الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكل هذه المسائل إنما تجب فيها الزكاة إذا حال الحول على هذه الأراضي من حين نواها للتجارة، وقد ذكر أكثر الفقهاء أن حول التجارة ينقطع بموت المورث عن مال التجارة، وخالف في ذلك البلقيني من الشافعية، فقال بعدم انقطاع حول الأموال التجارية بموت المورث، إذا نوى الوارث التجارة
لكن خلافه هذا ضعيف؛ وذلك لأن الزكاة كما لها تعلق بالمال فلها أيضا تعلق بالذمة، وقد اختلفت ذمة المزكي.
المبحث الرابع: أحوال سقوط الزكاة عن الأرض التجارية:
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: سقوط الزكاة في حال كساد الأرض التجارية
.
المطلب الثاني: سقوط الزكاة في حال تعثر المساهمات العقارية.
المطلب الأول: سقوط الزكاة في حال كساد الأرض التجارية:
تعتبر مسألة كساد الأراضي من المسائل كثيرة الوقوع في هذا
العصر، لا سيما في بعض المجتمعات التي استمر فيها هبوط قيمة النقود الورقية، ولم يبق أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يطول هذا التربص حتى ربما وصل إلى عشرات السنين، والأرض في تلك الفترة تنقص قيمتها ولا تزيد، لعدم رغبة الناس في شرائها بسبب موقعها أو نحو ذلك، بل قد لا تساوي شيئا ذا بال بالنسبة لقيمتها في السابق، وهذا الوضع هو ما يعبر عنه اصطلاحا ببوار السلع أو كسادها.
بل قد يقع الكساد في المشروعات أو الشركات العقارية الكبيرة، وتبقى إدارة الشركة تتربص بالبيع زمن ارتفاع الأسعار.
هذه المسألة - فيما أحسب - من المسائل المهمة، وقد اختلفت آراء الفقهاء المعاصرين حول الزكاة في هذه الأراضي، هل تجب فيها الزكاة كل حول زمن التربص والانتظار، مع وجود الخسارة الكبيرة في قيمتها، أو لا تجب إلا إذا باعها زكاها لسنة واحدة؟
وفي نظري أنه لا بد قبل بيان حكم هذه المسألة من بيان مفهوم الكساد في الأراضي، والمدة التي تعتبر فيها الأرض التجارية كاسدة.
أما مفهوم الكساد الاصطلاحي عند أهل العلم فلا أظنه يخرج عن مفهومه اللغوي.
قال ابن منظور: "الكساد خلاف النفاق، ونقيضه، والفعل
يكسد، وسوق كاسدة بائرة" (1)
وقال في بيان معنى البوار: "البوار: الكساد، وبارت السوق وبارت البياعات إذا كسدت، ومن هذا قيل: نعوذ بالله من بوار الأيم، أي كسادها، وهو أن تبقى المرأة في بيتها لا يخطبها خاطب، من بارت السوق إذا كسدت، والأيم التي لا زوج لها، وهي مع ذلك لا يرغب فيها أحد"(2)
ومن هنا يتبين أن معنى الكساد أو البوار هو: بقاء السلعة مدة زمنية غير مرغوب فيها إلا بقيمة زهيدة، لا تساوي قيمتها الحقيقة، وهو بهذا يختلف عن مفهوم الرخص الذي هو ضد الغلاء (3)
وعلى هذا فالكساد نوع من أنواع الخسارة التجارية، لكنها خسارة تمتد مدة زمنية يطلق بعدها على تلك السلعة هذا الاسم، ولذلك ذكر الفقهاء والاقتصاديون تقديرا زمنيا للحكم بالكساد أو البوار في السلع.
أما المدة التي يحكم فيها بأن هذه الأرض كاسدة أو بائرة، فمن خلال النظر في أقوال أهل العلم الذين ذكروا أن للكساد أثرا على العروض التجارية، يظهر أنهم قد ذكروا لذلك ضابطين:
(1) لسان العرب 3/ 380.
(2)
لسان العرب 4/ 86.
(3)
مختار الصحاح 1/ 101، لسان العرب 7/ 40.
الضابط الأول: تحديد مدة البوار أو الكساد بعامين.
قال سحنون من فقهاء المالكية: إن بار عامين بطل فيه حكم الإدارة (1)
ووجه ذلك: أن العام الواحد مدة للتنمية والتحريك، فإذا اتصل بذلك عام آخر ثبت بواره وحكم ببطلان حكم التجارة فيه (2)
الضابط الثاني: الرجوع إلى العادة أو العرف في تحديد مدة البوار والكساد.
وقد ذكر ذلك ابن الماجشون من علماء المالكية (3)
وهذا القول هو المتجه، وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة، فإن عرف الناس هو المرجع في كل ما لم يأت الشرع بتحديده، وذلك في مسائل كثيرة في الشريعة.
لكن لا بد أن يكون تقدير ذلك راجعا إلى أهل المعرفة والاختصاص فلكل سلعة ما يناسبها من الوقت لترويجها وبيعها، والحكم بكسادها وبوارها، لذا يتعين أن يكون المرجع في كساد الأراضي إلى عرف العقاريين.
أما التحديد بعامين فهو وإن كان مقبولا في بعض السلع للعلة
(1) المنتقى شرح الموطأ 2/ 125، التاج والإكليل 3/ 189.
(2)
المنتقى شرح الموطأ 2/ 125.
(3)
المنتقى شرح الموطأ 2/ 125، التاج والإكليل 3/ 189.
المذكورة إلا أنه قد لا يكون مقبولا في سلع أخرى كالأراضي، لذا كان تحديد ذلك بالعرف هو المتعين.
وعلى هذا فالأراضي الكاسدة: هي تلك التي بقيت مدة طويلة - في تقدير أهل الاختصاص - لا يرغب بشرائها إلا بقيم زهيدة لا تساوي قيمتها الحقيقية.
والناظر في كتب أكثر العلماء المتقدمين من الفقهاء وغيرهم لا يجد لهذه المسألة ذكرا؛ لأن الحكم للكساد في العروض التجارية عند أكثر الفقهاء لا يختلف عن غيره، فالزكاة واجبة في عروض التجارة مطلقا، سواء ربحت أم خسرت.
وإنما تطرق لهذه المسألة فقهاء المالكية فقط، وفي مذهبهم رأيان متقابلان، وقد وقف المعاصرون من الفقهاء إزاء هذا الخلاف المالكي في كتاباتهم وفتاواهم موقفين، هما قولان في هذه المسألة، وهذا عرض لهما:
القول الأول: أن الكساد في السلع ينقلها من حكم الإدارة إلى حكم الاحتكار (التربص)، فلا تجب فيها الزكاة إلا مرة واحدة بعد بيعها، وذهب إلى هذا القول من فقهاء المالكية ابن الماجشون، وتبعه عليه سحنون، وهو خلاف المشهور عن مالك (1)
(1) المنتقى شرح الموطأ 2/ 125، التاج والإكليل 3/ 189، شرح الخرشي 2/ 198.
وعلى هذا القول فالأراضي الكاسدة عند تجار العقار لا تجب فيها الزكاة إلا بعد بيعها، تزكى زكاة عام واحد، وهذا القول اختاره ومال إليه جماعة من الفقهاء المعاصرين منهم الشيخ مصطفى الزرقاء (1) والشيخ يوسف القرضاوي (2) وغيرهم.
أدلة هذا القول:
أولا: أن العروض ليست من جنس ما تجب فيه الزكاة، وإنما تجب الزكاة في قيمته مع تعبيره بالتجارة، فإذا بقي ولم ينتقل بالتجارة رجع إلى حكم الادخار الذي هو أصله (3)
ومعنى هذا الاستدلال: قياس حالة الكساد في الأراضي وغيرها من السلع على تحويل النية من التجارة إلى الاقتناء والادخار، وقد نص الفقهاء على أن التاجر إذا أفرز بعض أمواله ليأخده إلى بيته لاستعمال فيه، فإن زكاته تتوقف منذ ذلك، وحالة التربص - خلال مدة التربص - تشبه هذه ما دام المتربص لا يريد بيع المال المتربص فيه، بل تركه بمعزل عن التداول إلى أجل غير محدد (4)
وهذا الاستدلال يمكن أن يجاب عنه بما ذكره بعض المالكية:
(1) فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.
(2)
فقه الزكاة 1/ 335.
(3)
المنتقى شرح الموطأ 2/ 125.
(4)
فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136
فقد ذكروا: أن العروض من الأراضي وغيرها مدة الكساد مال قد ثبت له حكم الإدارة بالنية والعمل، فلا يخرج عنها إلا بالنية، أو بالنية والعمل، وليس بوار العرض من نية الادخار ولا من عمله؛ لأنه كل يوم يعرضه للبيع ولا ينتظر به سوق نفاق (1)
ومعنى هذا: أن التاجر مدة الانتظار لم يغير نيته التجارية في هذه الأراضي، بل هي مرصدة للبيع، لكنه لا يريد البيع إلا بالسعر المناسب له، فلو وجد سعرا مناسبا فإنه سيبيع في أقرب فرصة، وهذا يدل على أنه قد أرصده للبيع وأعده له.
على أن انتظار السوق والتربص بالسلع واحتكارها ليس مسقطا للزكاة في العروض من الأراضي وغيرها، إلا على قول عند المالكية، وسيأتي بيان ضعفه، وأنه مخالف لدلالة النصوص العامة، كما أنه مخالف لدلالة العقل والمصلحة.
بل ذكر بعض فقهاء المالكية فرقا بين الاحتكار والبوار، قال الخرشي:"والفرق بين الاحتكار والبوار، وإن كان في كل منهما انتظار السوق، هو أن المنتظر في الاحتكار الربح الذي له بال، وفي البوار ربح ما، أو بيع بلا خسارة"(2)
(1) المنتقى شرح الموطأ 2/ 125.
(2)
الخرشي 2/ 198.
ثانيا: أن المال في هذه الفترة خرج من نطاق التجارة التي تنميه، والزكاة إنما هي في المال النامي فعلا أو تقديرا كالنقود، والمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا بأمور:
1 -
أنه وإن كانت الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية فعلا أو تقديرا، فإن هذا لا يعني أنها لا بد أن تنمو فعلا وتربح، فالتجارة كما هو معلوم معرضة للربح والخسارة، فما دام أن للعروض قيمة سوقية حقيقية، ويمكن أن تباع وتشترى، فالزكاة واجبة فيها؛ لأن الزكاة تجب في المال النامي وما له حكم النماء، سواء نمي بالفعل أم لا، وسواء ربح أم خسر.
2 -
أن قياس السلعة التجارية من الأراضي وغيرها في حالة الكساد على الديون غير المرجوة قياس بعيد، إذ إن الفرق ظاهر بين المقيس والمقيس عليه، فصاحب الأرض وغيرها من العروض وقت الكساد يستطيع البيع، ويمكنه تحصيل المقابل لهذه السلعة، أما في حال الدين غير المرجو فإنه لا يمكنه الوصول إلى ما بيد المدين، فهو في الحقيقة غير تام الملك، على أن مسألة زكاة الدين مسألة خلافية قد لا يسلم
(1) فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.
الخصم بسقوط الزكاة فيه، فلا يستقيم القياس حينئذ، حيث إن القياس لا يصح إلا على أصل متفق عليه.
ثالثا: أن في هذا الرأي وضعا للضرر البالغ عن التاجر المتربص، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ثم تبقى عدة سنوات وهي لم تأت بقيمتها المرجوة، ففي هذا القول عدل، كما أن فيه تيسيرا على المكلف، ودفعا للإرهاق عنه (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن العدل في تتبع نصوص الشريعة، وقد أوجب الشارع على أرباب الأموال الزكاة في عروض التجارة سواء ربحت أو خسرت، وربما كانت الزكاة سببا في حصول البركة للتاجر، وسببا في زيادة الأرباح، بل ذلك مؤكد بنص الشارع فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما نقصت صدقة من مال (2)»
قال أهل العلم في معنى الحديث أي: "ما نقصت الصدقة شيئا من مال في الدنيا بالبركة فيه، ودفع المفسدات عنه، والإخلاف عليه بما هو أجدى وأنفع وأكثر وأطيب، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (3)
(1) فقه الزكاة د/ القرضاوي 1/ 335، فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.
(2)
أخرجه مسلم في باب استحباب العفو والتواضع 4/ 2001 رقم (2588).
(3)
سورة سبأ الآية 39
أو في الآخرة بإجزال الأجر وتضعيفه، أو فيهما، وذلك جابر لأصناف ذلك النقص" (1)
أما التيسير ورفع الحرج والضرر فهذا باب واسع، لا ينبغي التساهل فيه خاصة في واجبات الدين وأركانه الثابتة، ما لم يوجد ما يدل على هذا التيسير من دلالات النصوص الخاصة، أو المصالح المتيقنة.
ثم إن التاجر يمكنه أن يتفادى الضرر بتقليب تجارته، وتحريكها وعدم احتكارها، وفي هذا مصلحة له، قد تفوق مصلحة انتظار السعر الذي يريده منها فقط، كما أن فيه مصلحة للمستهلكين، ووضعا للضرر عن عموم الناس الذين يتمكنون من شراء العقار بأسعار مناسبة دون غلاء فاحش.
وبهذا يعلم أن هذا الاستدلال قد راعى جانب الأغنياء المزكين فقط، وترك جانب الفقراء الذين لهم حق في الزكاة، كما أنه ترك جانب مصلحة العموم من أصحاب الحاجات إلى شراء العقار، ومصلحة اقتصاد الناس في تحريك هذه الأراضي وعدم ركودها، أو بقائها السنوات الطويلة بيضاء دون استفادة منها.
القول الثاني: أن الكساد أو البوار في السلع التجارية لا يغير من حكمها شيئا، ولا ينقلها عن حكم التجارة، بل تجب فيها الزكاة كل
(1) فيض القدير للمناوي 5/ 503، الديباج على مسلم 5/ 522.
حول سواء ربحت أو خسرت، وهذا القول هو المشهور عند فقهاء المالكية وقالوا:"لا ينقلها بورانها إلى حكم القنية، ولا إلى حكم الاحتكار، بل تبقى على إدارتها"(1)
وهذا القول هو مقتضى مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة
وذهب إليه جماعة من المعاصرين منهم الشيخ ابن باز (2) وابن عثيمين (3) وغيرهما.
أدلة هذا القول:
أولا: عموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ما دامت معدة للبيع، ومن ذلك حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه المتقدم «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (4)» فهذا الحديث وشواهده الكثيرة الدالة على وجوب زكاة العروض قد
(1) شرح الخرشي 2/ 198.
(2)
مجموع فتاوى ابن باز 14/ 162، 163.
(3)
فتاوى أحكام الزكاة ص 225.
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2/ 95 رقم (1562)، والطبراني في الكبير 7/ 253 رقم (7029)، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2/ 127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4/ 146 رقم (7388)، وابن حزم في المحلى 5/ 234، وابن عبد البر في التمهيد 17/ 130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1 - فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق - في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله - يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه - قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب:(ليس بالقوي). ينظر الأحكام الوسطى 2/ 171، بيان الوهم لابن القطان 5/ 139، ميزان الاعتدال 1/ 407، تهذيب التهذيب 2/ 80، التقريب (941). 2 - خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب:(مجهول). ينظر تهذيب التهذيب 3/ 116، تقريب التهذيب (1700). 3 - سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب:(مقبول). ينظر تهذيب التهذيب 4/ 173، تقريب التهذيب (2569). فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي - كما في الميزان 1/ 408 - لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد:(وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم)، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2/ 179:(في إسناده جهالة)، وقال في البلوغ (ص: 112): بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3/ 69، وقال الألباني في الإرواء 3/ 310:(ضعيف). وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي:(وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6/ 40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده). أضواء البيان 2/ 137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 439 - 444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها:(فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)
أوجبت الزكاة على أرباب الأموال التجارية من غير تفريق بين من ربح أو خسر في تجارته، ومن غير تفريق بين زمن الرخص والغلاء في السلع
ثانيا: أن الحكم بوجوب الزكاة في الأموال التجارية قد ثبت - عند أكثر الفقهاء - بشرطين هما النية والعمل، فلا يمكن أن يسقط هذا الوجوب إلا بتخلف النية والعمل، أو تخلف النية، والتاجر الذي خسر في تجارته أو كسدت لم يغير نية الرغبة في البيع إلى شيء آخر كالاقتناء أو الاستغلال أو نحو ذلك.
وفي عرض هذا الدليل قال الباجي: "ووجه قول مالك: أن هذا مال قد ثبت له حكم الإدارة بالنية والعمل، فلا يخرج عنها إلا بالنية، أو بالنية والعمل، وليس بوار العرض من نية الادخار ولا من عمله؛ لأنه كل يوم يعرضه للبيع ولا ينتظر به سوق نفاق"(1)
ويقول الدسوقي: "الحكم للنية، لأنه لو وجد مشتريا لباع"(2)
ثالثا: قياس كساد العروض على كساد النقود، فإن الزكاة واجبة في النقد سواء غلا أو رخص ما دام له قيمة، وكذلك الحكم في
(1) الفواكه الدواني 1/ 332
(2)
حاشية الدسوقي 1/ 475.
العروض من الأراضي وغيرها، فإنها تجب فيها الزكاة بحسب قيمتها كل حول غلاء ورخصا.
رابعا: أن في هذا القول مراعاة لمقاصد الشريعة والمصالح العامة، ولعل من المناسب أن أذكر طرفا من تلك المصالح على سبيل الإيجاز (1)
1 -
مراعاة مصلحة الفقراء وحظهم في الزكاة، وقد ذكر الفقهاء عند ترجيحهم في مسائل الخلاف التي تدور حول سقوط الزكاة أن من أسباب رجحان بعض الأقوال أن فيها مراعاة الأحظ للفقراء، وكذلك ذكر بعض الفقهاء هنا أن في إيجاب الزكاة زمن الكساد احتياطا للزكاة (2)
2 -
مصلحة عامة الناس، وذلك أن التاجر عندما يعلم بوجوب الزكاة عليه في هذه الأرض فإنه سيفكر بالبيع ولو بالرخص، ولو تأملنا واقع الغلاء في الأراضي لوجدنا أن من أبرز أسبابه احتكار التاجر للأراضي الخام، وتربصه غلاء الأسعار لمدة سنوات غالبا، وإدراك التاجر أن الزكاة واجبة في هذه الأرض الكاسدة، يحفزه نحو البيع، وبهذا
(1) ينظر بعض ذلك في بحث: زكاة المساهمات العقارية المتعثرة، د القاسم.
(2)
التاج والإكليل 3/ 189.
ينتفع الناس برخص الأراضي.
3 -
مراعاة مصلحة التاجر، وذلك بتشغيله المال في استثمارات أخرى أكثر نفعا من هذه العروض الكاسدة، وفي ذلك تحفيز له على تحسين وضع تجارته، وتنشيط لها، ومن هنا ندرك السر في إيجاب الشارع الحكيم الزكاة في مال اليتيم؛ لما له من أثر في تحريك ماله، وتنشيط تجارته.
4 -
مراعاة الجوانب الاقتصادية في البلاد، وتنشيط التجارة فيها، بتحريك سوق الأراضي بتداولها وبيعها، ووضع الاستثمارات والعمران فيها، بدلا من بقائها بيضاء السنوات الطويلة.
الراجح في المسألة:
بعد عرض هذين القولين يتبين بجلاء رجحان القول بعدم اعتبار الكساد أو البوار مسقطا لوجوب الزكاة في العروض التجارية ومنها الأراضي، وذلك لأن القول باعتبار الكساد مسقطا للزكاة قول لم يستند إلى أدلة معتبرة لا شرعية ولا عقلية، بل غاية ما فيه مراعاة حال التاجر أو الغني المزكي، ومن بعض الجهات الظاهرة فقط، وهذا معارض بمصالح كثيرة للمزكي والفقير وعموم الناس، وقد سبق ذكر طرف منها في الاستدلال.