أن ما أجزناه من دراسة الفقه عن طريق أحد المذاهب إنما جاز
(1) ملحق المذهبية للعباسي (112)
بوصفه مرحلة مؤقتة وفترة انتقالية). اهـ (1)
ثالثا: أستطيع القول بعد أن استعرضت نماذج من كتابات الفريقين اللذين يدور بينهما الصراع في هذه المسألة في العصر الحاضر إن الخلاف في المسألة يكاد ينحصر في تقليد المعين، حيث ينكره دعاة اللامذهبية، ويقول المذهبيون بجوازه بالإضافة إلى مسائل جزئية كالخلاف في مرتبة الاتباع وطلب الدليل من المفتي، ولعلي أعرض لبعضها في آخر البحث.
أما طلب اللامذهبيين الاجتهاد من المشايخ والمفتين، فلا أرى أنها مسألة خلاف من حيث التنظير، فإن المذهبيين يطالبون المفتي إذا تبين له خطأ مسألة أو مخالفتها لنص أو قياس أو قاعدة، أن يتبع الصواب فيها، ولا يعني هذا أن عليهم نبذ المذاهب وكتبها وترك قراءتها لأنها تراث الأمة وإرثها، وإنما يقرأ العالم أو طالب العلم هذه الكتب ببصيرة، فما كان حقا أخذه، وما كان خطأ بين خطأه.
ولا أظن أن اللامذهبيين يخالفون في هذا القدر كما مر في كلام الشيخ الألباني رحمه الله، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى
(1) الملحق لكتاب المذهبية للعباسي (113)، وانظر أصل الكتاب (62)