الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المالك، فإذا نوى بها التجارة بعد نيته الاقتناء أو الاستغلال فإنها تكون للتجارة، وتجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهذه المسألة في حقيقتها فرع عن القول باعتبار النية بمجردها، فمن قال: إن النية كافية لإيجاب الزكاة في العروض، قال بوجوب الزكاة هنا، ومن اشترط مع النية التصرف والعمل حتى يكون العرض تجاريا لم يقل بالوجوب، وستأتي هذه المسألة مفصلة إن شاء الله (1)
(1) في المطلب الثاني ص227.
المسألة الرابعة: التحايل لإسقاط الزكاة مع نية التجارة
.
مع ذكر كثير من أهل العلم تحريم الحيل المسقطة للزكاة، إلا أنهم اختلفوا في ترتب الأثر على هذا الفعل المحرم، بمعنى هل هذا الفعل يسقط الزكاة أو لا؟
وقبل ذكر الخلاف هذا توضيح لمحل النزاع: قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق (1)
وبهذا يعلم أن الخلاف إنما هو فيمن تصرف في ماله، أو غير نيته
(1) تفسير القرطبي 9/ 236.
لقصد إسقاط الزكاة لا لقصد آخر، وكان ذلك قبل حولان الحول.
اختلف أهل العلم فيمن تحيل لإسقاط الزكاة بأي نوع من أنواع الحيل وذلك كمن غير نية التجارة في الأرض، أو باعها قبل الحول، أو أكثر من شراء الأراضي فرارا من الزكاة، هل يعامل ذلك المتحيل أو الفار من الزكاة بنقيض قصده فتجب عليه الزكاة أو لا؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن الزكاة تسقط بالتصرف في المال قبل الحول، ولو كان ذلك لقصد الفرار من الزكاة، وهذا هو قول الحنفية (1) والشافعية (2) وهو رواية عند الحنابلة (3) وهو قول الظاهرية (4)
(1) الفتاوى الهندية 6/ 392. غمز عيون البصائر 1/ 454.
(2)
حلية العلماء 3/ 22، روضة الطالبين 2/ 190، المجموع 5/ 453. شرح البهجة 2/ 165.
(3)
الفروع 3/ 336، الإنصاف 3/ 32.
(4)
المحلى 4/ 207.
أدلة هذا القول:
أولا: أنه فات شرط وجوب الزكاة وهو الحول. فلا فرق بين أن يكون على وجه يعذر فيه أو لا يعذر كما لو أتلفه قبل الحول لحاجته (1)
وأجيب عن هذا بأمور:
1 -
بالفرق بين من له عذر ومن ليس له عذر، ومن أتلف المال لحاجته، ومن فر من الزكاة، فإن من أتلف المال لحاجته لم يقصد قصدا فاسدا، بخلاف الفار من الزكاة فإن قصده فاسد خبيث (2)
2 -
أن من فوت شرط الوجوب وهو الحول فرارا من الزكاة مخادع لله في الحقيقة، لا يريد أداء الزكاة، ولو فعل ذلك كل حول لم تجب عليه زكاة أبدا (3)
3 -
أن تفويت شرط الوجوب فرارا من الزكاة مع أنه خداع لله
(1) المغني 4/ 137.
(2)
المغني 4/ 137.
(3)
إعلام الموقعين 3/ 195، 196.
رب العالمين، فهو أيضا هوس لا حقيقة له (1) قال ابن القيم:"فيا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله، ومكر بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعدها للتجارة، فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية وهو يعلم قطعا أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءها، وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من يقول بلسانه: أعددتها للقنية وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟ "(2)
ثانيا: أن الفرار من الزكاة امتناع عن الوجوب، لا إسقاط للواجب (3)
وأجيب عن هذا: بأن الأمر في كلا الحالين واحد، قال ابن تيمية: "لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له، وكلاهما في
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 6/ 119.
(2)
إعلام الموقعين 3/ 195، 196.
(3)
عمدة القاري 14/ 111.
الحقيقة واحد" (1)
القول الثاني: أن الزكاة لا تسقط بالحيلة، بل هي واجبة في ذمة المتحيل، في قيمة هذه الأراضي، وهذا قول المالكية (2) وهو الذي عليه جماهير الحنابلة (3) واختاره جمع من المحققين (4) كما قواه بعض محققي الشافعية (5)
وقد شرط جماعة من فقهاء الحنابلة: أن يكون ذلك عند قرب وجوبها؛ لأنه مظنة قصد الفرار، بخلاف ما لو كان في أول الحول أو وسطه؛ لأنها بعيدة أو منتفية، وحدده بعضهم: بما قبل الحول بيومين، وقيل: أو بشهرين لا أزيد، والمذهب أنه إذا فعل ذلك فرارا منها أنها لا تسقط مطلقا أطلقه أحمد (6) وحدده بعض المالكية بشهر ونحوه (7)
وقد دل لهذا القول عدة أدلة منها:
أولا: استدل جماعة من الفقهاء بقوله سبحانه:
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 6/ 119.
(2)
المدونة 1/ 363، المنتقى شرح الموطأ 2/ 142، مواهب الجليل 2/ 322، حاشية الدسوقي 1/ 476.
(3)
الفروع 2/ 264، 265، الإنصاف 3/ 32، الروض المربع 3/ 363.
(4)
الفتاوى الكبرى الفقهية 6/ 119، إعلام الموقعين 3/ 194، الفروع 2/ 264.
(5)
فتح الباري 12/ 333.
(6)
المبدع 2/ 305.
(7)
تفسير القرطبي 9/ 236.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (1){وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (2){فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (3){فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (4)، فإن الله تعالى عاقبهم بذلك، لفرارهم من الصدقة (5)
ثانيا: حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات (6)» فهو حجة واضحة على إسقاط الحيل المحرمة، وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها (7)
ثالثا: حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة (8)»
فهذا الحديث فيه النهي الصريح عن إسقاط الزكاة بالحيلة، وما نهى عنه الشارع فهو ملغى باطل (9)
ولذلك قال الشاطبي: "وأما مع القصد (يعني قصد رفع حكم السبب وهو حولان الحول) إلى ذلك فهو معنى غير معتبر؛ لأن
(1) سورة القلم الآية 17
(2)
سورة القلم الآية 18
(3)
سورة القلم الآية 19
(4)
سورة القلم الآية 20
(5)
المغني 4/ 137، المبدع 2/ 305.
(6)
أخرجه البخاري في مواضع، فهو الحديث الأول في الصحيح في باب بدء الوحي 1/ 3، ومسلم في باب قوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنية) الخ 3/ 1515 رقم (1907).
(7)
طرح التثريب 2/ 21، 22.
(8)
أخرجه البخاري في الزكاة باب لا يجمع بين متفرق. . . . 2/ 526 رقم (1382) وفي كتاب الحيل باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع 6/ 2551 (6555).
(9)
المنتقى شرح الموطأ 2/ 142.
الشرع شهد له بالإلغاء على القطع، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها، فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين، فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه، كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرط يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج" (1)
رابعا: أن من أتى بسبب يسقط الواجبات على وجه محرم، وكان مما تدعو النفوس إليه، ألغي ذلك السبب وصار وجوده كالعدم، ولم يترتب عليه أحكامه، وهذه قاعدة فقهية، ذكرها ابن رجب في قواعده، وقال:"ويتخرج على ذلك مسائل كثيرة": منها الفار من الزكاة قبل تمام الحول، بتنقيص النصاب، أو إخراجه عن ملكه، تجب عليه الزكاة، ولو صرف أكثر أمواله في ملك ما لا زكاة فيه كالعقار والحلي، فهل ينزل منزلة الفار؟ على وجهين (2) ولذلك احتج جماعة من الفقهاء على
(1) الموافقات 1/ 279.
(2)
قواعد ابن رجب ص 230، 231.
الفار من الزكاة بنصب اليهود الشبك يوم الجمعة وأخذوا يوم الأحد ما سقط فيها وأنه شرع لنا (1)
خامسا: أن الفار من الزكاة قصد قطع حق من انعقد سبب استحقاقه، فلم تسقط عنه الزكاة، كما لو طلق امرأته في مرض موته (2)
وقد أجيب عن هذا: بالفرق بين الفرار هنا والفرار بطلاق المرأة بائنا في مرض الموت؟ وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الحق في الإرث لمعين، فاحتيط له بخلاف الزكاة.
والثاني: أن الزكاة مبنية على الرفق والمساهلة، وتسقط بأشياء كثيرة للرفق، كالعلف في بعض الحول، والعمل عليها، وغير ذلك بخلاف الإرث (3)
ويمكن أن يناقش هذا: بأن كون الزكاة لغير معين، أو أن مبناها على المساهلة، لا يعني سقوطها بالتحايل، فإن الحرام أو الضرر ممنوع إحداثه على المعين وغيره.
سادسا: أن فعل هذه الحيل يؤدي إلى إلحاق الضرر بالفقراء (4)
سابعا: أن الفار من الزكاة لما قصد قصدا فاسدا، اقتضت
(1) الفروع 3/ 408.
(2)
المغني 4/ 137، الكافي 1/ 284، المبدع 2/ 305.
(3)
المجموع 5/ 453.
(4)
الفتاوى الهندية 6/ 392.
الحكمة معاقبته بنقيض قصده (1) يقول ابن القيم: "قد استقرت سنة الله في خلقه شرعا وقدرا على معاقبة العبد بنقيض قصده، كما حرم القاتل الميراث، وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفار من الزكاة لا يسقطها عنه فراره، ولا يعان على قصده الباطل، فيتم مقصوده ويسقط مقصود الرب تعالى، وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه، ويبطل غرض الشارع"(2)
الراجح في المسألة: بعد النظر في هذه المسألة وأدلتها، يتبين رجحان القول الثاني وهو عدم سقوط الزكاة بالحيلة، وذلك لقوة الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول، ولضعف أدلة القول الآخر، خاصة إذا قلنا: إن الفار من الزكاة مؤاخذ بعمله هذا في الباطن، وأنه مطالب فيما بينه وبين الله تعالى، وهذا ما ذكره أكثر الفقهاء حتى من الذين قالوا تسقط عنه الزكاة في الظاهر (3)
فعلى هذا القول الراجح تجب الزكاة في الأرض التجارية التي يتحايل أصحابها ببيعها قبل الحول، أو يتحايلون بتغيير النية من التجارة إلى غيرها، على أنه لو كان عند الإنسان أرض تجارية وباعها قبل الحول بنقد، أو كان عنده نقد واشترى به قبل حوله أرضا يريد بيعها
(1) المغني 4/ 137.
(2)
إعلام الموقعين 3/ 194.
(3)
المنثور في القواعد 2/ 68.
فرارا من الزكاة، فإن الزكاة واجبة عليه عند رأس الحول للمال الأول، كما لو اشترى بنقد عروض تجارة، أو باع العروض بعرض أو بنقد، وقد صرح بهذا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة